الأحد، 15 يناير 2012

القسم 2: الورقة الأولى تلد ورقة ثانية وتُباهي الكتبَ بجمال ابنتها

وعاد الكاتبُ إلى ورقتهِ مرةً بعد مرةٍ، في ذلك اليوم وفي الأيام التالية. وكان في كلِّ مرَّةٍ يُضيف إلى ما كتَبه فيها مُلاحظاتٍ في هامِشها، وشُروحاً في حاشيتها، وبعضَ التعديلات الطفيفة في مَتْنها، حتى امتلأت الورقةُ بما اتَّصَل وما انفَصَل من حُروف الأبجديَّة، فلم يَبْقَ في بَياضِها مُتَّسَعٌ لكلمة.
شَعرَت الورقةُ بهذا الامتلاء يُثقِل مَتْنَ صفحتها، حتَّى تنبَّهتْ لأوَّل مَرَّةٍ إلى أوراقٍ بيضاءَ كثيرةٍ كانت مُتكدِّسةً تحتَها على سطح المكتب. 
وتاقتْ نفسُها إلى الامتداد في هذه الأوراق، كأنَّ شيئاً في مَتْنِها قد أوشَك أنْ ينْفصِلَ عنها ليتَّخذَ له وجوداً بالورقة التي تَليها في كُداسة الأوراق البيضاء.
وكان الشابُّ يُحدِّق مرةً في سُطور ورَقتهِ، صامتاً مُفكِّراً وقلمُه بين أصابعهِ فوقَها- برأسهِ المُدبَّبِ السَيَّال حبراً– ينتظر. اضطرَبَ متنُها بما تآلفَ من الحُروف في صفحتها، تآلُفاً وَلَّدَ فيها المعانيَ تِلْوَ المعاني.. حتى ضاقَت الصفحةُ بالمعاني المُوَلَّدةِ التي لا بُدَّ لها من التجَسُّد في حُروفٍ تتآلفُ تآلُفاً جديداً في أوراقٍ جديدة. وإذا بعينَي الكاتب تَبْرُقان فجأةً، فيَتناول بإصْبعَيه الورقةَ المُحبَّرةَ، ويَرفعُها عن كُداسة الأوراق تحتَها، ثم يَبسِطُها إلى جانبها كاشفاً عن ورقةٍ بيضاء.
ولكنَّ الشابَّ عادَ فتردَّد. وطالَ تَفكُّرُه حتى صرَختْ به- في مُعاناةٍ- الورقةُ الأولى المَليئةُ، المُنطرِحةُ إلى جانب الكُداسة البيضاء:
_ خلِّصْني!
وتَحرَّكَ القلمُ في صفحة الورقةِ البيضاء. وتابَعت الورقةُ الأولى رأسَه الدقيقَ وهو يُحبِّرها سطراً في إثر سطر.
تابعتْه في ابتهاجٍ وأمل. كما تابعتْ عينَيْ صاحبهِ، إذْ تتنقَّل حَدَقتاهُما المُتلألئتانِ بالحماس بين سطورها لحظةً، ثم تعودانِ إلى الورقة الثانية، تُلاحِقانِ ما يخُطُّه فيها بقلمه.
امتلأتْ بالسطور الورقةُ الجديدة. فنَقَشَ الكاتبُ نقطةً في آخر صفحتها بعدَ آخر كلمة، ثم تراجَع بظهْرهِ إلى مَسند الكرسيِّ.
تحامَلت الورقةُ الأولى على جَناح الهواء، وانعطفَتْ تَشْهَد- في حنانٍ وغبطةٍ- الورقةَ الثانية تَلتمِعُ بخطوط الحبْر الجديد. ولكنْ كأنَّ شيئاً في سُكون طَرْف الشابِّ قد أَوْقَعَ فجأةً في نفْس الورقة الأولى خوفاً عظيماً! فانبسطتْ نحو وجهِه تُلاحظ عينَيه وقد أخذتْها رِعْدة. بَدتْ لها حَدَقتاهُ خاملتَين وهما تتأمَّلان ما كتَبه في الورقة الجديدة بين يدَيْه. ثم عادت تَشهَدُ الورقةَ المُنبسِطة هانئةً بالارتواء من الحبر، غافلةً عمَّا ينتظرها. فتمزَّق قلبُها خشيةً عليها، والتفتتْ إلى عينَي الشابِّ في جَزَع..
في أعماق سَوادهما لمَحتْ بَصيصاً من نُورٍ ما لبِثَ أنْ تَوَهَّجَ حتى تألَّقَت الحدَقتان بالاستحسان!
رَفَع الشابُّ بيده الورقةَ الجديدة، فألْقاها في رِفْقٍ فوقَ الأولى.
وأخَذت الأمُّ وليدتَها في أحْضانها.

الفصل الرابع
هَنَّأت المكتبةُ الورقةَ الأمَّ على تَحبيرِ ابنةٍ لها تالِيةٍ. ونَسَمَتْ عليها الأحبارُ الطِّباعيَّةُ من فوق الرفوف نَفَحاتٍ عَذبةً تَبْعَثُ بها إلى الأمِّ على سطح المكتب كتُبٌ كثيرةٌ مختلفةُ المواضيع.
فقال كتابٌ مُعَنْوَنٌ " كلماتٌ لجميعِ المُناسَبات":
_ نُهنِّئُكم على افتِتاح فرعٍ جديدٍ لشركتِكم..
ولكنَّه سَكتَ فجأةً مُدرِكاً خطأه، ثم فَرَّ أوراقَه بسرعةٍ وارتباكٍ حتى توقَّفَ عند صفحةٍ منه، فتنحنَحَ ثم قال:
_ مُباركةٌ ابنتُكِ الجديدة. ونتمنَّى أنْ يكون لكِ منها ذُرِّيةٌ صالحة.
وقال لها كُتيِّبٌ رَقيقٌ- مكتوبٌ على غِلافه " العناية بالأمّ والولد"- ناصحاً:
_ عَزِّزي ارتباطَها بكِ بمُلامَستِها وإشعارِها بحَنانِكِ، فتُؤَسِّسي لعائلةٍ مُترابِطة.
وفَجأةً نفَضَ عنه الغبارَ المُتكاثفَ كتابٌ في آخر الرفِّ الثالث إلى يَمينِ المكتب، فبانَ عنوانُه "أصُول الكتابة ". ويبدو أنَّه كتَمَ ما بنفسهِ طويلاً إذْ ما إنْ فتَح دفَّتَيْه حتى هاجَ حبرُه صائحاً، مُخاطباً الورقةَ الأمَّ:
_ لمْ يتَّبعْ كاتبُك أصُولي، لا في كتابتكِ ولا في كتابة ابنتك!
فأجابتْه الورقةُ الأمُّ غيرَ قاصدةٍ استفزازَه:
_ لعلَّ بذهنهِ أصُولاً أخرى يُريد اتِّباعَها.
فنفَخ الكتابُ حِبرَه في غيظٍ:
_ لا أصُولَ للكتابة غيرَ التي أنُصُّ عليها! وإنِّي أُنْذِركما– أنتِ وابنتك– بالرَّمْي في السلَّة!
ثم أطبَقَ دفتَيْه ناشراً حولَه سَحابةً من الغُبار.
بُهِتَت الورقةُ الأمُّ فلَبِثت ذاهلةً على سطح المكتب.
ولكنَّ الكتابَ الكبيرَ فوق الرفِّ الأعلى قال يُطمئنُها وهو يُشير إلى كُتُبٍ عَديدةٍ ، فَخمَةِ التجليدِ الفنِّيِّ، مُذهَّبةِ العَناوينِ، تَصطفُّ على الرفِّ الرابع بالجدار الأيمَن من المكتبة:    
_ لا تَجزَعي! فلطالما شَهِدتُ كاتبَكِ يُكثِرُ من قراءة أعْظَم الكُتبِ في فنِّه. والمِثالُ الحَيُّ خيرٌ من أيَّةِ أصُولٍ جامِدة.
انتفضَت الورقةُ الأُمُّ من ذهُولها، فهتَفت وهي تَحتضِنُ ابنتَها بقوَّة:
_ لن ينالَ ابنتي أيُّ سُوء!
عند ذلك تَلوَّتْ فوقَ الرفِّ الثاني المَخطوطةُ القلِقةُ، الخائفةُ من سَلَّة المُهمَلات، وخاطبت الورقةَ الأولى برجاء:
_ تمنَّيْ لي ذلك أنا أيضاً أيَّتها الأمُّ! 
الحقُّ أنَّه لم يكُن قد مضَى وقتٌ طويلٌ على انتهاء الكاتب من تحبير هذه المخطوطة- حوالَي الشهر– ولقد عَلِمَتْ أنَّه يَسْعَى في سبيل عَرْضِها على الناشرين. وها هي تنتظر على الرفِّ - في جَزعٍ أقلَقَ خطوطَها الحبريَّة.
بَيدَ أنَّ انتظار المخطوطة لم يَمْتدَّ أبعدَ من صباح اليوم التالي عندما فتَح الشابُّ بابَ مكتبتهِ، ودخَل على عجَل.
اقترَبَ من الرفوف المرصُوصة كتُباً، فمدَّ يدَه إلى الرفِّ الثاني وتناوَلَ المخطوطةَ. ثم راح يَفرُّ أوراقَها كأنَّما ليتأكَّدَ من اكتِمال عددِها، أنْ تكونَ انزلقَتْ ورقةٌ سَهْواً.
أدرَكت المكتبةُ أنّه قد آنَ الأوانُ. فانحبَسَت أنفاسُ الحبر في صدور الكتُب التي كانت ما بين مُشفق ومُترقِّب. ولم يعُدْ يُسمَع إلَّا نفثاتٌ مُتقطِّعةٌ من حبر أوراقِ المخطوطة وهي تَتتابع هابِطةً، الواحدةُ فوقَ أُختها، بين يَدَي الشابِّ الذي يَفِرُّها. وكانت هذه النفَثاتُ تقول على التتابُع:
الورقة الأولى: موجودة! الورقة الثانية: حاضرة! الثالثة: أنا هنا! الرابعة: حاضرة!... الأخيرة: تمَّ عددُنا!
وَضَعَ الشابُّ المخطوطةَ على سطح مكتبهِ إلى جانب الورقة الأمِّ وابنتِها وكُداسة الأوراق البيضاء. ثم انحنَى يَبحثُ في الرفِّ الأسفل حيث يَخزِنُ قرطاسيَّتَه.
تطلَّعَت الورقةُ الأمُّ إلى المخطوطة المُنتظِرة، ثم سألتْها في تَهيُّب:
_ ماذا تتوقَّعين؟
فانعَطفت المخطوطة نحوَها مُتشجِّعةً وقالت:
_ أنْ تُطبَعَ عنِّي نسخاتٌ كثيرة تنتشر في العالم أجمَع!
سكتت الورقةُ قليلاً ثم عادتْ تسألها بصراحة:
_ هل أنتِ خائفة؟
فانتفَضَت المخطوطة بإباءٍ وقالت:
_ لقد كتَبني صاحبُنا في حرصٍ شديدٍ على إرضاءِ أيِّ ناشر!
ثم أضافتْ وهي تنبسِط في توتُّر:
_ لا! لستُ خائفة. عندي ثقةٌ بكاتبي.
استخرَج الشابُّ ظرفاً كبيراً أصفرَ اللون. ثم تناوَل المخطوطةَ عن المكتب. إذ ذاك ارتجَفتْ أوراقُها في يده حتى خشخشتْ، بينما تسابَق أصدقاؤها من الكتب إلى وَداعِها من على الرفوف:
_ فَليَصْحَبكِ التوفيق!
_ ولتجِدي الأعينَ المُقدِّرة!
_ تَرجِعينَ مُكرَمة!
أما ديوانُ الشعر، المرتفعُ فوقَ الرفِّ الأعلى إلى اليسار، فقد انتفَشتْ أوراقُه انتفاشاً،  وبَدا كأنَّه غاضبٌ يوشِك أنْ يَنفجِرَ غضباً، ثم صرَخ:
_ مُعجِزة!
وسكتَ طويلاً حتى كادت المكتبةُ تنصرِف عنه. وإذا به يَصرُخ مرةً أخرى:
_ مُعجِزة! كلُّ حرفَيْن يَجتمعان في ورقة مُعجزة! أذاهبةٌ أنتِ أيَّتُها المخطوطةُ لامتحان قبول؟  ماذا يَمتحِنُون؟ المُعجزة! معجزتُكِ أعظمُ منهم جميعاً! لا تذهَبي! فَلْيأتوا هم ليشْهَدوا اجتماعَ الحُروف في ورقاتك، وليقدِّموا لكِ فُروضَ التبجيل والتعظيم!
وأوصاها الكتابُ الكبير قائلاً بوضوح:
_ أُثبُتي أمام مُستشاري الناشر، ولا ترتَعِدي بينَ أيديهم، فتَتراقصَ الكلماتُ تحتَ أعينهم المُتعجِّلة، وينصرِفوا عن القراءة مُلقينَ باللوم على كتابةِ صاحبنا. وتَذكَّري أنَّ نجاتكِ في نجاحه.
فرَصَّت المخطوطةُ أوراقَها وهي تقول:
_ اُدعُوا لي بالقبول..
ولم تُكمِلْ كلامَها لأنَّ يدَ الشابِّ أودَعَتْها في الظرف الكبير، فانحبسَتْ نفَثاتُ حبرها العصَبيَّة.
حمَل الكاتبُ المخطوطةَ تحتَ إبطهِ، وخرَج من المكتبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق