الأحد، 15 يناير 2012

القسم 3: تخلُد المخطوطةُ إذا أتت بجديد

الفصل الخامس
تَواصَل الصمتُ الحبريُّ دقائقَ طويلةً حتى ارتفَعتْ نَفْحةُ حبرٍ من كتابٍ عتيقٍ مُهَلهَلِ التجليدِ- فوقَ الرفِّ الثالث إلى اليمين- يقول في حنينٍ للذكريات:
_ ما زلتُ أذكر ما حدَّثتْني به جدَّتي- المخطوطةُ الأولى للكتاب الذي أنا نُسخةٌ من نسخاته العديدة- يومَ حمَلها كاتبُها ليعرِضَها على دار نشر. قبِلَها مُستشارو الدار حالَ قراءتها. وأَوْصَوا بطبْعها فوراً. وعند صُدور الطبعة الأولى من الكتاب تَسَابَقَ القُرَّاءُ إلى اقتِناء نسخاته حتى نَفدَتْ. فبادرت الدارُ إلى إعادة طبعهِ مرةً ثانيةً وثالثةً ورابعة.
فانعَطفَت الورقةُ الأمُّ نحوَ الكتابِ العتيق على رفِّهِ، وسألتْه في إعجاب:
_ وأينَ هي جدتُكَ المخطوطة اليوم؟
فقال بفَخار:
_ إنَّها محفوظةٌ في دار المحفوظات النادرة!
وقال كتابٌ مُزخرَفُ الغلافِ على الرفّ الرابع إلى يَسار المكتب:
_ مخطوطتي الأصليَّةُ بيعَتْ في مَزادٍ عَلنيٍّ بالملايين من الليرات. وهي اليومَ ملكٌ لعائلةٍ من الأعيان يتوارثُها أبناؤُها مُقتَنىً ثميناً!
ونسَمتْ رائحةُ حبرٍ باهتٍ من كتابٍ مُصفَرِّ الأوراقِ على الرفّ الخامس إلى اليمين قائلاً في أسىً مُفْعَمٍ بالاعتزاز:
_ أما مخطوطتي فقد ضاعَتْ من زمان. ولكنْ ما أعظمَ حَسرةَ المُثقَّفين عليها!
تَحرَّكَ الطموحُ في صَدر الورقة الأمّ. فانبسَطت على سطح المكتب، وفاح عَرْفُ حبرِها تقول حالمةً:
_ أتمنَّى أن أُحفَظَ أنا وابنتي وبناتُ ابنتي على أعلى رفٍّ بين المخطوطات النادرة!
فبرَز كُتيِّبٌ مُهمَلٌ في آخر الرفِّ الأسفل إلى اليسار. ونَفَخَ حبرَه في كبرياءٍ قائلاً وقد وجَد أخيراً الفرصةَ للكلام:
_ ما كلُّ ورَقةٍ إذا تَحَبَّرَتْ تُحفَظ مَخطوطةً. بل إنَّ أكثر الأوراق المُحبَّرة إلى فَناء!
فسألتْه الورقة باهتمام:
_ فأيُّ الأوراق تخلُد؟
فبادرَ إلى الإجابة ديوانُ الشعر نافثاً نسَماتٍ من حبره، مُتقطِّعةً مُتلاحِقة:
_ تلك التي
حُبِّرتْ بالعَرَق
بالدمُوع
بالدم!
لم تَفهَم الورقةُ شيئاً. فقال الكتابُ الكبيرُ من فوق رفِّه الأعلى مُفسِّراً:
_ تخلُدُ المخطوطة إذا أتَتْ بجديدٍ لم يَسْبِقْ له أن خُطَّ في أوراقٍ من قَبلُ.
فقال كُرَّاسٌ في "العلوم الطبيعية":
_ كأنْ تَكشِفَ في الطبيعة عن حقائقَ لم تكن معروفة.
وقال "الجديدُ في التاريخ":
_ أو أنْ تُؤرِّخَ لمرحلةٍ من تطوُّر المجتمع الإنسانيِّ كان قد أَغفلَ ذِكرَها المُؤرِّخون.
وقال "بحثٌ في العلوم الاجتماعية والسياسية":
_ أو أنْ تُقدِّم لمجتمع البَشَر اقتراحاتٍ جديدةً لأنظمةٍ تَعِدُ بالترقِّي والازدهار.
وقال "المُنتقَى من الأدب":
_ أو أن تُعبِّرَ عن مَشاعر الإنسان تعبيراً صادقاً بأسلوبٍ مُبتكَر.
هالَ ذلك الورقةَ الأمَّ. وبدا لها طموحُها المُستجِدُّ صعباً، بل مُستحيلاً. وكاد اليأسُ يطمِس الحروفَ في صفحتها. وإذا بنسْمة حبرٍ رقيقةٍ ترتفعُ في فَضاء الحجرة:
_ ماما!
إنَّها الورقةُ الطفلةُ نَفحَتْ تُنادي أمَّها لأوَّل مرَّة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق