الجمعة، 13 أبريل 2012

التقرير3: صبيانُ إحسانَ يلتقطُون الكثيرَ من حشَرات عين الرمَّانة التي عَثروا عليها في الشيَّاح


كانت الفراشةُ الزاهيةُ الألوانِ تطيرُ فوقَ الأزهار. ثم حطَّت على زَنبقةِ مار يُوسف وجعلت تمتصُّ الرحيقَ مُحرِّكةً جناحَيها في هناءٍ عندما انقضَّت عليها من فوقُ شبكةٌ واسعةٌ، فعلِقت بينَ أسلاكِها.  
الخُنفُساء الملوَّنة كانت مُتعلِّقةً بجذع شوكةِ المسيح.. فامتدَّت إليها إصبعانِ، وقبضتا عليها.
الجُندُب استشعرَ الخطرَ فتموَّه باللون الأخضر وهو لابدٌ على غُصن إكليل مريم- لا يأتي حركةً.. لن تراني عينُ جامعي الحشرات.. لكنَّه ما يدري إلا وهو في قبضة يدٍ!
أمَّا زميلي تيري- الذبابة الزرقاء الذي أخبرني فيما بعدُ بتلك الأحداث- فقد كان يُحوِّم في الشيَّاح قريباً من عرزال إحسان بشجرة الحَور. فعنَّ له أن يحُطَّ على النافذة- ماذا تقول في طيش الذباب؟.. أحَسَّ تحت أرجُله الستِّ لُزوجةً. فلمَّا أراد أن يُحرِّكها لم يستطع: علِق في التلزيق!
 
طالت معاناة تيري يريد الخلاص.. حتَّى امتدَّت إليه يدُ صبيِّ، وجعلت تُخلِّصُه بشدٍّ مُؤلمٍ كاد يقتلع أرجُله الهشَّة.. ثم رفعه الصبيُّ في الهواء ينظُر إليه وهو يطنُّ بجناحَيه يقول إنَّه مُراسلٌ أجنبيٌّ.. لكنَّ الصبيَّ لم يأبه لطنينه. بل حمله. ثم ألقى به في مرطبانٍ زُجاجيٍّ. وأحكم عليه الغطاء البلَستيكيَّ المُثقَّب!
وجد تيري نفسه فوق العشرات من الحشرات المُلتقَطة تتخبَّط في مُحاولاتٍ مُتكرِّرةٍ للنَّفاذ من خلال الزجاج الشفَّاف..
لبث تيري شهُوراً طويلةً في ذلك المرطبان أسيراً لدى صبيان الشيَّاح مع باقي الحشرات يقتاتُ على ما يُلقون في القعر من موزةٍ فاسدةٍ أو باذنجانةٍ مُتعفِّنةٍ أو كعكةٍ يابسةٍ- وهي التي احتفر فيها النَّمل مُستعمرةً استغنى بها عن الحديقة اللبنانيَّة جميعاً!
كان تيري يُعاني بلاء الانتظار. تعذّبه الأسئلة. ماذا سيفعل به الصبيان يا تُرى؟ هل يقتلعُون أرجُله الستَّ واحدةً واحدة، ثم يُفلتونه ليتسلَّوا بالتفرُّج عليه وهو يُحاول الطيران فلا يستطيع؟ أو ينتزعُون جناحَيه ليسخروا منه وهو يُهرول مُبتعداً وقد ضمُّوه قسراً إلى طائفة الحشرات الزاحفة؟..
هذا الجُندُب مثلاً؛ فتح صبيٌّ غطاءَ المرطبان ذات صباحٍ ومدَّ يده واستخرجه. ثم راح يلهُو به مع رفاقه بإيلاج قصبةٍ رقيقةٍ في فمه يُجبرونه على مصِّها.
والفراشة أخذوها وراحُوا يتأمَّلون جمال جناحَيها- وهي ترِفُّ بين أيديهم بفزَعٍ حتَّى جاء أحدُهم بدبُّوسٍ ووخزَها به في بطنها من غير رحمةٍ، ثم ثبَّتها على كرتونةٍ بيضاء، وأخذ الصبيان يتناوبون النظر إليها في إعجاب.
أمَّا الخُنفُساء الملوَّنة- وكان تيري مفتُوناً بلمَعانِ جناحَيها- فأخذها صبيٌّ جاحظُ العينين، يرتدي بنطلوناً من الجِنز، ومضى بها.
حتَّى كان يومٌ اهتزَّ فيه قرنا استشعار تيري المُدرَّبان بذبذباتٍ صوتيَّةٍ ميَّزَ من بينها صوت إحسانٍ، كبير صبيان الشيَّاح، داخلاً يتحدَّث إليهم بمرح..
_ إحسان.. إحسان!
جعل الذبابة يطِنُّ في المرطبان، ويطير في فضائه المحدود مُصطدِماً بالزجاج في جُنون. وهاجت لهياجه الحشراتُ فصنعت صنيعه حتَّى تنبَّه إحسانُ إلى المرطبان على خزانة الزُّجاجيَّات بالصالة. فدنا منه، ورفعه إلى وجهه ينظُر فيه وهو يقول معاتباً:
_ الحشرات لها الحقُّ في الحياة مثلنا تماماً. ولسنا ناساً إذا تعاطينا معها بوحشيَّة.
وإذ لمح إحسانٌ الذبابة الزرقاء هتف بالصبيان في غضب:
_ كيف تأسرون الذباب الأزرق يا وحُوش؟
فقالت له أصواتٌ صبيانيَّة مُتَّهمة:
_ التقطناهُ وهو يتجسَّس عليك من طاقة الحمَّام!
فقال لهم مُتسامحاً:
_ إنَّه مُراسلٌ أجنبيٌّ.
ونزع إحسانٌ غطاء المرطبان- غير مُبالٍ باعتراض الصبيان. فما كان من تيري إلا أن طار هارباً.. وتناول صبيٌّ المرطبان من يد إحسانٍ، وأعاد عليه الغطاء- مانعاً فرار بقيَّة الحشرات الأسيرة. حوَّم الذبابةُ حول رأس إحسانٍ مُمتنَّاً. فدار هذا معه بعينيه وهو يقول له مُودِّعاً:
_ حدِّث في تقاريرك إلى الصحُف الأجنبيَّة بأنَّنا عاملناك بالإنسانيَّة!
بيد أنَّ تيري لم ينسَ الحشرات التي عايشها في الأسر شُهوراً. فطنَّ في أذُن إحسانٍ مُشيراً إلى المرطبان بأيدي الصبيان:
_ وتلك الحشراتُ ما ذنبُها؟ إلام تبقى في الأسر يلهُو بها صبيانك؟
التفت الرجُل إلى الصبيان مُقطِّباً يسألهم:
_ تلهُون بها؟ أما نهيتُكم عن ذلك؟
فتسابقُوا يُنكرون ويَحلِفُون:
_ لا والنَّبيِّ مُحمَّد ما لَهَونا بها؟
فطار تيري حتَّى وقع على رأس الصبيِّ ذي العينين الجاحظتين الذي خطفَ الخُنفساء من المرطبان، وراح يطِنُّ بحِدَّة:
_ فتِّش في جيُوبه!
بعينين حازمتين أمرَ إحسانٌ الصبيَّ المُتَّهم بإفراغ ما في جيوب بنطلونهِ الجِنزيِّ. فأذعنَ الصبيُّ وأخرج عُلبة كبريتٍ ومدَّ بها يده إلى إحسان. تناولها إحسانٌ وفتحها باهتمام. فوجد فيها الخنفساء المُلوَّنة بين بتلات الورد الجُوريِّ- وقد ربط الصبيُّ الشقيُّ برقبتها خيطاً طويلاً كان ولا شكَّ يُطيِّرُها به..
_ لا حول ولا قوَّة إلا بالله!
وراح إحسانٌ يفُكُّ الخيط عن الحشرة المسكينة مُدمدِماً. ثم قال:
_ ليس من الإنسانيَّة تعذيبُ الحشرات.
ثم دعا إليه بالمرطبان. ووضع الحشرة فيه! ذهل تيري. وسأله بطنينٍ مِلحاحٍ وهو يحُطُّ كيفما اتَّفق- على شفتيه وأنفه وجفنيه:
_ ألن تُطلق سراحها وسراح بقيَّة الحشرات؟
فأجاب إحسانٌ بحزمٍ وهو يذُبُّ الذبابة الزرقاء عن وجهه بضيق:
_ بل ستبقى في رعايتنا حتَّى يوافقَ إتيانُ على مُبادلتها بلبنان، دودة القزِّ الأسير عند صبيانه!
وانصرف الرجُل لشأنه. فانقضُّ الصبيانُ على تيري يُريدون القبضَ عليه مرَّةً أخرى. فتفادى الذبابةُ أيديهم الممدودة إليه في الهواء. ثم فرَّ بنفسه وهو يطِنُّ مُخاطباً خُنفُساءه المُلوَّنة:
_ انتظريني!
                الذبابة روبرت فسك
مراسل صحيفة الأزمنة
من زمن التَّحشير
كان هذا التقرير 3. يليه التقرير 4: صبيانُ إتيانَ يُقيمونَ لحشرات الشيَّاحِ حواجزَ البربارة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق