الأحد، 15 يناير 2012

القسم 6: الكاتب يزدري بآراء الناشرين ويواصل الكتابة


الفصل العاشر
في الأرض إلى جانب المكتب كانت ورقةٌ صغيرةُ الحجم نسبيَّاً، فيها كتابةٌ عصبيَّة بالحبر الأحمر. وكانت قد انزلقتْ مذعورةً عن سطح المكتب ساعةَ امتدَّت يدُ الشاب الساخطة إلى المخطوطة الأولى فألْقَتْ بها في السلَّة الرهيبة.

لبِثت التوصية مختبئةً وراء رِجْل المكتب، مُنطويةً، لائذةً بالصمت، لا تجرؤ على الظهور حتى اطمأنَّت إلى ذهاب الشابِّ. فانبَسطتْ على أرْضِ المكتبة، مُستقبِلةً الرفوفَ بصفحتها العصبيَّة الاحمرار.
وكان ديوانُ الشعر يقول من فوق رفِّه الأعلى، كأنَّما ليُداريَ إحساسَه الحادَّ بإهمال صاحبِ المكتبةِ له:
_ في الأصل كتَبَني مؤلِّفي الشاعرُ الكبير لنفسه، لا ليقرأني أحدٌ غيره!
وشَملَ المكتبةَ بالتفاتةٍ من غلافهِ المُلوَّن ثم استدرك:
_ ولكنَّ أصدقاءه ومَعارفَه ألَحُّوا عليه في نشري كَيلا يَحرِمَ الملايينَ من شاعريَّته المُرهَفة!
فوق الرفِّ الثاني إلى اليمين انفتح الكتابُ الذي كان الشابُّ قد بدأ قراءتَه ثم قطعَها فجأة، ولمَّا يُواصِلها حتى الساعة– انفتحَ على الصفحة المَطوِيِّ طرَفُها الأعلى إشارةً إلى حيث وصَل الشابُّ بقراءته– وقال مُحتجَّاً:  
_ وماذا في أنْ يرفُضَ الناشرون مخطوطةً له؟ هل يكون في ذلك نهايتُه كاتباً، وقارئاً أيضاً!
وتَحَدَّث كتابُ "أسُس الفلسفة" مُعترِفاً في تواضعٍ نبيل:
_ أذكرُ أنَّ مؤلِّفي- وكان وقتَذاك كاتباً مُبتدئاً– لم يتمكَّنْ من نشري إلّا بعد ثلاث مُحاولاتٍ فاشلة. يعني أنَّ مخطوطتي رُدَّتْ إليه مرفوضةً ثلاثَ مرَّات! ولستُ أخجَل من الإقرار بذلك. فإنَّ رفْضَ بعض الناشرين للعمل لا يعني بالضرورة أنَّه فاشل!
وإذا بهبَّاتٍ من الحبر الأحمر تَعصِف بالمكتبة حارَّةً صارخة:
_ بل فاشلٌ ألفَ مرة !
انتبهت الكتبُ دهِشةً مُستاءةً إلى التوصية المُنبسطة بالأرض إلى جانب المكتب. فسألها كتابُ الفلسفة مُتجاهِلاً:
_ ومَن تكونينَ أنتِ؟
فقالت التوصيةُ رافعةً أعلاها في صَلَفٍ وكبرياء:
_ أنا التي كان يَسعَى صاحبُكم لينالَ رضايَ وموافقتي على كتابته!
تألَّمَت الكتبُ للمَهانة التي لحِقَتْ بصاحبها إذْ سعى بالفعل لينالَ رضَى هذه الورقة المُتبجِّحة، التي كانت سبَبَ هَجْره مكتبتَه، المكتبة التي يَحيا بها وتَحيا به.
وكأنَّما أرادت التوصيةُ أنْ تزيد الكتبَ معرفةً بها، فقالت تَنتَسِب:
_ وإنَّ أسلافي من التوصيات كُنَّ الوساطةَ التي سَمَحَتْ بنشر أكثرِكم!
وبينَما التوصية مُنتشيةٌ بالفخر والتعالي، دخَل الشابُّ مكتبتَه.
راحَ يتمشَّى إزاءَ الرفوف يتأمَّلُ الكتُبَ بعينَين رقيقتَين ، ويمسَح بيدَيه الغُبارَ عن بعضها. فهتَفَ كتابُ علم النفس مُتفائلاً:
_ إنَّه ولا شكَّ يَحنُّ إلينا!
فسأله ديوانُ الشعر في غيظ:
_ فماذا يَمنعُه عنَّا؟
صاحت التوصيةُ من على أرض المكتبة الى جانب المكتب– مأخُوذةً بصَلَفها دون أنْ تدري:
_ إذا كان عملُه الأول غيرَ صالح للنشر، فكذلك سيكون عملُه الثاني. فلماذا العناء؟!

دارَ الشابُّ من حول مكتبه، فانجذَبَ انتباهُه بغتةً إلى ورقةٍ بالأرض. ولعلَّ حبرَها الأحمرَ هو ما جعلَه يتساءل باستغرابٍ ما عساها تكون. انحنَى فالتقَطها. ولكنَّه ما إنْ فَقِهَ فَحواها حتى احمَرَّ وجهُه غضَباً، احمِراراً أشدَّ ربَّما من حُمرة كلماتِها. وبأصابعَ ثائرةٍ مَزَّقها نُتفاً، وألقَى بالمِزَق في السلة!
لبث بُرهةً واقفاً يلهَثُ عاقداً حاجبَيه. وشيئاً فشيئاً عاوَده الهدوءُ فجلس إلى مكتبه. بدا أنَّه تَحرَّر من قيدٍ كان يَغُلُّ يدَه. فأمسَكَ بالقلم وقد تمَطَّى الارتياحُ في قسَمات وجهه.
ولكنَّه توقَّف قليلاً عند الورقة التي كان يرسُم في صدرِها تلك الخطوطَ المُعبِّرةَ عن يأسهِ- آنَذاك-  وضجَره.
تردَّدَ بينَها وبينَ ورقةٍ بيضاءَ جديدة. ثم في حركةٍ لامُبالية بالقلم في يدهِ واصَل الخَطَّ في الورقة نفسها، ولكنْ هذه المرةَ بكلماتٍ يَجِدُ لها المُعجمُ شُرُوحاً في صفحاته،  ولا يَختلِفُ في معناها كتابان.
سطراً تحتَ سطر تَحبَّرت الورقةُ الثالثة. ثم مِن كُداسة الأوراق البيضاء تَحَبَّرَت الورقةُ الرابعة فالخامسة فالسادسة.

الفصل الحادي عشر 
امتَلأ سطحُ المكتب الأحمر على الورقة الثانية بالورقات المُحبَّرات، اللواتي تصاعدتْ مُناغاتُهنَّ الحبريَّة رقيقةً لاهِية. وراحت الأمُّ الجديدة تُهدهِدُهنَّ مُغتبطةً، عامرةَ الصفحةِ بالحنان.
وكانت الورقاتُ يتراكبْنَ في فوضى. فهتفتْ بهنَّ الورقةُ الأولى- جدَّتُهنَّ– مَسرورةً بكثرتهنَّ:
_ يا بنات! انتظِمْنَ ولا تَخْتلِطْنَ، لَئِلَّا يلتبسَ تَرتيبُنا على الكاتب، فَيَضِلَّ عن موضوعه الذي بَدأه على صفحتي!
توقَّفت الورقاتُ عن التزاحُم المرِح لحظةً، ثم عُدْنَ إلى الاختلاط، غيرَ مبالياتٍ في مرحهنَّ بأيِّ تحذير. ولكن َّ الورقة الثانية- الأم- بادرتْ في حزْمٍ باسمٍ إلى ترتيبهنَّ مُتصفِّحةً إيَّاهنَّ ورقةً ورقة:
الورقة الثالثة مُمتلِئةُ الصفحةِ، مُتراصَّةُ السطورِ. لا يَشُوبُها إلَّا هذه الخطوطُ السُّودُ الغريبةُ في صَدرها.
الورقة الرابعة قليلةُ الكلمات، يَكثُر فيها الفَراغُ... والنُّقَط!
والخامسة أنيقةُ الخطِّ بشكلٍ ملحوظ. يبدو أنَّ الشابَّ كتَبَها بعنايةٍ وتفنُّنٍ في رَسْمِ الحُروفِ ووَصلِها بَعضِها ببعضٍ.
أما الورقةُ السادسة فكان فيها الكثيرُ من التشطيب، مِمَّا يَدُلُّ على أنَّ الكاتبَ أكْثَرَ فيها من تعديل أفكاره وعباراته.
اهتزَّت الورقةُ الثانية- الأمُّ الجديدة– إعجاباً ببناتها الأربع. وسألتْ جدَّتَهنّ مُشرِقةَ الصفحة:
_ أَلَسْنَ جميلاتٍ يا أمِّي؟
إلَّا أنَّ الورقة الأولى كانت تَرقُب حفيدتَها السادسةَ بقلق، فلم تنتبهْ إلى سؤال ابنتها حتى احتكَّتْ بها الورقةُ الثانية متسائلةً باستغراب:
_ ما بكِ يا أماه؟
فانطوَت الورقةُ الأولى على نفسها، كاتِمةً عن ابنتها أمراً تخشاه- كما بدا- غيرَ أنَّها قالت لها:
_ لا شيءَ يا ابنتي. لعلَّه خير!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق