الأحد، 15 يناير 2012

القسم 8: الورقات يُرِدنَ مراجعة ما يحبِّره فيهنَّ الكاتب

الفصل الرابع عشر
لَفَّ الحزنُ الورَقات جميعاً على المكتب. فتقبَّضتْ صفحاتُهنَّ، وعلاهُنَّ الوجومُ، ما عدا الورقةَ الجدَّةَ التي قالت وهي تُشير بطرَفها إلى الورقة الجديدة المُبيَّضة:
_ الشكرُ للكاتب الذي أبْدَلَنا بالورقة المُشطَّبة خيراً منها!
ولكنْ بَدا جليَّاً في اكفهْرار صفحتها أنها كانت تُغالِبُ حسرةَ الفُقدان.
أما الورقةُ الثانية– الأمُّ– فقد احتَضنت الورقةَ المُبيَّضة واجدةً فيها رائحةً من ابنتها الفقيد. ودَعَت الورقات إلى تَصَفُّح أختهنَّ السادسة الجديدة والترحيب بها. غيرَ أنَّ الورقة الخامسة الأنيقة قالت في انفعالٍ وهي تَنقلِب بعيداً عن أمِّها:
_ لا أريد!
فانضمَّتْ إليها توّا الورقةُ الرابعة المُنقَّطة وهي تقول:
_ ولا أنا..!
ولَحِقتْ بهما الورقةُ الثالثة المُخطَّطة في شيءٍ من التردُّد.
فهَتفت بهنَّ الورقةُ الأمُّ وهي تَنْثني على الورقة المُبيّضة كأنَّما تخشَى أنْ يلفحَها نَبْذُ أخواتِها لها:
_ إنَّها أختُكنَّ هي الأخرى! فتَتابَعْنَ ولا تفَرَّقنَ. 
وتمَلْمَلت الورقةُ الجدَّة في استياء.
فصاحت الورقةُ الخامسة الأنيقة يُعذِّبها تأنيبُ الضمير:
_ لن تحُلَّ هذه الورقةُ المُتـأنِّقة محَلَّ أختي الراحلة! 
فقالت لها أمُّها بمَرارة:
_ الآن تقولين "أختي"؟ كنتِ لا تُطيقينَ لها وجوداً إلى جانبك!
فسكتت الورقةُ الخامسة وقد انْحنَت صفحتُها الأنيقةُ الخَطِّ بانكسار. ولكنَّ الورقة الرابعة المُنقَّطة قالت وهي تتلوَّى في أسىً:
_ كانت الراحلة هي التي تُنفِّرنا منها. كيف؟... اتَّهمتْني مَرَّةً بالنقص... كما اتَّهمت الجميعَ بالغلط...
فإذا بالورقة الثالثة المُخطَّطة– التي اختُلِفَ مرَّةً في تأويل الخُطوط الغريبة في صدر صفحتها- تقول مُعترِفةً:
_ لم نتفهَّمْها، ولم نأخُذْ أقوالَها مأخذَ الجدِّ.
وسكتتْ قليلاً ثم أضافت مُتسائلةً:
_ ماذا لو كانت على حقٍّ في انتقادها لنا!
فصرَختْ بها الورقةُ الجدَّة وهي تُخشخش في ضيقٍ شديد:
_ لا تُرَدِّدي هذا الكلامَ!
فما كان من الورقة الأنيقة إلَّا أن انْفتحَتْ قائلةً بحماسٍ محمُوم تخلَّصتْ به من شعورها المُؤلمِ بتأنيب الضمير:
_ نعم! كانت على حقٍّ في انتقادها لنا! وإنَّما أرادت أن تكون نصوصُنا أجملَ مِمَّا هي الآن!
عاودت الجدَّةُ الصراخَ في اختلاطٍ حبريٍّ غيرِ مفهومٍ حتى احتكَّتْ بها الأمُّ لتهدئتها. فقالت الجدّة مُحذِّرة بأنفاسٍ حبريَّة مَبهورةٍ من الكِبَر والانفعال:
_ على الورقة أنْ تثِقَ بما هو مكتوبٌ فيها كي تَحْفظَه للقارئ، وإلَّا اتُّهِمَتْ بالتحريف، وأُلْقِيَ بها في أقرب سلةٍ للمُهمَلات!
استفزَّ هذا التحذيرُ الورقةَ الأنيقة، وأخرَجها عن نفسها. فصاحتْ بجدَّتها وهي ترتجف غضباً:
_ لا ثقةَ لي بشيء. لا بدّ من مُراجعة نصوصنا!
فتأوَّهت الجدَّة مخاطبةً الورقةَ الثانية:
_ كلام المُشطَّبة! ها هُنّ بناتُكِ يُرَدِّدنَ كلامَ المُشَطَّبة!
فقالت لها ابنتُها الورقةُ الثانية برجاءٍ وهي تُهدهد في حِضنِها المُسَطَّحِ الورقةَ الجديدة المُبيَّضة:
_ انتظري يا أُمَّاه حتى نعرفَ ماذا يُرِدْنَ بالضبط.
ثم التفتتْ ناحيةَ الورقات الثلاث، المُبتعِدات عنها عند طرَف المكتب، وهَمسَتْ في تلطُّف وهي تبسِط بجانبها الورقةَ المبيَّضة التي بدأتْ تتلفَّت إلى ما حولها:
_ اقترِبْنَ. وتتالَيْنَ مع أختكنَّ الجديدة. وسأُصغي إلى مَطلبكنَّ.
بيد أنَّ الورقات أبَيْنَ ذلك وازْدَدْنَ ابتعاداً وهنَّ يَنتفِضْنَ في نُفور من الورقة المبيَّضة. فما كان من الورقة الجدَّة إلَّا أن استعدَتْ عليهنَّ المكتبةَ وهي تصيح مُولوِلةً:
_ أيَّتها الكتب، واتمزيقَ قلباه!
انقطعت الكتبُ على الرفوف عمَّا كانت فيه. واتَّجهت مُنفرِجةَ الدفَّات نحوَ المكتب الأحمر حيث الورقاتُ مُتفرِّقاتٌ . فراحت الورقةُ الجدَّة تتلفَّتُ بطرَفها الأعلى يميناً ويساراً نحو الرفوف وهي تقول متسائلةً في إنكار:
_ هل سمِعتُم في حياتكم عن ورقةٍ تسعى إلى مُراجعة ما حَبَّرَه فيها قلمُ كاتبِها؟!
سارعتْ كثرةٌ من الكتب إلى إبداء استهجانها بنَفْخاتٍ أطارَت شيئاً من غُبار صفحاتها. فأشارَت الورقةُ الجدَّة بطرَفها إلى الورقات الثلاثِ عند طرَف المكتب، وقالت كأنَّما تُشهِدُ المكتبةَ على حَماقةِ حفيداتها:
_ تُريد هذه الورقاتُ مراجعةَ نصُوصِهنَّ التي حبَّرها صاحبُكم الكاتبُ العظيم!
فتضاحَكت الكتبُ فيما بينَها، عَدا كُتيِّبَ " ألف باء الإملاء "   الذي بَدا كأنَّ أمراً قد غَمُضَ عليه. فمال ناحيةَ المُعجَم على رفِّهِ الرابع ، وسأله في نفْحةٍ حَييَّةٍ خافِتة:
_ أيُّها المُعلِّم. ما مَعنى " مُراجَعة "؟ 
انفتَح الكتابُ الضخمُ على بابِ الرَّاء، ثم غَمغَم كأنَّما يَبحثُ بتُؤدَةٍ عن الكلمة في صَفحاته المُكتظَّة، حتى قالَ بنفْحة حبرٍ كثيفة:
_ يُقال " راجَعَ النصَّ يُراجِعُه مُراجَعةً " إذا أعادَ النظرَ فيه . وقد يقتضي ذلك تعديلَه وإبدالَ كلامٍ بكلام!
فشَهَقَ الكُتيِّبُ الصغير استنكاراً بلغَ حَدَّ الفزَع حتى كادَ يَنقلِبُ عن رفِّه!
وهَزَّت الورقةُ الجدَّة أعلاها الآخذَ في التقبُّض عندَ الأطراف وهي تقول:
_ لو جازَ ذلك لورقة، إذاً لفقَد الإنسانُ الثقةَ بنا، معشرَ الورق، ولَمَا أجْرَى في بياضِنا قلماً، بل ولَمَا عاد كاتبٌ يَستأمِنُنا على أفكاره، فيرُوح يَبحَثُ لها عن سِجلٍّ أمين غيرنا، ونَنقرِضُ نحن من الوجود!
هاجتْ نفثاتُ الشَّجْبِ والاستِهجان من فَوق الرفوف حتى تلبَّدَتْ سماءُ الحُجرة بنُذُر الشرِّ والوعيد، لولا أنْ علَّقَتْ مجَلَّةُ التسليةِ "اضحك مع جِحا"، المُزَيَّنةُ بالرسُوم، من فوقِ الرفِّ الخامس إلى اليمين ، ناصِحةً الورقاتِ في جديَّةٍ ساخرة:
_ ما رأيُكنَّ لو تستبدِلْنَ بنصُوصكنَّ نَصَّاً مِمَّا يُكتَب في الإعلانِ عن مَساحيق الغسيل!
فتَنفَّسَ الاحتقانُ والاكفهرارُ، وصَفَّقت الكتبُ بدفَّاتها استحساناً لتعليق المَجلَّة، وسُخريةً من الورقات لحماقتهنَّ وجُرأتهنَّ.
لم ترتح الورقة الثانية– الأمُّ– إلى سخرية المكتبة من بناتها. فراحت تلوم الورقةَ العجوز على التشهير بحفيداتها الورقات قائلةً لها في عتاب:
_ قسَوتِ يا أمَّاه على البنات. ألا ترَينَ أنَّهنَّ إنما يقُلنَ ذلك إحياءً لذكرى أختهنَّ المشطَّبة، وتأثُّراً بفقدها؟
ثم خاطبت الكتبَ الساخرة قائلةً في تحدٍّ:
_ ستكون بناتي أجملَ كتابةً من أيّ منكم. لذلك فأنتم تغارُون مِنْهنَّ!
فتصايحت الكتبُ على الرفوف، وثارتْ روائحُ أحبارها الساخطة.. حتى ارتفعتْ في جوِّ المكتبة لفْحةٌ أطلقها كتابُ تاريخ الأدب من فوق رفِّهِ العُلويِّ قائلاً للكتب الساخرة في توبيخ:
_ كُفُّوا عن التستُّر بالاستنكار والسخرية على حسَدكم لأولئك الورقات!
ففتحت تلك الكتبُ دفَّاتها في دهَش. ثم اعترضت قائلةً بهبَّة واحدة:
_ نحن نحسُد ورقاتٍ لمَّا يَنتهِ تحبيرُهنَّ!
فأجاب الكتابُ الكبير وهو يلتفِت إلى كتاب "أسُس الفلسفة" الذي ظلَّ مُعتصماً بالصمت على رفِّه:
_ لأنَّ تحبيرَهنَّ لمَّا ينتهِ- تحسِدونَهنَّ! إنَّكم تنفِسُون على الورقات إمكانَ مُراجعة ما يُكتَب في بياضهنَّ، بينما لا أملَ لكم في ذلك، فتخضَع نُصوصُكم لاختبار الزمن! 
ووافقَه كتاب "مبادئ علم النفس" الذي استدرَكَ يقول من على رفِّه:
_ وقد يكون هذا الحسَدُ عن وَعْيٍ، وقد يكون عن غير وَعْي!
بُهِتَت الكتب. فأطبقت دفَّاتها لائذةً بالصمت. وعمّ السكونُ المكتبةَ حتى تحرَّكت الورقةُ الرابعة المُنقَّطة على المكتب وساءلت أختَيْها المُخطَّطةَ والأنيقةَ همْساً:
_ ولكنْ.. كيف لنا أن نُراجع نصوصنا؟!
لم تَحِر الورقتان جواباً. وبَدتا كأنَّهما فوجِئتا بالسؤال كأنْ ما كانتا تُعاندان فيه!
وإذا بالورقة المُبيَّضة تَنزَلِقُ عن حضْن أمِّها مُقترِبةً من أخَواتها وهي تَهتِفُ ببَثَّة حبرٍ حماسيَّة:
_ أنا أعرف!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق