الأحد، 15 يناير 2012

القسم 1: الورقة البيضاء تتحبَّر وتعي ذاتها وانتماءها إلى عالم الأوراق المُحبَّرة

وأخيراً جرَى القلمُ في بَياض هذهِ الورقةِ التي انتظرتْ مبسُوطةً على سَطح المكتب أياماً عديدةً مُتطاولة.
سالَ الحبرُ الأسودُ من فوهة القلمِ الدقيقةِ خُطوطاً رقيقةً، تتَّصل حيناً، وتنقطع حيناً آخر، في استقامةٍ فانحناءٍ فاستدارة. ولا زالت السطورُ الحِبريَّة تمتَدُّ وتتتابع مُتوازيةً مُتقاربةً حتى مَلأت بياضَ الصفحة الواسعة المُستطيلة.
طرَح الكاتبُ قلمَه إلى جانب الورقة. وراحَ يتأمَّل ما كتبَه فيها بُرهةً، ثم قامَ فغادر مكتبتَه.
استلقَت الورقة على سطح المكتب في امتلاءٍ وارتياح.
الحبرُ إذاً هو ما كان يَحتاجُه بياضُ صفحتها!
كانت الورقة ـ قبلَ أنْ يُحبِّرها القلمُ ـ تَطفُو في فراغٍ أبيض. تنتظر، ولا تدري حتى ما الذي تنتظرُه! وتشعُر بحاجتِها إلى شيءٍ، ولكنَّها لا تدري ما هو! وقد أثارتْ حاجتُها المُبْهَمة هذه ـ في نفسهاـ قلقاً متزايداً... حتى حرَّك الكاتبُ رأسَ قلمهِ في بَياض صفحتها. عندَ ذاك تَشرَّب نسيجُها الحبرَ في حذرٍ أوَّلَ الأمر، ثم في لهفةٍ كأنَّما يُلاحِق فوهةَ القلم السائلةَ حِبْراً بشفتَيْن ترتَضِعانها في غبطةٍ وهَناء إلى أن ارتفع القلمُ عن الصفحة وقد تسَوَّدَ بياضُها بالحبر من أعلاها حتى أسفلها. 
وجعلت الورقةُ تتَملَّى شعورَها الجديد بالارتواء من الحبر؛ تُتابع تغلغُلَه في نسيجها، ويأخُذها في ذلك ارتياحٌ واسترخاء.
وهي كذلك إذا بها تتلقَّى هبَّةً من رائحة حِبر.
لم تفقَهْ شيئاً، لكنها اضطربتْ في استلقائها على سطح المكتب.
ثم تلقَّت هبَّةً ثانية. وتبِعتْها هبّاتٌ متتالية.
تَنَسَّمَت الورقةُ بصفحتها رائحةَ الحبر المُتطاير مرةً ومرةً ومرةً حتى تفهَّمتْ هبّاته تلك، مَعَ تغلغُل الحبر في نسيجها؛ إنها كتبٌ كثيرة، مصفوفةٌ وقوفاً الواحدُ إلى جانب الآخر، على رفوفٍ مُمتدَّة، يَعلُو بعضُها بعضاً، مُثبَّتةٍ في الجدارَين عن جانبَي المكتب. وكانت هذه الكُتبُ تخاطب الورقةَ بروائح أَحْبارها الطباعيَّة.
وباستِكمال تغلغُل الحبر في نَسيجها- تعلَّمت الورَقةُ الرّدَّ على رسائل الرائحة الحبريَّة تلك بهبَّاتٍ تَنفُثها هي من رائحة حبرها الكتابيِّ.
وهكذا دارَ، أو على الأدقِّ: فاحَ، بين الورقة على المكتب، والكتبِ على الرفوف عن جانبَيْه، ما يُمكِن ترجمتُه إلى الحوار التالي:
_ أهلاً بكِ في عالم الأوراق المُحبَّرة!
فاح بهذا الترحيب الحِبرِيِّ كتابٌ كبيرٌ يُطلُّ من فوق الرفِّ الأعلى بالجدار عن يَمين المكتب، تَصْطفُّ إلى جانبَيْه كتبٌ كثيرةٌ مُتَنوِّعةُ الأحجامِ والعَناوين.
فأطْلقَت الورقةُ الجديدة نفَثاتٍ من رائحة حبرِها، مُتقطِّعةً، في مُحاوَلة النُّطق الفَوَّاح:
­­_ أ.. أهلاً!
_ كنتُ أرقُبُكِ وصاحبُنا يكتُب فيكِ تأليفَه من الحبر.
_ ...
_  ما كان أطولَ انتظاركِ مَبْسُوطةً على سطح هذا المكتب، والكاتبُ جالسٌ إليكِ، في يده القلمُ فوق صفحتك البيضاء ساكنٌ لا يتحرّك. فإذا به يهُزُّه بين أصابعِه ثم يعود إلى السكون طويلاً، ثم يضَع رأسَه في أوَّل صفحتك دون أن يُحرِّكه بالكتابة، ويعود فيرفعُه عنكِ ولمَّا يَكتبْ في بياضك حرفاً!
فأجابت الورقةُ الجديدة بنَفحات حبرٍ رقيقةٍ مُتردِّدة:
_ لم .. أكنْ .. أعرف ما أريد.
فقال الكتابُ الكبيرُ مُتفهِّماً:
_ كنتِ عَطشَى للحبر يا صغيرة. ولقد أقلقكِ الفراغُ في صفحتكِ..
_ ذكَّرتِنا بفَراغِنا من زمان!
كانت هذه نَفْثَةً من رائحة حبرٍ كِتابيٍّ تلقَّتْها الورقةُ من ناحيةٍ أخرى لم تَستطعْ تحديدَها.  فقال لها الكتابُ الكبيرُ من على رفِّهِ الأعلى إلى اليمين:
_ إنَّها أوراقُ مخطوطةٍ على الرفِّ الثاني إلى اليسار تُخاطبكِ.
فهتَفت بها المخطوطةُ بهبَّة حبرٍ قويَّة:
_ ها أيَّتها الورقة.. نحن هنا!
حاولت الورقةُ الالتفاتَ بطرَفها الأعلى. فراحت تشُدُّ نسيجَها وتتلوَّى حتَّى تعلَّمت التحاملَ على نسائم الهواء التي تدور في الحجرة آتيةً من النافذة المفتوحة في الجدار خلفَ كرسيِّ المكتب . واشْرَأبَّت الورقةُ بطَرَفِها إلى الرفِّ الثاني. فعادت أوراقُ المخطوطة تقول:
_ ذكَّرتِنا بفراغنا من زمان. يا لَلحنين إلى الفراغ الأبيض! فيه إبهامُ الحاجةِ، وقلقُ الانتظار، نعم! إلَّا أنَّه أهدأَُ للبال من امتلائنا بالحِبر!
فقال الكتابُ الكبيرُ مُخاطباً أوراقَ المخطوطة في عتاب:
_ رِفْقاً بالورقة الجديدة. فما زالت حديثةَ العَهْدِ بالحبر حتَّى تَبُثُّوها همُومكُنَّ!
عادت الورقة إلى الانبساط مُتلقِّيةً هبَّات الكتاب الكبير من الرفِّ الأعلى. ثم سألتْه بنَفْحة حبرٍ رقيقة:
_ ماذا .. ماذا يَقصِدنَ؟
تردَّد الكتابُ الكبيرُ مَليَّاً ثم قال للورقة:
_ التفتي إلى تلك السلَّة أمام المكتب.
فتلفَّتت الورقةُ البريئة بطرفَيها يميناً ويساراً - كما تعلَّمتْ للتوِّ أنْ تتلفَّتَ مُتحامِلةً على نسمةٍ شاردة ـ وهي تَسْـأل في استطلاعٍ ساذج:
_ أين.. أين؟
_ هناك في الأسفل.
مالت الورقة بجسمها المُسطَّح الرقيق إلى حيث أشار الكتاب. فشَهِدتْ سَلَّةً من أسلاكٍ حديدية. ولكنْ ما هذا؟ فيها أوراقٌ مُجعَّدةٌ، وأخرى مُمزَّقةٌ نُتَفاً!
ارتدَّت الورقة عن  المشهد الرهيب ، فانْطَرَحت على سَطح المكتب وهي ترتعش من الخوف والرعب.
وجاءتْها لَفْحةٌ حزينةٌ من أوراق المخطوطة تقول:
_ هذا مصيرُ الأوراق التي لم يَرْضَ الكاتبُ عَمَّا كان حَبَّرَه فيها!
فشرَحَ الكتابُ الكبيرُ للورقة المسكينة - التي لم يَبدُ أنها فهِمَتْ في ارتعاشها شيئاً - قائلاً برائحة حبرهِ العميقة النافذة:
_ يتناول الإنسانُ أوراقاً بيضاء. ويُحبِّرها بما يخطُر له في موضوعٍ يختاره. فإنْ رَضِيَ عمَّا خَطَّ قلمُه، احتَفَظ بمخطوطتهِ هذه، لا يُفرِّط فيها. ورُبَّما سَعَى في طَبْع  نَسخاتٍ عنها ينشُرها في بَني جِنْسه. أمَّا إذا لم يَرضَ عمَّا حَبَّرَه فيها..
وارتعشَت الورقةُ الرقيقة ارتعاشاً خشخشتْ له صفحتُها. فسَكت الكتابُ عن تَكمِلَة كلامهِ رحمةً بها. 

الفصل الثاني
في صباح اليوم التالي فُتح بابُ المكتبة ودخَلَ صاحبُها الكاتبُ الشابُّ.
تطلَّعتْ إليه الكتبُ من فوق الرفوف على الجانبَيْن في ترقُّبٍ. فرأتْه يجلس على الكرسيِّ إلى مكتبه الأحمر، ويتناول بين يدَيه الورقةَ التي حَبَّرها ليلةَ أمس.
سَرَتْ في صَفْحة الورقة قُشَعْريرةُ خوفٍ من مَسِّ يدَيه وهي تَذكر السلَّةَ الرهيبة. فتطلَّعتْ إلى وجهه في خشية، وشَهِدتْ عينَيه تُتابعان أسطُرَها باهتمام. وإذْ طالَ عليها الوقتُ بين يدَيه من غير أنْ يُجعِّدها أو يُمزِّقها ويرميَ بها في السلَّة _ راحت الورقة تَتخفَّف من اضطرابها وخوفها، وتستَشْعِر ضَغْطَ أصابعهِ الرفيقَ تُهدهِدُها وتُهدِّىء من رَوعها.
طرَح الكاتبُ الورقةَ أمامَه على سطح المكتب. تناول القلمَ ثم هوى به عليها، فدَوَّنَ في هامشها ملاحظةً بخطٍّ صغير. وتفكَّر مليَّاً ثم دَوَّنَ في حاشيتها شَرحاً مُختصَراً.
تأمَّل الشابُّ ما كتَبه بعضَ الوقت، ثم مالَ عن ورقته، فمَدَّ يدَه إلى الرفِّ الثاني في الجدار عن يمينه، وانتقَى كتاباً، فتحَه على المكتب إلى جانب الورقة المُحبَّرة، وراح يَقرأ فيه على ضوء المصباح الكهربائيِّ المُتدلِّي من السقْف.
في أثناء ذلك عادت الورقةُ تَتملَّى إحساسَها بالارتواء من الحبر. ولكنْ ما هذا الذي تفتَّح في أعماقها مع تغلغُل الحبر الجديد في نسيجها؟  إنَّه شيءٌ للحبر غير رِيِّهِ للبياض! شيءٌ دَبَّ معه قلقٌ غريبٌ في صفحتها. ثم تَعاظم هذا القلقُ وتعاظَم..  حتى أطلقت الورقةُ هبَّةً من حبرٍ تَسأل:
_ مَنْ أنا؟
تضَوَّع هذا السؤالُ في جو ِّالحجرة. فتلقَّتْه الكتبُ على الرفوف ما بينَ لامُبالٍ وهازىء ومُتأمِّل. ولكنْ تطوَّع لإجابة الورقة المُتسائلة الكتابُ المفتوح إلى جانبها على المكتب بين يَدَي الشابِّ. فانصَرف لحظةً عن قارئهِ وقال لها باختصار:
_ أنتِ مُحاولةٌ جديدةٌ لصاحبنا.
فعادت الورقةُ تسأل في سذاجة:
_ ما معنى "مواولة "؟      
فعَبقت الحجرةُ بالضحك الحِبْري تَنفُثه الكتبُ على الرفوف عن جانبَي المكتب. أمَّا الكتابُ الكبير الذي خاطبَها أوَّلَ مرَّةٍ من فوق الرفِّ الأعلى بالجدار الأيمن- فقد انتظَر حتى هدأتْ نَفَثاتُ الضحك، ثم قال للورقة برائحة حبرهِ العميقة:
_ مُحاولة يا صغيرة .. مُحاولة.
_ مُحاولة؟
_ نعم. مُحاولةٌ من الشاب لكتابة شيءٍ جميل.
_ جميل! ما معنى "جميل"؟
عاودت الكتبُ الضحكَ حتى ارتفعتْ خشخشةُ احتجاجٍ من الكتاب المفتوح بين يَدَي الشابِّ على المكتب، ثم قال- وورقةٌ منه تُطاوع يدَ قارئهِ وهو يَقلِبها:
_ اصمُتوا! كيف لي أنْ أُبرزَ الكلمات لعينَيْ قارئي من خلال كلِّ هذا الفَوَحانِ الحِبريِّ؟
فسَكنتْ هبَّاتُ الحبر غيرَ ما تَسرَّب هنا وهناك من نفَحاتٍ خفيفةٍ بين كتابَيْن مُتجاورَين يتهامسانِ على أحد الرفوف.  وتابَعت المكتبةُ في صمتٍ عينَيْ صاحبِها تَجريان على سطور الكتاب الذي يَقرأه. وإذا بالورقة الجديدة على المكتب تهتِف في نَفاد صبر:
_ ما معنى "جميل"؟
فأسكتَها الكتابُ المفتوح بخشْخشةٍ عنيفة. ثم نَدِم على عُنف نَهرَتهِ التي أفزَعت الورقةَ البريئة. وأدرَكَ أنَّها لن تَبرحَ تسأل-  بلجاجة الأوراق الجديدة- إلى أنْ تَظفر بجواب. ولكنه حارَ في إفهامها المعنَى الذي تَسألُ عنه. فتَفكَّر مليَّاً حتى خطر له خاطر. فقال لها برقَّة:
_ اشْهَدي يا ابنتي عينَيْ قارئي. هكذا.. هكذا..
هدَّأت الورقةُ من تملمُلها. واتَّجهَتْ بصفحتها نحو وجهِ الشابِّ القارئ. وراحتْ تتأمَّل عينَيْه حتى تَبيَّنتْ في حدقتَيْهما السَّوداوَين البرَّاقتَين انعكاساً لِما يَقرأُه في الكتاب. لم تفهمْه الورقةُ الجديدةُ فَهماً تاماً، ولكنَّها شَعرت بارتياحٍ عميقٍ أطلَقَ من صَدرها نَفْثَةَ:
_ آه!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق