الجمعة، 13 أبريل 2012

التقرير 5: خلايا دبابيرَ ورقيَّة في الناحية الجنوبيَّة للجُنينة البروتيَّة

خلايا الدبابير الجنوبيَّة في الأوزاعي
اعتادت الشركةُ الإسرائيليَّة للسَّيطرة على الآفات الزراعيَّة القيامَ بعمليَّات رشٍّ محدودةٍ لأوكار الدَّبابير الخُضر جنوبَ الحديقة اللبنانيَّة، في البريَّة المُتاخمة لأرض البرتُقال الفلسطينيَّة المُستغَلَّة. وذلك استباقاً، كما يُعلن مُديرُها إيتانُ دائماً، لهَجمات تلك الدَّبابير على أكواخ قطَّافي البُرتُقال اليهود.
خلال عمليَّاتِ الإبادة هذه كان يُصابُ بالسُّموم الحشَريَّة الكثيرُ من الجنوبيِّينَ الذين آوَوا الدَّبابيرَ الفلسطينيَّة تبني أوكارَها في تِلالهم وكُرومِهم وحتَّى في سُقوف بيوتهم- بالرغم من لَسعِها أبناءهُم وبناتهم في أحيانٍ كثيرةٍ مُتزايدة. فمِنهم مَن يموتُ، ومِنهم مَن يَنزِحُ، ومنهم مَن يصمُد للإبادة الإسرائيليَّة باكتسابِ مناعةٍ تعِزُّ على الأفهام.
 
أمَّا النازِحونَ من البريَّة الجنوبيَّة فكان مألوفاً مشهدُ طوابيرِهم الزاحفة، وأسرابِهم الطائرةِ إلى الناحية الجنوبيَّة للجُنينة البيروتيَّة.
في زيارةٍ لي إلى مَسمكةٍ بجانب مسجد الإمام الأَوزاعيِّ- عُرِفَ عن صاحبها إهمالُه سمكاتِه المعروضة يَمرحُ عليها الذُّباب-  كنتُ أراقبُ تلك الحشراتِ وهي تحتفِرُ لها جُحوراً بالأرض المَشاع حولَ مسجد الإمام الأوزاعيِّ: خنافسُ سوداء تُكتِّل الزِّبل وتُدحرِجُه إلى الحُفر، أبو مِقصٍّ مُنهمِكاً ببناء جُحرٍ له من أوراق الشجر، جرادةٌ تلتهمُ النَّبات الأخضر،..
على أنَّ أكثرَ ما كان يلفِتُ انتباهي إناث الدَّبابير الجنوبيَّة الصَّفراء ناشِطةً في بناء خلاياها بأعلى المِئذنة في حركةٍ دائبةٍ لا تكَلُّ: تقصِدُ إلى الأشجار، فتقضِمُ من لحائها، وتمضغُ الخشبَ اليابس فتمزجُه بلُعابِها حتَّى إذا صار عجينةً ورقيَّةً طارت به لتُلصقَه فوق، بأعلى المئذنة، طبقاتٍ رقيقةً على طبقات. وما مالت الشمسُ نحوَ الغُروب حتَّى انتظمت الخلايا الورقيَّة المُتلاصقة والمُسدَّسة الشكل..
بين الذُّباب على السَّمكات كان ذُبابتانِ سمراوانِ حِجازي وعواضة. قال حِجازي- وهو أكبرُنا سِنَّاً- مُعلِّقاً:
_ يا لَلإنسان الجنُوبيِّ ما أشدَّ حِرمانَه!
تطلَّعتُ إليه مُستفسِراً وهو يسحبُ خرطُومه من عين سَمكة. فواصل يقول بأسًى:
_ من عهدِ ليس بالبعيد عانَى الجنوبيُّون الحَيْوَنَةَ اللبنانيَّة: لا مياه صالحة للشُّرب، ولا كهرباء، ولا مُستشفَيات، ولا مدارس..
فحوَّمَ الذبابةُ عواضةُ مُتحمِّساً. ثم عاد فحطَّ على السَّمكة. وقال مُؤمِّناً على قول زميله:
_ أمسِ كنتُ أطيرُ فوق بركة ماءٍ آسِنٍ في بنت جُبيلٍ تشربُ منها الغنمُ والماعزُ والحمير..
فقاطعه حِجازي مُؤنِّباً:
_ لا تقُل هذا يا عواضة..
فانفعل عواضةُ يقول:
_ أليست الحقيقة العارية؟.. (فسكت حِجازي وهو يمسحُ رأسَه برِجلَيه الأماميَّتين مُتصبِّراً. على حين واصل عواضة روايته).. تناهَى إلينا زعيقُ باشقٍ من الجوِّ. فرفعت الحيواناتُ رؤوسَها، في أملٍ، ناظرةً إلى الأفُق الغربيِّ حيثُ غابَ ذاتَ أصيلٍ النَّسرُ الأسودُ ولمَّا يرجِع!
فقال حِجازي بأسفٍ وهو يمسح جناحَيه برِجلَيه الخلفيَّتين:
_ سعَى النَّسرُ أن يُعيدَ إلينا كرامتَنا الإنسانيَّة، فأسرُوه..
فصاح عواضةُ وهو يُحلِّق طائراً صوبَ الحشرات اللاجئة:ٍ
_ وها هم الجنوبيُّون اليومَ يدخُلون عهدَ التَّحشير الإسرائيليِّ..
وإذا صوتٌ غليظٌ يصيح من الدَّرب التُّرابيَّة أمام المسجد:
_ أيَّتُها الحشرات توقَّفي عن حفر هذه الجُحور.. مَن منحَكِ الحقَّ بذلك؟
ارتدَّ عواضةُ في خوفٍ. فوقع على السَّمكة بجانبنا أنا وحجازي. ونظرنا حيثُ جاء الصوت. وقال حجازي مُتضايقاً:
_ إنَّه رئيسُ حُرَّاس الحديقة اللبنانيَّة!
فرقةٌ من الحُرَّاس بزِيِّهم الرَّماديِّ المُرقَّط ورشَّاشاتهم الحَشَريَّة. يوجِّهون إلى الحشرات اللاجئة وجُوهاً كالحة ومواسيرَ..
_ يا جُبناء!
صاح عواضة بالحُرَّاس. لكنْ جاءهم من أعلى المئذنة طنينُ إناث الدَّبابير تتساءلُ في إنكار:
_ وأين نهرُب من الإبادة الإسرائيليَّة؟ وأين نُؤوي يرقاتنا؟
فأجابَها الرئيسُ وهو يُلوِّحُ نحوها برشَّاشته مُهدِّداً:
_لا شأنَ لي أيَّتُها الدَّبابير أين تذهبين.. إنَّما عليَّ أن أُنفِّذَ أوامرَ الحدائقيِّ جَردان. هيَّا اهدِمي هذه الأوكار، وطِيري من هُنا!
طنَّت الدَّبابيرُ أمام أوكارها هازئةً. فتحمَّسَ حارسٌ. فوضعَ رشَّاشته جانباً. وتناول مِكنسةً ذاتَ عصاً طويلةٍ. ثم ارتقَى درجَ المئذنة حتَّى أطلَّ من شُرفتها. ومَدَّ يدَه بالمكنسة إلى الخلايا التي لمَّا يكتملْ بناؤها. وجعل يضرِبُها- وقد اكتستْ ذراعُه بتلك الحركة بوَبَرٍ مُرقَّطٍ، وأصابعُه انكمَشَتْ واستطالتْ لها مخالبُ مُعقَّفة!
وهاجَت على الحارس إناثُ الدَّبابير الجنوبيَّة تطِنُّ بإلحاحٍ:
_ أيُّها الوحشُ!
_ سَلِ الحدائقيَّ الذي أرسلكم: هل يُسكنُنا في سَقيفة كُوخه ببعبدا؟
_ قُل لجَردانَ أن يرُدَّ عنَّا أوَّلاً سُمومَ الإسرائيليِّين!
وانقسمَ الحُرَّاس على الأرض بين مُشجِّعٍ للوحش يصيح به في وحشيَّة: "اهدِمها"، ومُحذِّرٍ مُشفقٍ يهتف به في إنسانيَّة: "اترُكها وانزِل"..
وإذا بواحدةٍ من الإناث- لعلَّها أكبرُهُنَّ حجماً وأشدُّهُنَّ صُفرةً تُبرِزُ شوكتها السوداء من دُبُرها المُدبَّب.. طنَّ الذبابتانِ حِجازي وعَواضةُ معاً:
_ إنَّها الملكةُ أمُّ عليٍّ!
وتنقضُّ أمُّ عليٍّ على ذراع الحارسِ الغليظة فتلسعُها:
_ آخ!
صرخَ الحارسُ مُتوجِّعاً وأفلتَ المكنسة من يده. فهوَت من عَلٍ حتَّى ارتطمت بالأرض أسفلَ المسجد. ثم احتضنَ يده المُصابة، وتقهقرَ إلى الدَّرج ينزل مُتعثِّراً. بيدَ أنَّ حارساً من زُملائه المُتوحِّشين أخذه الغضبُ من الدبابير. فضغطَ خزَّان رشَّاشته. ثم رفع ماسُورتها، وأطلقَ رشَّةً من المُبيد الحَشَريِّ أصابت إحدى الخلايا بأعلى المئذنة.. وما هي سوى لحظةٍ حتَّى ارتمَى على الأرض يَرقتانِ صغيرتان!
وخرجت أمُّهما تطير هابطةً إليهما حيثُ وقعا- وهي تطِنُّ مُولوِلةً:
_ ولديَّ!
وكان الحارسُ الملسُوع نزل يتأوَّهُ. فتلقَّاهُ زملاؤه. وراحُوا يتصايحُون في جزع:
_ تورَّمتْ يدُه!
_ هاتُوا له ثلجاً..
_ هل أنت مُصابٌ بالحساسية.. قُل!
_ أراهُ يُعاني ضيقاً في التنفُّس!
وترامَى إليهم طنينٌ.. نظروا فإذا سِربٌ من إناث الدبابير يتشكَّل كسحابةٍ سوداء في الجوِّ- حولَ الملكة أمِّ عليٍّ- استعداداً للانقضاض عليهم:
_ يا ويلنا!
وحملوا زميلَهم الملسُوعَ وهو يئنُّ مٌتوجِّعاً. وغادروا الأوزاعيَّ مُتلفِّتينَ خلفَهم في ذُعر.
وجاء النَّملُ يسير كخيطٍ أسودَ على التُّراب. فجرَّ اليرقتينِ المُبادتينِ إلى مُستعمرته في الرَّمل العالي- والأمُّ الثَّكلى تطير وراءهما بتثاقُلٍ وهي ترثيهما بطنينٍ حنُون..
وإذا مِذبَّةٌ من شرائط النَّيلونِ تَهوِي علينا فوقَ السَّمكات- لمحتُها في اللحظة الأخيرة. فطرتُ وتفاديتُها.. حوَّمتُ على يدِ صاحب المَسمكة القابضة على المِذبَّة وأنا أنادي زميليَّ بجَزع:
_ يا حِجازي.. يا عواضة.. أين أنتُما؟
وعاد البائع يُلوِّح عليَّ بمِذبَّته غاضباً. فطرتُ مُبتعداً وعيني تنظُر نحو السمكات..
_ انتبِهْ يا ذبابة!
كدتُ أرتطم بالدَّبابير وهي تطيرُ في الجوِّ مُرافقةً ملكتَها أمِّ عليٍّ.. فبادرتُها باعتذاري وأنا أرسمُ في الجوِّ حركةَ خضوعٍ حشريَّة:
_ العفوَ يا جلالةَ الملكة!
نظرتْ إليَّ أمُّ عليٍّ بعيُونها الجاحظة الكثيرة في رأسها المُثلَّث الأصفر- مُحرِّكةً قرنَي استشعارِها الذكيَّان. فخُيِّل إليَّ أنَّها ابتسمت لي بفكَّيها الحادَّين المُخيفَين. ثم تجاوزتني وأنا مشدُوهٌ- مُستأنفةً طيرانَها حولَ المسجد- يتبعُها نفرٌ من ذُكور الدَّبابير الصُّفر الضامِري الخصُور- بجولةٍ استكشافيَّةٍ على الأرجح في مملكتها الجديدة حتَّى اطمأنَّت وعادت إلى الخلايا المُسدَّسة تضعُ فيها بيُوضَها وصوتُ آذانِ المَغرب يرتفعُ هاتفاً:
_ ألله أكبر!

                 الذبابة روبرت فسك
             مراسل صحيفة الأزمنة
             من زمن التَّحشير
 كان هذا التقرير 5 من روايتي "الذبابة روبرت فسك". يليه قريباً التقرير 6: عِراكُ الصِّبيان على لبنان 

هناك تعليقان (2):

  1. شركة مكافحة النمل الابيض بمكة
    ان النمل الابيض من فئة الصراصير حيث انه يتغذى على الخشب و يلحق العديد من الضرار للخشب و الاقمشة كما انه يصعب التخلص منه لذلك عليك التواصل مع شركة مكافحة النمل الابيض بمكة تستخدم افضل السموم و المبيدات للتخلص من النمل الابيض بشكل نهائى كما انه لا يقتصر على التخلص من النمل الابيض بل العديد من الحشرات فهى شركة مكافحة حشرات بمكة
    مكافحة حشرات بمكة
    http://www.elbshayr.com/3/Pest-control

    ردحذف
  2. مكافحة فئران


    هل ترغب فى التخلص من الفئران المتواجدة داخل منزلك وقد استخدمت كثيرا من المبيدات الحشرية ولكن لن يحدث اى نتيجة ولكن معنا سوف تجد الحل نحن شركة مكافحة فئران بالكويت نساعدك على ابادة الحشرات بشكل نهائى وفعال دون ان يحدث اى ضرر لك عزيزى العميل نحن نتميز انن قادرون على الوصول الى الاماكن الضيقة الموجودة بداخلها الفئران
    حيث اننا نقوم رش مبيدات سامة تعمل على ابادة الفئران بشكل نهائى حيث اننا ايضا نستخدم اجهزة طاردة للفئران
    رش مبيدات

    https://www.satellitekuwaiti.net/%D9%85%D9%83%D8%A7%D9%81%D8%AD%D8%A9-%D8%AD%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D9%8A%D9%86/

    ردحذف