الجمعة، 13 أبريل 2012

التقرير 4: صبيانُ إتيانَ يُقيمونَ لحشرات الشيَّاحِ حواجزَ البربارة

الحشرة بستَّة أرجُل وهيكل خارجي وقرنَي استشعار
وقفُوا عند المَعابرِ إلى عين الرمَّانة وراءَ حواجزَ مُنخُليَّةٍ- عرفَها الأهالي باسم "البربارة" نسبةً إلى الأقنعة التي وضَعُوها على وجُوههم كي تقيَهم رَذاذَ رشَّاشاتهم الحشريَّة- كلَّما عَلِقَت حشرةٌ آتيةٌ من ناحية الشيَّاح في المُنخُل رشُّوها من غيرِ رَحمة.
أمَّا الحشراتُ التي ادَّعت الانتماءَ إلى طائفةِ البشر فقد كان موظَّفُو "الصحَّة اللبنانيَّة" يُطالبونَها بإبراز بطاقة هُوَّيَّتها.


قُيِّضَ لي ذات يومٍ أن أنفذَ تحتَ قناعِ صبيٍّ منهم- وكان واقفاً، تحت أرزةٍ، عند حاجز البربارة شماليَّ الحديقة اللبنانيَّة. جعلتُ أحدِّقُ بشاربهِ الصغير وعينَيه البريئتينِ وصَلعته.. بيد أنِّي آثرتُ ألا أُزعجَه كعادتي. فلبدتُ من غير حراكٍ أنظُر بعينيَّ المُركَّبتين إلى وجهه تارةً وإلى الطريق تارةً أخرى من خلال ثقبٍ بالبربارة جُعِلَ للتنفُّس- أراقب ما يكون.
مرَّ بنا إنسانٌ. وجعل ينظُر إلى الرشَّاشة في يد الصبيِّ نِظرتَه إلى آلةٍ لا تستهدِفُه ألبتَّةَ بتصميمها: الماسُورة الطويلة، وخزَّانُ المادَّة المُبيدة للحشرات، وذراع ضغط الهواء..
_ أنت!
خاطبه الصبيُّ بازدراء.. كما يُخاطب حشرة. وفي الحال لاحظتُ على سِحنة الصبيِّ وراء البربارة تحوُّلاً غريباً كأنَّما تتنفَّخ ويتغيَّر لونُها! أمَّا عابرُ السَّبيل فقد بدا- من الخوف- كأنَّه يتضاءل! لكنَّه اندفع يقول بتوكيد:
_ أنا إنسان!
وعاد الصبيُّ يصيح بالعابر- في صوته زمجرة:
_ هاتِ بطاقتك!
إنَّ فم الصبيِّ يتَّسع، وفكَّيه يتضخَّمان، وأسنانه تكبُر.. في حين يزداد المُشتبه به ضآلةً وهو يقول بحرارة:
_ أنظُر.. إنَّ لديَّ يدَين بشريَّتينِ ورِجلَين..
لكن، من وراء البربارة بَدَت أرجُله ستَّاً مُفصَّلة!
ثم قال وهو يُمسك بإصبعَيه خدَّه، فيقرِصُه:
_ وانظُر: إنَّ لي هيكلاً عظميَّاً داخليَّاً شأن كلِّ الناس..
لكن، من وراء البربارة بدا المُشتبه به قاسي القشرة الخارجيَّة شأن الحشرات!
ثم جعل يجُسُّ مُقدَّمَ رأسهِ وهو يقول:
_ وانظُر: ليس لي قرنا استشعار..
لكن، بدا قرنا استشعاره طويلين يتذبذبان في كافَّة الاتِّجاهات على نحوٍ مُثيرٍ للأعصاب. ولا يكُفُّ، فوق ذلك، عن الصَّرير!
وزمجر الصبيُّ- وقد اكتمل تحوُّلُه إلى وحشٍ بقرونٍ في مُقدَّم رأسه، ووصفائحَ جلديَّةٍ سميكةٍ على العارِضَين- قائلاً وهو يضغط خزَّانَ رشَّاشته الحشريَّة:
_ قلتُ لك هاتِ بطاقتك!
صارَ المُشتبهُ به في ضآلة حشرة. لكنَّه لم يرَ بُدَّاً من مناولة الصبيِّ بطاقةَ هويَّته.
الحقُّ أنَّ بطاقة الهويَّة اللبنانيَّة لا تختلف عن غيرها من بطاقات هُويَّة الناس في أنحاء العالم؛ فيها اسمُ حامِلها وشُهرتُه واسمُ أبيه وأمِّه وشُهرتُها ومحلُّ ولادته وتاريخُها، وجنسُه ذكراً أم أنثى، ووضعُه العائليُّ أعزبَ أم مُتزوِّجاً، ورقمُ سِجلِّه وقريتُه والمحافظةُ والقضاء، وصورةٌ شمسيَّةٌ لوجهه بهيئةٍ إنسانيَّةٍ لا لُبسَ فيها.. لكنَّ بالبطاقة خانةً يُصنَّف فيها صاحبُها- اعتباطاً- بأنَّه من طائفة..
وإذا بالصبيِّ يحوِّل ماسُورة رشَّاشته نحو صاحب البطاقة وهو يصيح:
_ عرفتُ أوَّلَ ما لمحتُك أنَّك من طائفة الحشرات.
وثبَّتَ البربارةَ على وجهه، ورشَّه!

             الذبابة روبرت فسك
             مراسل صحيفة الأزمنة
             من زمن التَّحشير
 كان هذا التقرير 3. يليه التقرير 4: خلايا دبابيرَ ورقيَّة في الناحية الجنوبيَّة للجُنينة البروتيَّة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق