الأحد، 15 يناير 2012

القسم 9: الورقات يتساءلنَ عن أصلهنَّ

الفصل الخامس عشر
انبسَطت الورقةُ السادسة المُبيَّضة إلى جانب أخواتها: الثالثةِ المُخطَّطة، والرابعةِ المُنقَّطة، والخامسةِ الأنيقة. وما هبَّت المبيَّضةُ بما في صفحتها، حتى بادرتْها الورقةُ الأنيقةُ بلَفحَة حبْرٍ ساخنة:
_ ابتعدي أيَّتها الدخيلة!
غيرَ أنَّ الورقة المُخطَّطة هتفتْ بالأنيقة في رَجاءٍ:
_ دَعيها تفوحُ بما تريد قولَه. مهما كان من أمرٍ فإنَّها تَتلوكِ في ترتيبنا، ولها بذلك عليكِ حقّ.
وقالت المنقَّطة مُوافِقةً:
_ نعم.. دَعيها..!
فأدارَتْ لها الأنيقةُ قفاها الأبيضَ، رافضةً الإصغاءَ وهي تقول في ازدراء:
_ إنِّي مُنشغِلةٌ في التفكير بأمرٍ هامّ، ولا وقتَ لدَيَّ الآنَ للثرثرة!
ففاحت المُبيَّضة قائلةً بلباقةٍ وتودُّد تخاطب الأنيقةَ:
_ أعرِفُ ما يَشغلكِ يا أختاه. فقد بلغتْني رغبتُكنَّ في مراجعة نصوصكنّ. أَصغي إليّ لعلِّي أستطيع المساعدة!
خشخشتْ في استكبارٍ الورقةُ الأنيقة المُنْطوية. ولكنّ الورقة المُخطَّطة أقبلتْ على الورقة الجديدة تسألها باهتمام:
_ هل تعرفينَ كيف لنا أنْ نفعل ذلك؟
فأجابت الورقةُ المبيَّضة وهي تَشْمَل أخواتها باستطلاعٍ غريب:
_ ما أعرِفه هو أنّ علينا قبلَ ذلك أنْ نعرف أنفسَنا!
فانفتحَت الورقةُ الأنيقة في دهشةٍ وإنكار. ثم قالت متسائلةً باستخفاف:
_ أنْ نعرِف أنفسَنا! نحن نعرف أنفسنا. هل تظنِّين أنَّنا نَجهلُ أنفسنا؟!
الورقة المُنقَّطة:
_ ...!
أما الورقة المُخطَّطة فقد تفكَّرتْ قليلاً ثم قالت مُخاطِبةً الورقةَ الأنيقة:
_ أُذكِّركِ بأنّ الورقة المبيَّضة هي وريثةُ أختِنا الراحلة- الورقة المشطّبة– التي قَضَتْ وهي تجهد في التعبير عن نفسها. فلعلَّ وريثتَها تدري ما تقول!
وأضافت الورقةُ المبيّضة تَشرَح كلامَها:
_ أعني أنْ نعرفَ أصلَنا، ومِمَّا نكون!
فردَّدت الورقةُ المُنقَّطة كأنّها تطلب الى أخواتها مَلْءَ الفراغ بالكلمات المُناسِبة:
_ أصلُنا.. نكون..!
الحقُّ أنَّ الورقات حِرْنَ أمام هذا السؤال، وأنَّ الجوابَ– على بساطتهِ الظاهرة– قد أعياهنَّ، فلبِثْنَ مُنْبسطاتٍ على سطح المكتب لا يَنْبِسْنَ ببَثَّة حبر.
ثم تَنَحْنَحَت الورقةُ الأنيقة، والتفتَتْ بصفحتها نحوَ الورقة المبيَّضة، وسألتْها وهي تُداري حرَجَها باصطِناع لَفْحة التحَدِّي:
_ أتعرِفين أنتِ الجوابَ؟ هيَّا أخبرينا به.
فقالت المُبيَّضة بصراحة:
_ لا أعرِفُه!
_ لا تَعرفينَه! تَشغليننا بسؤالٍ لا جوابَ له عندكِ!
فتدخَّلت الورقةُ المُخطَّطة قائلة:
_ حَسبُها أنها دلَّتْنا على الطريق إلى ما نريد. يبدو لي معقولاً أنَّ علينا أنْ نعرفَ أنفسَنا قبل أنْ نحاول إعادةَ النظر فيها!
وقرَّرت الورقاتُ-  المُخطَّطة والمُنقَّطة والأنيقة والسادسةُ المُبيَّضة– أنْ يَرجِعْنَ إلى أمِّهنَّ الورقة الثانية ليطرَحْن عليها السؤال. فانقلَبْن نحوَها في وسط المكتب.
وجدنَها مع الجدَّة، يَغْشَى صفحتَها الغمُّ، وهي تتلقَّى التأنيبَ من العجوز التي اتَّهمتْها بالتراخي في جَذْب الورقات التاليات لها. وما إنْ شعرت الأمُّ بأنفاس بناتِها  الحبريَّة المحبوبة حتى تَبدَّل انقباضُ صفحتِها إشراقاً بعَودتهنَّ، وانطبقتْ عليهنَّ تغمُرهنّ بشوقٍ وحنانٍ، في حينَ قالت الورقةُ الأولى– الجدَّة– مسرورةً برجوع حفيداتها الى التتالي مع أختهنَّ المُبيَّضة:
_ هيَّا يا بنات. تتالَيْنَ ولا تَعُدْنَ إلى التفرُّق.
أحَسَّت الورقةُ الأنيقة بأنَّ جدَّتها تُعرِّض بانتباذها طرَفَ المكتب. فأرادتْ إحراجَها. فقالت لها بتحدٍّ:
_ لقد اجتمَعْنا على سؤالٍ عُدْنا به إليكِ!
فتساءلت الجدةُ في استغراب:
_ سؤال! وما هو؟
التفتَت الورقةُ الأنيقة بطرَفها نحو أخواتها المُخطَّطة والمُنقَّطة والمُبيَّضة، فبادَلنَها الالتفاتَ مُشجِّعاتٍ. وقالت الورقةُ الأمُّ تَحُثُّ ابنتَها على الكلام:
_ اسألي يا ابنتي. جدَّتكِ حكيمةٌ تعرفُ الكثير.
فواجهت الورقةُ جدَّتَها بصفحتها الأنيقة السطو، ثم قالت بوُضُوح:
_ نريد أنْ نعرفَ أصلَنا نحن الأوراقَ!
_ أصلنا؟
_ نعم. أصلنا، ومِمَّا نكون!
فقالت الجدةُ وما تزداد إلَّا عجَباً:
_ وما حاجتُكنَّ إلى معرفة ذلك؟
فأجابت الورقةُ المنقَّطة:
_ طلبُ المعرفة.. في غِنىً عن التبرير!
فاحتدَّت الجدةُ قائلة:
_ ركِّزْنَ على غايتنا وهي التتالي ورقةً بعد ورقة حتى نصلَ إلى خاتمة موضوعنا في سلام.
فقالت الورقةُ المُبيَّضة متفلسِفةً:
_ سنكون أقدرَ على بلوغ غايتنا إذا عرَفْنا أصلَنا!
وقالت الورقةُ الأمُّ وقد راقَها السؤالُ الجديد:
_ أجيبي يا أماه. إنه سؤالٌ مُشوِّق.
فصاحت بهنَّ الجدّةُ ضائقةَ الصفحةِ بحِصار الطلبات:
_ ومِن أين لي أنْ أعرف الجواب؟
ثم أضافت وهي تتلفَّتُ حواليها:
_ لا أعرفُ غيرَ سطح هذا المكتب حاملاً لنا، وداعماً لبقائنا.
فقالت الأمُّ ببساطة:
_ يمكننا أنْ نستشيرَ أصدقاءنا من الكتب المَراجع. لا بدّ أنّ في صفحات أحدِها شيئاً من الجواب.
فقالت الجدة كالنادبة:
_ هيّا اسألْنَ- أنتِ وبناتُكِ– الكتبَ جميعاً، وحِرْنَ بين الأجوبة بدلاً من تركيز اهتمامكنّ على التتالي الذي لا نفعَ لنا في الاهتمام بشيءٍ غيره.
فهتفت الورقةُ الأنيقة وهي تتحوّل عن العجوز بحدّة:
_ سنسأل حتى نعرف. ولن نقنعَ إلَّا بجوابٍ شافٍ.
ثم التفتتْ إلى أمِّها الورقة الثانية وسألتْها:
_ ماما. أيٌّ من الكتب يَحْسُن بنا أنْ نسألَه؟
ففاحت الورقةُ الثانية إلى الجدَّة باستئذانٍ لطيف. ثم واجهَت الرفَّ العُلويَّ من المكتبة حيث يرتفعُ كتابُ تاريخ الأدب العرَبيِّ. فنادتْه:
_ أيُّها الكتابُ الجليل!
فأجابَها الكتاب توَّاً:
_ نعم أيَّتها الورقة العزيزة.
فقالت الورقةُ الثانية مسرورةً لاستجابتِه السريعة:
_ عرفتُ أنكَ مُنتبهٌ لنا دوماً. لا تغيبُ عن متابعة تتالينا على سطح هذا المكتب.
فقال الكتابُ بعَرْف حبرهِ العميق النفاذ:
_ إنَّها طبيعتي أنْ أهتمَّ لنشأة كلِّ عملٍ أدَبيٍّ. وأنتُنَّ أيتها الورقاتُ واعِداتٌ بحَمل أثَرٍ عظيم! هذا ما قلتُه قديماً لأمِّكِ الورقة الأولى.
فقالت الجدةُ وقد زايَلَ صفحتَها التجهُّمُ:
_ شكراً لكَ أيها الصديق. لا تُؤاخِذْني على انطِوائي عنكَ هذه المُدَّةَ. فإنَّني أُلاقي عنَتاً من حفيداتي الورقات في حَمْلِهنَّ على التتالي..
بادرت الورقةُ الثانية مُستدرِكةً تقول في هبَّاتٍ سريعةٍ، رغبةً منها في قَطع استرسالِ العجوز في التشَكِّي:
_ أيُّها الكتاب. هؤلاءِ بناتي الورقات يُرِدْنَ أنْ يَسألنَك سؤالاً عسَى أنْ يكون جوابُه عندَكَ.
سكتت الجدةُ حابِسةً بَوحَ حبرِها على كره، في حين قال الكتابُ للورقات ملاطفاً:
_ أهلاً بكنَّ أيَّتها الجميلات!
فانبسطت الورقاتُ للترحيب اللطيف. وتطلَّعْنَ إلى الكتاب الكبير على رفِّه العالي بين الكتب في إجلالٍ وموَدَّة. ثم قدَّمت الورقاتُ أنفسَهنَّ باعتبار ترتيبهنَّ: الثالثة فالرابعة فالخامسة فالسادسة.
سُرَّ بهنَّ الكتابُ الكبير، وتمنَّى لهنَّ استكمالَ موضوعهنَّ بورقاتٍ كثيرات تَتلوهنَّ من غير إبطاء!
عند ذلك خشخشت الورقةُ الأولى في امتعاض. فاندفعَت الورقةُ الأنيقة تقول للكتاب في جُرأة:
_ نشكرُ لكَ تمنِّيك الصادق. ولكنَّنا لن نستطيع التتاليَ حتى نعرفَ الجوابَ عن سؤالٍ يَشْغَلُ اهتمامَنا عن كلِّ شيء!
فانفتح الكتابُ الكبير مُستعِدَّاً للإجابة وهو يقول:
_ وما هو هذا السؤال؟
فقالت الورَقة الأنيقة ببَثَّةٍ قويّة:
_ نُريد أن نعرفَ أصلَنا، ومِمَّا نكون!
كانت الورقةُ الأنيقة كُلَّما فاحَتْ بهذا السؤال شعَرتْ بحاجتها إلى الجواب تشتدُّ وتتعمَّقُ في نسيجها الورقيِّ الرقيق. ولعلَّ أخواتها الورقات المُخطَّطة والمُنقَّطة والمُبيَّضة قد شعَرْنَ بمِثْل حاجتِها. وكذلك الورقةُ الثانية- الأمُّ؛ فقد انفتحَت كلُّ هذه الورقات على سطح المكتب لتَلَقِّي بَثَّة الجواب من صفحات كتاب التاريخ. حتى الورقة الأولى– الجدة– لم تستطع مقاومة الرغبة في الاستطلاع، فانفتحتْ في لامبالاةٍ مُتكلَّفة. واتَّجَهْنَ جميعاً بصفحاتهنَّ نحو كتاب تاريخ الأدب على الرف العُلويِّ.
هَمْهَم الكتابُ بنفحات حبريَّة عميقة. ثم قال وهو يتذكَّر:
"أصلُ أوراقِ الكتابة، ومِمَّا تكون. ما كان أشَقَّ البحثَ في هذه المسألة!"
ثم قال وهو يُقلِّبُ صفحاتِه الكبيرة، كأنَّه يُحدِّث نفسَه:
"ولكنَّ المؤرِّخ مُؤتَمَنٌ على الحقيقة ".
وانفتحتْ دفَّتاهُ العَريضَتان عن صفحتيْن في مُقَدَّمته. ففاحَ حبرُهما الأسودُ بالنصِّ التالي:
" كان يُكْتَبُ في اللخاف، وهي الحجارةُ الرِّقاق أو صفائحُ الحجارة. ثم في الأكتاف، جمع كتِف، وهو العَظْم العريضُ الذي للبعير أو الشاةِ خلفَ المَنْكِب. ثم في الأقْتاب، جمع قَتَب، وهو الخشَبُ الذي يُوضَع على ظَهْر البعير ليُركَبَ عليه. وفي العُسُب، جمع عَسِيب، وهو جَريد النخل. وفي لِحاء الشج. وفي الرِّقاع، جمع رقْعة، وتكون من جِلد الحيوان.. حتى صار يُكْتَب أخيراً في الورَق، وهو رقائقُ مصنوعةٌ من لُبِّ الخشَب والتِّبْن".
لبِثَت الورقات جامِداتٍ في أماكنهنَّ يتَنسَّمْنَ في تمَعُّنٍ ما تلَقَّيْنَه من الكتاب الكبير. وتَواصَلَ الصمتُ طويلاً حتى تساءلت الورقة المُبيَّضة في حيرة:
_ ماذا يَعني هذا الكلام؟!
أفاقت الورقاتُ بصعُوبةٍ من استغراقهنَّ الذاهل. فتمْتَمت المنقَّطةُ كأنَّها لا تدري ماذا تقول:
_ يعني.. ما يعني!
وقالت المخطَّطة كالمُشفِقة:
_ يعني أنَّ أصلنا..
فقاطعتْها الورقةُ الأمُّ قائلةً في عجَلةٍ واضطرابٍ وهي تَهُمُّ بترتيب بناتِها من غير أنْ تلتفتَ إلى الورقة الجدة:
_ لا يعني شيئاً! هيّا انتظِمْنَ، وعُدْنَ إلى ترتيبكنَّ استعداداً لاستئناف موضوعنا.
ولكنَّ الورقة الأنيقة انتفَضتْ كأنها تُفيق من صَدمة، وصاحت شاحبةَ الصفحة:
_ يَعني أنَّ أصلَنا حِجارة، وأنَّنا كائناتٌ من تِبْنٍ!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق