الأحد، 15 يناير 2012

القسم 5: الكاتب ينتظر رأي الناشر في مخطوطةٍ سابقة

الفصل السابع 
غابَ الكاتبُ عن مكتبتهِ أياماً عديدة. وهذا ما لم تَعهَدْه المكتبةُ بصاحبها الشابِّ المُثابر.  ولكنَّها أدركتْ أنه يَسْعى في عَرض مخطوطتهِ على الناشرين، لعلَّها تَظفَر بقبُولِهم طِباعَتَها ونشرَها.
كانت تلك المخطوطةُ أولَ عملٍ يُنجزُه الكاتبُ الناشىء. وقد عَكَفَ على تأليفه ما يُقارب عشرةَ أشهرٍ، كانت المكتبةُ تَرقُبُه خلالَها يَقرأ ويُفكِّر ويَكتب، مُنفِقاً الساعات، مُكِبَّاً على مكتبه يُحبِّر الورقةَ تلوَ الورقة حتى جمَعَهنَّ كُداسةً ضَخمة، فوضَعها على الرفِّ حتى تسَنَّى له عَرضُها على ناشرٍ- كما يبدو- فحمَلها إليه. وها هو لم يَرجعْ إلى مكتبتهِ بعدُ. فما أشَقَّ غيبتَه!

حتى موضوعُه الجديد – الذي بدأ الكتابةَ فيه من قبْلِ أنْ يَمْضيَ بالمخطوطة إلى الناشر– لم يَرجعْ إليه ليَستأنفَه. ها هما الورقتان- الأمُّ وابنتُها- مُنطرحتان على سطح المكتب الأحمر تنتظران رجوعَ كاتبهما.
وأخيراً فُتِح بابُ المكتبة عن قامتهِ المديدة.
دخلَ واضِعاً كفَّيْه في جيبَيْ بنطلونه. وراح يتمشَّى مُتباطئاً في الحُجرة الضيّقة، مُستعرِضاً الرفوفَ، ناظراً إلى الكتب كأنَّما يتساءل إنْ كان سيَرى يوماً مُؤلَّفَه بينَها.
إنَّه قلِقٌ ولا شك َّ في انتظار رَدِّ الناشر– أدركت المكتبةُ ذلك، وذَكَرت المخطوطةَ في امتحانها أمامَ الأعين الناقدة لمُستشاري دار النشر. فيا لَلامتحان العسير!
مَضَى الشابُّ فجلَس على الكرسيِّ إلى مكتبه. وقعَتْ عيناه في شُرودهما على الورقتَين اللتين حَبَّرهما لموضوعِه الجديد. تناولَهما وقد عَقَد الاهتمامُ حاجبَيه لأوَّل مرَّةٍ مُنذ دخولهِ المكتبةَ، وراح يَقرَأهُما في إمْعانٍ؛ الأولى فالثانية. بَرَق الإعجابُ في عينَيه. ولكنْ سَرعانَ ما حلَّ مَحلَّه القلقُ كأنه ذَكرَ فجأةً مخطوطتَه الأولى. وتنهَّد في تصبُّر ثم طَرَح الورقتين في رِفْقٍ على سطح المكتب، وقام فغادر المكتبةَ مُتثاقِلاً!
أرسلَت الورقةُ الأمُّ هبَّاتٍ قلقةً من حبرها نحوَ الرفِّ الأعلى إلى الكتاب الكبير تسأله:
_ لماذا لا يُواصل الكتابةَ بنا؟ أخشى ألَّا يُتابعَ موضوعَنا، فنُهمَلَ أو نُرمى على أنَّنا لا نُقدِّمُ مُعالجةً كاملة لموضوعٍ ما.
فطمْأَنَها الكتابُ الكبير قائلاً:
_ لا تقلقي.. سيُواصل الكتابةَ بعدَ أنْ يَطمئِنَّ إلى مصير مخطوطتهِ الأولى.
سكتت الأمُّ متفكِّرةً، ثم عادتْ تَسأل في خوف:
_ وإذا رفضَها الناشرون.. فهل ينقطع عن الكتابة الى الأبد؟
ولكنَّ خبرةَ كتاب تاريخ الأدب لم تستطعْ إجابةَ الورقة القلِقة على هذا السؤال. فطالَ الصمتُ الحبريُّ حتى قالت الورقةُ البنتُ لأمِّها وهي تختَلِج:
_ أُمِّي! شعَرتُ بين يدَيه بإحساسٍ غريب.. كأنَّني أتَمدَّد!
فامَّحَى القلقُ عن صفحة الأم، وقالت لابنتها مُستبشِرةً:
_ خيراً يا أمَلي!


الفصل الثامن
مَضَتْ أسابيعُ قبلَ أنْ يعودَ الشابُّ إلى مكتبتِه.
فَتَحَ البابَ بعصبيَّة ، ثم دخَل وصفقَه وراءَه بشِدَّة. وإذا به يُطَوِّح نحوَ مكتبهِ بالمخطوطةَ المُنتظَرة، في قوَّةٍ حتى أنّ الورقتين المحبّرتين- الأمَّ وابنتَها- ارتفَعتا عن سطح المكتب لحظةً ثم انحَطَّتا من عُنف السقطة.
جلسَ الشابُّ على كرسيّه ينتَفِض غضباً.
تطايرتْ من الكتب على الرفوف النفثاتُ الحبرية تسأل المخطوطةَ عن الخبَر. واشتدَّ التطلُّعُ والإلحاحُ حتى قالت المخطوطةُ بزَفْرة حبرٍ واهية:
_ رفضُوني!
حبَسَت الكتبُ أنفاسَها الحبريَّة بإشفاقٍ شديد، في حين هَتفت الورقةُ الأمُّ على المكتب وهي تَحتَضِن ابنتَها في ذُعر:
_ ماذا؟
وساد الصمتُ. وتطلَّعت المكتبةُ إلى المخطوطة المُنطرحة على سطح المكتب. فشَهِدَت تجعُّدَ أوراقِها، وتكسُّرَها عند الأطراف من كثرة ما عَبِثتْ بها الأيدي. وسألتْها الورقة البنتُ وهي تتخلَّص من تمَسُّك أمِّها العصَبيِّ بها:
_ أخبريني يا خالتي عَمَّا جرى لكِ.
أطلقت المخطوطةُ تنهُّدةً حبرية حَرَّى كانت وحدَها كافيةً لإخْبار المكتبة بما كابَدتْه المسكينة. غيرَ أنَّ الورقة الجديدة ألحَّتْ في طلب التفصيل حتى أنشأت المخطوطةُ تقول في تذكُّر أليم:
_ حُشِرتُ طويلاً في دُرجٍ مُظلم مع غيري من مخطوطاتٍ ننتظرُ دورَنا في العَرض على مُستشاري الدار. آه! كان انتظاراً مُزعِجاً، اختلطتْ فيه أنفاسي بأنفاس ما ابْيَضَّ واسْوَدَّ من أوراقٍ غريبةٍ تنفُث روائحَ أحبارها المُتنافِرة..
وتَلوَّت المخطوطةُ لفداحة الذكرى. ثم واصَلت حكايتَها:
_ وجاء دوري أخيراً. فتناولتْني يدٌ في غير اكتراث، وسلَّمتْني إلى يدٍ غيرها، ومنها إلى يدٍ ثالثة، حتى انتهيتُ على طاولة للقراءة تعُجُّ بالأوراق والأقلام. تمالكتُ حبري وتشدَّدتُ في مُواجَهة الرجل المُشرِف عليَّ من فوق. وإذا بي أتنبَّهُ- عندَ طرَف الطاولة– إلى أوراقٍ مُجعَّدة، وأخرَى مُمزَّقة! فذعرتُ وفقدتُ السيطرةَ على خُطوطي..
هتَفَ بها الكتابُ الكبيرُ مُؤنِّباً:
_ هذا ما حذَّرتُكِ منه!
فقالت المخطوطة وهي تتنهَّد حبراً باهتاً:
_ تراقصَتْ من ذُعري الخطوطُ في صفحاتي. وما لَبِثَ أن مَدَّ الرجلُ يدَيه إليَّ، وراحَ يتصفَّحُني بعَجَلةٍ لم تَمْنَحْني مُهلةً ريثَما أضبِط خُطوطي للامتحان..
ارتفعتْ في فَضاء المكتبة تأوُّهاتُ الخيبة والأسف.
وإذا بصيحةٍ حبريَّة حادةٍ، مُثقلَةٍ بالكبرياء والصلافة، تنطلِق من ورقةٍ استطاعتْ أخيراً أنْ تَنزلِقَ من بين أوراق المخطوطة المرفوضة، فتنْبسِطَ على سطح المكتب صائحةً بحبرِها الأحمر الحادِّ:
_ غير صالحة للنشر!
فسألتْها الورقةُ الأمُّ دَهِشةً وهي تَستشعِرُ خوفاً مُبهَماً:
_ مَن أنتِ؟
فأجابَها الكتابُ الكبيرُ وهو يَهتزُّ أسَفاً:
_ إنَّها تَوصيةُ المُستشار برفْض نَشْر المخطوطة!
واصَلت التوصيةُ كلامَها برائحةِ الحِبْر الأحمر:
_ مَوضُوعُها تافهٌ جدَّاً! لم يُعالجْ أحدٌ من الكُتَّابِ مَوضُوعاً بهذه التفاهة!
هَمَّت المخطوطةُ بالاحتجاجِ الصارخ . ولكنَّ يدَ الشابِّ قبَضَتْ عليها في شِدَّة، فرَفعتْها في الهواء– وَسْطَ شَهْقاتِ الكتبِ على الرفوف– ثم هَوَتْ بها في سَلَّة المُهمَلات أسفلَ المكتب. وانقَطعتْ أنفاسُها إلى الأبد.

الفصل التاسع      
كانت المكتبةُ مُعتادةً على غيابهِ عنها أياماً ولياليَ من آنٍ لآخر. غيرَ أنَّها هذه المرةَ– وقد طالتْ غيبتُه جداً– أحسَّتْ فراغاً كئيباً، زادَه الغبارُ المُتكاثِفُ– ذاك القرينُ للإهْمال والتخَلِّي – كآبةً على كآبة.
تاقَت الكتبُ إلى تصَفُّح عينَيه لعناوينها، وإلى تقليب يدَيه لأوراقها. حتى الكتبُ التي كان يُهمِلُها فتراتٍ متطاولةً، شَعرتْ لغيابه بوحشةٍ وضَياعٍ أدركتْ معهما عُمْقَ حاجتها إلى وجوده – قرَأها أو أهمَلها.
أما الورقتانِ على المكتب– الأمُّ وابنتُها– فكانتا أشَدَّ أهلِ المكتبة ضيقاً بغياب الشابِّ. فإنَّ عَليهِما موضوعاً ابتُدِئ ولمَّا يُنجَزْ، وبِهِما حاجةً إلى الامتداد في أوراقٍ بيضاءَ عديدة، حاجة لا تَنفكُّ تُقلِق مَتْنَهُما، فلا تَلقَيانِ إجابةً لها إلَّا الغبارَ يتساقَطُ على صفحتَيهما، وعلى صفحات كُداسة الأوراقِ البيضاءِ الموضوعةِ إلى جانبهما على المكتب.
ولقد سألت الورقةُ الثانية أمَّها عندما بدأتْ تُحسُّ اضطِراباً في مَتْنِها المُسَوَّد بالحبر:
_ متى يعود يا أُمَّاه؟
فأجابتْها الورقةُ الأولى مَسرُورةً لاضطِرابِ ابنتِها المُبشِّرِ بالخير:
_ قريباً يا ابنتي ، قريباً.
وينفتح ذاتَ صباح بابُ المكتبة.
يدخل أولَ ما يدخل الهواءُ ، يتجاوبُه البابُ مع النافذة المفتوحة دائماً خلفَ كرسيّ المكتب. دار الهواءُ في الحُجرة طارداً الغبارَ عن الرفوف، مُنقّياً جوَّها من بقايا ثرثرةٍ حبرية كانت لا تزالُ عالقةً في زواياها.
ثم دَخل الشابُّ.
استقبلتْه المكتبة برائحةٍ تَعرِفُ أنه يُحبُّها ويرتاح إليها؛ للكتب القديمة رائحة تُميِّز أوراقَها الصفراء، وللكتب الحديثة رائحةٌ تُميِّز أوراقَها الجديدة. وقد امتزَجَت الرائحتان معاً لتَستقبِلا الداخلَ إلى المكتبة بتاريخ الثقافة– من الماضي حتى الحاضر-  مُكثَّفاً في شَمَّةٍ واحدة.
تابعتْه الورقتان بلهْفةٍ يدخل ثم يجلِس إزاءَهما على الكرسيِّ إلى المكتب.
انتظمَتا: ورَقةً أُولَى على سَطح المكتب، فوَرقةً ثانيةً فوقَها. والتَفتَتا في أمَلٍ عارمٍ إلى كُداسة الأوراق البيضاء بجانبهما.
ولكنْ ماذا دهاه؟ إنّ عينَيه شاردتان، يَنظُرُ من فوق المكتب إلى لا شيء! ثم إذا به يتنهَّد تنهُّدةً لَفَحتْ صفحتَيهما بحرارةٍ اضطربتْ لها الورقةُ الثانية في انبساطها إزاءَهُ. فأدرَكت أمُّها الورقةُ الأولى أنّ الحاجةَ إلى الامتداد تتحرَّكُ في مَتْنِ ابنتها، فرَقَّتْ صفحتُها لحالها، ودعَتْها إلى التصَبُّر قائلةً لها وهي تُلامِس قَفاها في حَنان:
_ اصبِري! ليس التحبيرُ بالأمر الهيِّن عليه!
تَصَبَّرت الورقة الثانية وهي تحاول تسكينَ اضطرابِها ما وسِعَها ذلك، حتى شَهِدَت الشابَّ يتناول القلمَ في تثاقُل، فيَضعُ رأسَه في بياض ورقةٍ جديدة إلى جانبها. اشتدَّ بها الاضطرابُ. وأيقنَتْ أنَّها موشِكةٌ على الامتداد..
ولكنَّ الكاتبَ يُحرِّك قلمَه بخطوطٍ غريبة. خطوط تمتَدُّ وتتكسَّر وتدور حولَ نفسِها في غير نظام!
تساءلت الورقةُ الثانية مُنزعِجةً:
_ ما هذا؟ ليست هذه الخطوطُ امتداداً لي.
والتفتتْ إلى أمِّها مستفسرةً. فلم تَحِر الورقةُ الأولى جواباً، ولا عادت تستطيع أن تُخفيَ خشيتَها.
وما زال الشابُّ يَجُرُّ قلمَه في الورقة البيضاء بهذه الخطوط الغريبة، والورقةُ الثانية مضطربةٌ بمَتْنها، حائرةٌ باستفسارها حتى خطَر لها أن تتَّجهَ بالسؤال إلى المُعجم- صديقِها الوَدُود. فنادتْه على رفِّه الرابع في طرَفه البعيد عن المكتب.
فتَح المُجلَّدُ الضَّخمُ دفَّتيه مُنْتبِهاً. فبادرتْه الورقةُ الثانية بسؤالها العاجل:
_ هل لهذه الخطوط معنىً في صفحاتك الكثيرة؟
فسألها وهو يتَّجه ناحيةَ المكتب في ثِقَلٍ:
_ أيَّة خطوط؟
_ هنا في هذه الورقة إلى جانبي.
تشَمَّم المُعجمُ الخطوطَ مليَّاً. ثم أجابَ في إنكارٍ شديد:
_ لا! ليس لهذه الخَربَشة من معنى!
فتدخَّل كتابُ "مبادئ علم النفس"، المُتربِّصُ أبداً بالإشارات ذوات الدلالة النفسيَّة– قائلاً من موقعهِ فوق الرفِّ الثالث إلى يَسار المكتب:
_ بل إنَّ لها معنىً أيَّ معنى! إنَّها تعبيرٌ عن ضجَر الشابِّ ويأسهِ من قبول كتاباته.
ثم أضافَ مُتباهياً بدقَّة ملاحظته:
_ ألا تَقرأون اليأسَ في صفحة وجهه؟
فقالت الورقة الأم مُشفقة:
_ لعلَّه ترَك الكتابة!
وتساءل ديوانُ الشعر مُواصلاً الفكرةَ بنفحةٍ خافِتة:
_ وهل يَترُك القراءةَ أيضاً، فيُهمل المكتبةَ جميعاً!
وما لبث الشابُّ أنْ وضَع القلمَ بغتةً كأنما مَلَّ. ثم وقَف فغادر الحجرةَ تاركاً المكتبةَ في حيرةٍ وتَساؤل وانزعاج، إلَّا كتابَ علم النفْس الذي بدا فرِحاً مُنشرِحاً إذْ رأى خروجَ الشابّ مِصْداقاً لتحليله، فقال في ظفَر:
_ أرأيتُم أنَّه يائسٌ من الكتابة والكُتب بسبب رفْض مخطوطتهِ الأولى؟!
لم يُعِرْه أحدٌ التفاتاً حتى أدركَ- بعد انحسار موجةِ إحساسهِ بالظفَر- خطورةَ الحال، فغلَبه الوجومُ، وصمَت مُشاركاً المكتبةَ صَمتَها ووجُومَها.
أما الورقة الثانية فقد كانت في ضيقٍ شديد، لا تدري ماذا تفعل ولا ماذا تقول؛ أتُراه ترك الكتابةَ حقَّاً، كما تخشى أمُّها. أم تُراه عَدَل عن الموضوع الذي يَبْسِطه على صفحتَيْهما؟ إذا صحَّ أحدُ الأمرَين.. والتمَع في ذاكرة صفحتها مشهدُ المخطوطة المرفوضة وهي تُرفَع في الهواء ثم تُلقَى في السلة الرهيبة! فالتفَتتْ جَزِعةً إلى الورقة البيضاء– المأمُول أنْ تكونَ ابنتَها بالتتالي– بخطوطها الغريبة في صدرها. ثم التفتتْ في استغاثةٍ إلى أمّها بجانبها. فاهتزَّت الأمُّ في أسىً وهي تقول بإنْكار: 
_ ما بهذه الخطوط تَحْيا الأوراقُ وتتتالى!
ولم تَملكْ لابنتها إلَّا النصيحةَ التي لا تجِدُ سِواها:
_ تَصَبَّري يا ابنتي وانتظري. فلا يَسَعكِ إلَّا الانتظار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق