الأحد، 15 يناير 2012

القسم 4: الأعمال الأدبيَّة العظيمة تبدأ بورقة كهذه

الفصل السادس
عُنِيَت الورقةُ الأمُّ بابنتها. فراحتْ تُعلِّمُها أُصُولَ التخاطب الحبريِّ، وطريقةَ التحامُل على نسَمات الهواء للتلَفُّت يَمْنةً ويَسْرَةً، وغيرَ ذلك من العادات والتقاليد الورقيَّة.
وكانت الورقةُ البنتُ تلهُو على صَدرِ أمِّها المحَبَّرِ، يَبرُق في صفحتها الحبرُ الجديد.
وخاطبَ الكتابُ الكبير الورقةَ الأولى قائلاً بعَرفهِ الحبريِّ العميق:
_ ها أنتِ تتعَدَّدين أوراقاً كما يجدُر بورقةٍ لها دائماً ما يَتْلوها. وأتمنَّى أنْ تتعَدَّدَ ابنتُك أيضاً من بعدك، فتتسلسلَ ذُريَّتُكِ ورقةً تِلوَ ورقةٍ إلى أن يُتِمَّ كاتبُك موضوعَه حتى الخاتمة.
ثم قال للورقة البنْت يُوصيها:
_ واصِلي ما بَدأ على صفْحة أمِّكِ.
فرَمَتْه الورقةُ الجديدة بنفْحة إباءٍ طفوليٍّ:
_ لا شأنَ لكَ بي!
فشَهقت الأمُّ إنكاراً. ثم لفَحَت ابنتَها بهبَّة تأنيبٍ ساخنةٍ تقول لها:
_ عَيْبٌ أن تَهُبِّي هكذا على الكتاب الجليل!
فقال الكتابُ بنسمة حبرٍ مُتسامِحة:
_ دعيها. إنَّها مُشاكِسة ولكنَّها جميلة!
الحقُّ أنَّها كانت جميلة. تَنبَّهَتْ إلى ذلك الكتبُ على الرفوف، فاتَّجَهتْ نحو المكتب الأحمر تُبدي إعجابَها بالورقة الجديدة إلى جانب أمِّها. وكانت الورقةُ تتَمنَّع على نسمات التدليل التي تنفحُها بها الكتبُ المُعجَبة، مُحتميةً في غُنجٍ بصفحة أمّها، وهي تُطلِقُ نفحاتٍ حبريَّة مرِحةً ملأتْ جوَّ المكتبة المُتجهِّم بالبهْجة والحُبور.
وأشارت الورقةُ الجديدة إلى مُجلَّدٍ لَفَتَ انتباهَها بضخامتهِ في طرَف الرفِّ الرابع إلى اليسار، وسألت أمَّها في انفعالٍ ساذج:
_ مَن هذا يا ماما؟
تنبَّهَ لها الكتابُ الضخم، في حين قالت الأمُّ تُجيبُها:
_ إنَّه المُعجَم يا ابنتي، مُعجَم اللغة العرَبيَّة.
فقال المُعجَم للورقة الجديدة وقد هَزَّهُ استعظامُها له:
_ ما من كلمةٍ فيكِ إلَّا وبي مَعناها وشَرحُها!
وإذْ لاحَظ أنَّها لم تَفهَمْه أو لم تُصدِّقْه، راح يُقلِّبُ لها صَفحاتهِ المُكتظَّةَ- مُستعيناً بنسَمات الهَواءِ الآتيةِ من النافِذة المفتوحةِ وراءَ المكتب- ويَدُلُّها على مَعاني الكلِماتِ التي خُطَّتْ فيها، حتى عَجِبَت الورقةُ أعظمَ العَجَبِ لقُدرتهِ واستيعابه.
ولكنّ ذلك أحفَظَ كتابَ "المُقتضَب في النحوِ والصَّرف" على الرفِّ الخامس إلى اليسار، فقال للورقة الجديدة مُحذِّراً فيما يُشبِه الدُّعابةَ:
_ لا تستطيعينَ أنْ تَخرُجي بعباراتكِ عَمَّا أفرِضُه من قواعد.. وإلّا أَعْمَلتُ فيكِ التشطيبَ!
أفزَعَتْ هذه الدُّعابةُ- التي كانت كَلَفْحةٍ من ريح السّموم- الورقةَ الجديدة من "التشطيب" الذي لم تفهمْ أكثرَ من أنًّه شيءٌ يُخوَّفُ به ويُخافُ منه. فسألتْ أمَّها في وَجَل:
_ ما التشطيبُ يا ماما؟
فأجابتْها الأمُّ بتلطُّفٍ وهي ترمي الكتابَ الصارمَ بهبَّةٍ قاسية:
_ لا تخافي يا بُنيّة! لقد عصَمكِ كاتبُنا من خطره.
_ وما خطرُه يا ماما؟
ولم تَشأ الأمُّ أن تُفزِع ابنتَها. فتردَّدتْ في جَوابها حتى تدَخَّلَ كُتَيِّبُ "ألف باء الإملاء" على الرفِّ الرابع شارِحاً باندفاع:
_ إذا كثُرَ التشطيبُ في ورقة، فرُبَّما رُمِيَتْ أو مُزِّقتْ بعد نَقْلِ ما سَلِمَ فيها من عباراتٍ إلى ورقةٍ أُخرى!
ولم يعُدْ كتابُ "أصُول الكتابة" المُغبَّر يستطيع البقاءَ صامتاً على رفِّه الثالث إلى اليمين. فإذا به يُصفِّق بدفَّتَيْه- ليلفتَ الانتباهَ- ناشراً رائحةَ حبرهِ المختلطةَ بالغبار المُتكاثِف عليه، مُنادِياً الورقةَ الجديدة على المكتب:
_ أيَّتُها الورقة!
فحذَّرتْها أمُّها قائلة:
_ لا تَسْمعي له! فإنَّ كاتبَنا لم يُهمِله إلَّا لأنَّه لا يَستحِقُّ اهتماماً!
ولكنَّ كتابَ الأصُول واصَلَ خِطابَه للورقة الجديدة قائلاً في تنديم:
_ لو كان كاتبُكِ قد قرَأ فيَّ شيئاً لانتفعْتِ به!
فسألتْه الورقةُ البنتُ ببراءةٍ على الرغم من مُحاولة أمِّها طيَّها عنه:
_ ولماذا لم يَقرأْ فيكَ شيئاً؟
فبادَر الكتابُ الكبير- الشاهدُ دائماً- يقول بصراحة مُمزِّقة:
_ لأنَّ أصُولَه قد شاختْ، وترَكها فنُّ الكتابةِ وراءَه في تطوُّره المُستمِرِّ!
فصاحَ به كتابُ الأصُول قائلاً في غيظ:
_ وما أدراكَ أنتَ؟
فانفرَجتْ دفَّتا الكتابِ الكبير عن ابتسامةٍ هازئة. ثمَّ أبرَزَ عُنوانَه المُخطَّط على غلافهِ بالقلم الثُّلثيِّ العَرِيض:
دراساتٌ في تاريخ الأدب العَرَبيِّ
الكتبُ الفَخمَةُ التجليدِ، والمُذهَّبةُ العَناوينِ التي على الرفِّ الرابع بالجدار الأيمن، كانت دائماً نائيةً بنفسِها عمَّا يَهُبُّ في جوِّ المكتبة من حولِها. ولكنَّ كتاباً مِنها سَميكاً، كثيرَ عددِ الأوراق بينَ دفَّتَيْه، مَيَّزَ من خِلالِ اللغَطِ الحبريِّ نفَحاتٍ عَذْبةً رقيقة. أطلَّ من عَليائهِ نحوَ المكتب الأحمر، فشهِدَ الورقةَ البنتَ في حِضن أمِّها تَزْهُو بحبرِها الجديد. فهمَسَ لأقرانهِ باهتمام:
_ هل تَنَبَّهتُم إلى تلك الورقةِ على المكتب؟
انزعَج الكتابُ الذي إلى يساره إذ انتَبَهَ من استغراقه بنفسه. فلفَحَ الكتابَ السَّميكَ قائلاً بحِدَّة:
_ ماذا ستكون؟ إنَّها بالتأكيد كغَيرها من الأوراق التي يُحبِّرُها الهُواةُ من هذا الجيل.
فقال الكتابُ السَّميكُ وقد هَزَّتْه مشاعرُ أبُوَّةٍ أصيلة فيه:
_ إنِّي أتَوَسَّمُ فيها شَبَهاً بأوراقي.
_ لقد انقَطعَ أشباهُنا من زَمان. ما فيها إلَّا هُراءٌ حِبْريٌّ!
انتَشرتْ بَثَّةُ الحبْرِ هذه، فخَرَجتْ عن نِطاق التهامُس بَينَ الكتابَينِ حتى بلَغَت المكتبةَ جميعاً، كما بلَغَت المكتبَ أيضاً. فتألَّمَت الورقةُ الأمُّ لهذا القَول تُقابَل به ابنتُها الجميلة، وكانت تَحسَبُها- كما تحسَب كلُّ أمٍّ ابنتَها- أَجْملَ الأوراق المُحبَّرة. فارتَفعَت الأمُّ بنِصفِها الأعلى في مُواجَهَة  الرفِّ الرابع، غيرَ ناسيةٍ أنَّها إنَّما تُواجِه الكُتُبَ ذات الشُهرة الذائعة، والفَضل المَشْهُود به على كلِّ ما لحِقَ بها من كتاباتٍ أدبيَّة- كما كان أخبَرَ المكتبةَ بذلك الكتابُ الكبيرُ، كتابُ تاريخ الأدب- وقالت للكتاب المُتكبِّر بنَفْحة عِتاب:
_ أُذْكُرْ يا سيِّدي أنَّ أوائلَ ورَقاتِك ظُنَّ بها من قَبْلُ ما تَظنُّه أنتَ الآنَ بابنتي!
فصارحَه صديقُه الكتابُ السَّميك قائلاً له بنفحةٍ مُخفَّفة:
_ كنتَ قاسياً في حُكمكَ على تلك الورقة. الأوراقُ الجديدة بحاجةٍ إلى تشجيعنا.
فقال كتابُ تاريخ الأدب مُؤمِّناً على هذا الكلام:
_ نعم! ولقد درَستُ كثيراً من الأعمال الأدبيَّة العظيمة فوجَدتُها تَبدأ بورقةٍ كهذه!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق