الخميس، 15 سبتمبر 2011

الحلقة21: الإغراء الظنّي والفتنة الجنسيّة في الشارع اللبناني

·    جميل.. يا جميل!
_ ماذا تريدين؟
·    هلا اشتريتَ مرآةً للحمَّام بدلاً من هذه المرآة المكسورة..
_ بلى، بلى!

"أظُنُّ أنَّ المُعيَّنَ يُغري خليلاً الحفَّار"!
عُنوانٌ بالخطِّ الأحمر العريض على غلاف مجلَّة إبلاي بُوي، فوق صورةٍ للمُعيَّن- وهي الكُنية التي اشتهر بها فرجُ صاحبتنا رجاء- كانت انتشرت في الصحافة اللبنانيَّة والعربيَّة والعالميَّة يومَ افتضاحه:
بانفِراجٍ طُوليٍّ، انتفخَ له شِفراهُ الأكبران، في كثافةٍ من شعرٍ شَعْثٍ، وتراخى شفراهُ الأصغران- يلتمعان بإفرازاتهِ المُزلِّقة..

وقد أعادت صُحُفٌ عربيَّةٌ وأورُبيَّةٌ، كُنَّا نظُنُّ فيها الحياءَ الإعلاميَّ، نشرَ الصورة الفاضحة- عليها تعليقاتٌ فِتنويَّة:
صحيفة لوفيغارُوه الإفرنسيَّة دعت المُحقِّقينَ في واقعة الإغراء إلى الاسترشاد بالحكمة: فتِّشْ عن المُعيَّن!
مجلَّة دِرشَبيغل الألمانيَّة ذيَّلت الصورة بالحُكم المُسبَق: المُعيَّن شيطان!
صحيفةُ السياسة الكُويتيَّة دمَغَت الصورةَ بالحُكم النمطيِّ الموروث: كيدُ المُعيَّن عظيم!
أمَّا صحيفةُ الشرق الأوسط السَّعوديَّة فقد حرَّضت على تنفيذ حُكم الشرع بالمُعيَّن: اجلدُوه مايةَ جَلدة!
لم يُنصفنا إلا وليد جنبلاط.
من المعروف أنَّ مُهندسَ الاتِّصالات وليد جنبلاط من هُواة مُطالعة المجلات الإباحيَّة: إبلاي بُوي الأمريكيَّة، وأُوه الألمانيَّة، وبيزار الإفرنسيَّة، وإكْرُولا الإيطاليَّة،.. تصلُه أعدادُها الجديدةُ من اشتراكهِ الشهريِّ فيها، أو الأسبُوعيِّ، إلى حُجرة نومهِ في قصر المُختارة، صباحاً، فلا يُغادر فراشَه حتَّى يُطالعَها كلَّها مُدقِّقاً في الصور المُثيرة، صاعداً بعينيه الجاحظتين إلى العناوين المُغرية، فهابطاً بهما إلى الملاحظات التَّوضيحيَّة في أسفل الصور.. ثم يرتدي بنطلونه الجِنْزيَّ وينزل إلى مكتبه الهندسيِّ في إكليمُنصُوه مُتأبِّطاً أحَرَّ تلك المجلات يُهديها إلى زبائنه المُميَّزين.
وقد ساء المُهندسَ الاتهامُ الباطل صبيحةَ ذلك اليوم. فصرَّحَ في حديثه الأسبوعيِّ إلى صحيفة الأنباء:
_ بالأمس، بالأمس القريب نشرت المجلَّة الألمانيَّة دِرشبيغل مقالاً يتَّهم فيه القاضي كاسيزي إخواننا الستَّارينَ باغتيال الشهيد رفيق الحريري. وقُلنا آنذاك إنَّ الاتِّهامَ هو بُوسطة عين الرمَّانة جديدة. وحذَّرنا، حذَّرنا من الفتنة. اليوم تُطالعُنا مجلَّة إبلاي بُوي الأمريكيَّة بصورة المُعيَّن- فوقَها العنوان: "أظنُّ أنَّ المُعيَّن يُغري خليلاً الحفَّار". هذا الإغراء الظنِّيِّ، نعم الظنِّيِّ. ما هو إلا ظنَّاً.. وظنَّاً رخيصاً أيضاً هجسَ في نفس الخبيث جُون بُلطُون، الكاتب بالمجلَّة الإباحيَّة. فحذارِ أيُّها اللبنانيُّون من الفتنة! الفتنة التي يسعى الأمريكيُّون إلى إثارتها في الشارع اللبنانيِّ كي ينكشفَ المُعيَّن، ينكشف للزعران الإسرائيليِّين، فينقضُّوا عليه، ويسترِدُّوه..
الصبيانُ في الشارع كانوا- كعادتهم- يطوفون بالدرَّاجات الناريَّة الصغيرة، يقتعدون الرَّصيف، يُدخِّنون النَّراجيل، يتحدَّثون في السياسة والجنس، يتسابُّون،.. لكنَّهم بالطبع لا يقرأونَ صحيفة الأنباء. ولم يُتحْ لهم بالتالي الاطِّلاعُ على تحذير جنبلاط والامتثال له. أمَّا مجلَّة إبلاي بُوي فقد راحُوا يتَخاطفُونها في لهفة. يُحدِّقُون بصورة المُعيَّن على غلافها في بَهيميَّة..
كنتُ في ضُحى ذلك اليوم أصرِّحُ من الحمَّام إلى تلفاز الجديد في اتِّصالٍ هاتفيٍّ تتلقَّاهُ دالية أحمد:
_ أؤكِّد لك يا سيِّدتي أنَّ المُعيَّن لم يقصِدْ بافتضاحهِ إغراءَ الحفَّار أو غيره. اللبنانيُّون يعرفون أنَّه ما افتضَحَ في ذلك النهار إلا لفضح وقاحة السنيورة إذ يُصِرُّ أنَّ الزعران الإسرائيليِّين استردُّوا المُعيَّنَ في انتهاك تمُّوز. إنَّ حركتنا، حركة فضَّاحي المُعيَّن في وجُوه الوقحين، لا تتوسَّل الإغراءَ لتحقيق غاياتها. لكننا نفضحُ الوقاحة..
قاطعتني دالية مُعتذرةً إليَّ بنقلٍ مباشرٍ من الكولا..
_ لكن يا دالية..
واحتبست الكلماتُ في حلقي وأنا أشاهد على الشاشة خليلاً الحفَّار نفسه مُنتصباً في حشدٍ من الصبيان يخطُبُ فيهم..
كان مُحتقناً بالدَّم من الغضب، مُنتفخَ الحشفة، بارزَ عُروق الجِذعِ في استطالةٍ لا تكون إلا لأمر.
وتقول داليةُ في حرجٍ كأنَّما تُحدِّث المُخرجَ من وراء الكواليس:
_ يجدُر بنا أن نُموِّهَ الصورة..
ولمَّا تسابقت إلى خليلٍ المذياعات تحمِلُها أيدي الصحافيِّينَ قريباً من حَشَفته المُتضخِّمة، أنشأ يقول بصوتٍ أنفيٍّ:
_ لطالما اشتهَيناهُ من غير أن نطلُبه، ذاك المُكنَّى عنه بالمُعيَّن- رغبةً منَّا في وأد الفتنة. عانينا الكبتَ والقهرَ واستبداد الشهوة.. (تراخَى خليلٌ قليلاً مُتخفِّفاً من احتقانه).. تلك الشهوة الحارقة. كنَّا نُطفئها بالعادة السريَّة، مُكتفينَ من المُعيَّن بتصوُّره.. (ازداد خليلٌ تراخياً. فاستندَ إلى المذياع في يد مراسل الجديد مالكٍ الشريف).. ولرُبَّما ظهرَ لنا عفواً في الأحلام.. (ثم رفع خليلٌ حشفته بغتةً كأنَّما يفيقُ من غفوة).. أمَّا أن يفتضحَ المُعيَّنُ على الملأ وتُلتقطَ له الصورُ تتناقلُها وسائلُ الإعلام فهي الوقاحةُ التي لا سابقة لها في شارعنا المحافظ.. (لم أستطع أن اُحوِّل عينَيَّ عن خليلٍ الحفَّار، ولا الكاميرا تحوَّلت عنه- تاركةً الصبيانَ في الخلفيَّة يُصفِّقون ويتصايحُون).. يتَّهمُوننا بتعاطي الفياجرا الأمريكيَّة كي نستمدَّ منها الوقاحةَ في مُواجهة افتضاح المُعيَّن. نقول لهم: نحن لا تُعوِزُنا الوقاحة. نحن اخترعنا الوقاحة، وهي لنا عُنوان. أمَّا الحياءُ فليس من شِيَمنا. ولو استحَينا ما أنجبنا صبياناً!.. (ويهتفُ خليلٌ مُمازحاً).. لا أسمع زغاريد. أسمِعُونا الزغاريد.. (تسابقت حناجرُ الصبيان تُزغردُ في مُحاكاةٍ هزليَّةٍ لزغردة النساء في الأعراس. فطَرِبَ خليلٌ الحفَّار وقال مُتباهياً).. نحن في فحُولة حصانٍ عربيٍّ أصيل!.. (وازداد خليلٌ تصلُّباً وانتصاباً).. قولوا للمُعيَّن: فلتنفرِجْ عنك الفخذان.. (يستطيل ويغلُظ).. المارد الجنسيُّ استفاق!.. (اهتاجَ الصبيانُ فاضطربُوا أيَّما اضطراب).. ألا يذكر المُعيَّن أنَّنا من عظيم احترامنا له وحرصِنا عليه قلَبنا شهوتَنا إلى عزيزة؟.. (هتف الصبيان: نُحبُّكِ يا عزيزة).. أتعرفون ماذا قالوا عنَّا؟ رمَونا بالشذُوذ!.. (الصبيان يهتفون باستنكار: هُوه).. (وتوجَّه الحفَّار بالخطاب إلى خصمهِ الجنسيِّ مُتوعِّداً وهو يرتعشُ بالانفعال).. اسمعْني أيُّها المُعيَّن. إنَّ البظْرَ الذي تتواقحُ به علينا سنقطعُه!
عند هذه النقطة من الخطاب الغرائزيِّ انضبَّ خليلٌ الحفَّار في كيلوته، ثم اختفَى وراء سحَّابِ البنطلون تاركاً صبيانَه في الشارع في حال هَياجٍ شديد.. والتقطت الكاميرا رفيقَنا السابق فوزي- يدُه على أذُنه يتحدَّث في الهاتف الخلَويِّ.. لكنَّها سرعانَ ما تركته عائدةً إلى أستُديُوه تلفاز الجديد، إلى دالية أحمد التي كأنَّما خشِيَت على مراسل القناة مالك الشريف إذ سألته بقلق:
_ يا مالك.. ألا تحتمي من هَياج الصبيان؟
إلا أنَّ مالكاً بدا مُتمسِّكاً بمذياعه يقول من الشارع بارتياح:
_ إنَّ الصبيان لا يتعرَّضون للرجال من أمثالي. إنَّما مطلبُهم المُعيَّن يا دالية.. ها هم يتحرَّشُون بالإناث في الشارع سائلينَ عنه بوقاحة..
تسأله دالية من الأستديوه بفضُول:
_ ماذا يقولون؟
يُجيب مالكٌ مُحرَجاً:
_ عبارات مُبتذلة من قبيل: يُقبُش.. دخيله ما أطيبه.. والسؤال الوقح الغريب على الشارع اللبنانيِّ..
تسأله دالية:
_ أي سؤال؟
فيقول مالكٌ بحياء:
_ يسألون المرأة في الشارع: هل أنتِ مختُونة؟
تقول دالية مُستوثقةً:
_ مختونة؟.. (ثم تتجاوزُ الكلمةَ الغريبة متسائلةً).. التحرُّشُ لفظيٌّ إذاً. هل يمُدُّونَ أيديهم؟
يُجيبها مالك وهو يهُزُّ رأسه نفياً:
_ لا يا دالية.. حتَّى الآن لم ترصُد كاميرا الجديد..
وسُمِعت في الخلفيَّة صرخةٌ نسائيَّة. التفتَ مالكٌ مُتَّسعَ العينين. والتفتت معه الكاميرا إلى الرَّصيف المُقابل حيث كان بعضُ الصبيان يتعرَّضُون لفتاةٍ في مُقتبل العمر، ويمُدُّون الأيدي إلى ما بين فخذيها..
تهتف دالية في حُرقة:
_ مَن للفتاة المسكينة؟
يُجيبها مالكٌ من وراء الكاميرا:
_ قوى الأمن الداخليِّ غائبة.
تقول دالية وهي تُلوِّح بيدها في الأستديُوه:
_ أقصد الجيش..
ترامى من بعيدٍ هدير.. استدارت الكاميرا. فإذا ملالةٌ للجيش اللبنانيِّ تتوقَّف قريباً من الصبيان المُعربدين. ويترجَّل منها العساكرُ بالبنادق على الأكتاف..
_ هيَّا اعتقِلوهم!
تصرخُ دالية. لكنَّ عناصر الجيش ترفَّقُوا بالصبيان إذ خلَّصوا الفتاة من أيديهم. فراح أولئك يتراجعون وهم يسُبُّون الرجال، ويرشقُونهم بالحجارة.. وتعود دالية للصراخ:
_ عرفتُ صبيَّاً منهم.. إنَّه خالد ابن الضاهر.. سأشكُوه إلى ذويه!
ثم تُهدِّئ دالية نفسَها وتقول مُنهيةً النقلَ الحيَّ:
_ شكراً لك يا مالك. حدَّثتنا من الكولا..
لكنَّ المراسل يُقاطعُها في لهوجة:
_ أريد أن أضيفَ ملاحظةً هامَّة يا دالية.. لاحظنا أنَّ الصبيان إذا ما صادفوا امرأةً ترتدي ملاءةً صعيديَّة تركُوها تمُرُّ من غير فحصٍ ولا سُؤال.
تقول دالية كأنَّما تُحدِّث نفسها بامتعاضٍ مُتذكِّرةً ولا شكَّ أصلها الصعيديَّ:
_ لحقت بي الملاءة إلى هنا!
ويتابع مالكٌ الشريف من الشارع خلفَ مذياعه:
_ كان من أثر ذلك يا دالية أنَّ اللبنانيَّات أقبلنَ على شراء الملاءة الصعيديَّة.
وانعطفت الكاميرا تصوِّر نسوةً مُرتدياتٍ الملاءةَ السَّوداء، يتنقَّلنَ في الأزقَّة الجانبيَّة آمناتٍ من تحرُّش الصبيان..
فعلَّقت دالية كأنَّها تُضيف أمراً بديهيَّاً:
_ ولابساتُ الشادور آمناتٌ أيضاً من التحرُّش.
إلا أنَّ مالكاً قال بأسف- وقد عادت الكاميرا إلى وجهه المُلتحي:
_ لا يا دالية. الحقُّ أنَّ الصبيان توعَّدوا ذوات الشادور بالختان!.. هاكِ ما كتبُوه على الجدران..
تحوَّلت الكاميرا إلى جدارٍ مكتوبٍ عليه بعُبوة طلاء أزرق:
التنورة على العين
الملاءة على الراس
الشادور للأمواس
شهقت دالية بالأستديوه واضعةً يدَها على فمها الأنيق الشفتين. ثم قالت هامسةً في إشفاق:
_ سينزل إليهم الستَّارون إلى الشارع في سابعٍ من أيارَ جديدٍ!

الحقُّ أنِّي شعرتُ بسُرورٍ خبيث وأنا أنتقل على الفور إلى قناة المنار.. فإذا على شاشتها بيانٌ صادرٌ عن وفيق صفا، مسؤول الأمن في مخازن الشادورات بالضاحية، يُقرأ نيابةً عنه:
"يا نساءنا الشريفات
الزمنَ بيوتكنَّ هذا اليوم ولا تخرُجنَ إلا لضرورة.
وإذا خرجتُنَّ لا يستفزَّكُنَّ سؤالٌ وقح أو حتَّى نظرة"..

يا لَلخيبة! ها هم الستَّارون ينأونَ بأنفُسهم عن الفتنة المُشتعلة. ولطالما رمانا الباعةُ الجوَّالون بأنَّنا- حركة الفضَّاحين- لسنا سوى أدواتٍ لدى الستَّارينَ يُموِّلوننا ويُدرِّبوننا كي نقومَ عنهم "بالعمل الضروريِّ القذر"- على حدِّ تعبير شيخ القبضايات أحمد فتفت. وكان فتفت يقول في حديثه الصباحيِّ لإذاعة الشرق بصوته الرفيع الرائق الذي لم يُعرَف لقبضاي قبله في الشارع اللبنانيِّ:
_ إنَّ مَن يُسمُّون أنفسَهم بالفضَّاحين لا يدعُون نساءنا إلى فضح عَوراتهنَّ إلا لضربِ تجارة اللنجُريه الحريريَّة حتَّى إذا شبِعَت المرأةُ اللبنانيَّة افتضاحاً ارتدَت على ظُلطها الشادورَ الأسودَ كأنَّ شيئاً لم يكُن، أي على طريقة أبي نُؤاس: خيرُ ذا بشرِّ ذا!

غيرَ أنَّ اللبنانيَّات لا يستطعنَ لُزومَ البيوت طويلاً.
وينزل مُراسل المنار علي شعيب إلى الشارع بمذياعه ويقول مُنتقلاً إلى شارعٍ آخَر:
_ أقام الصبيان حاجزاً.. (وتُرينا الصورة كُرتين معدنيَّتين كبيرتين ينتصبُ في وسطهما قضيبٌ أحمر غليظ- رمز خليلٍ الحفَّار- مُعلَّقاً في رأسه علمُ عزيزة- المُثلَّثين المُتماسَّين برأسيهما- نكايةً بالمُعيَّن.. الدرَّاجات الناريَّة مركونةٌ إلى جانب).. يعترضُون النساء. ويسألونهُنَّ.. (ويتحوَّل علي إلى امرأةٍ كانت تمُرُّ بقُربه على الرصيف، ويسألها)..
_ ماذا كانوا يسألونكِ يا سيِّدتي إذ أوقفُوكِ؟
لكنَّ المرأة تتفادى مذياعَه الممدود. ثم وتُولِّي كالهاربة بخدودٍ مُحمرَّة من الحياء. فيصطاد المراسل امرأةً أخرى يسألها عن اسمها. فتقف وتقول:
_ اسمي رجاء.
ثم يُكرِّر عليها السؤال الأول. ويبدو أنَّها كانت أجرأَ من سابقتها فأجابت حانقةً:
_ الوقحون.. سألُوني إن كُنتُ مختونة!
_ ماذا تقولين؟
فصاحت رجاء مُحتجَّةً:
_ وكانوا على وشك أن يكشِفُوا عن فرجي!
لكنَّ الصبيانَ ما لبثُوا أن أوغَلُوا في الوقاحة إذ لم يجِدُوا من يردعُهم. ها هي القناةُ تنتقل بنا- في رسالةٍ عاجلة- إلى طوارئ مُستشفى الساحل في مقابلةٍ مع واحدةٍ من الضحايا:
_ ما اسمُكِ؟
بصوتٍ مبحُوحٍ، وهي مُستلقيةٌ في السَّرير الطبيِّ، موصُولاً إلى ذراعها أُنبُوبُ المصل، قالت:
_ رجاء!
يسألها علي شعيب برقَّة:
_ حدِّثينا عمَّا جرى لكِ..
_ أنزلوني من السيَّارة..
_ من؟
_ صبيان خليل الحفَّار.. أنزلوني شاهرين الأمواس في وجهي وهم يرمُونني بالدعارة.. ثم طرحُوني أرضاً غير مُبالين بصُراخي.. وأوثقوا يديَّ، وكشفوا عمَّا بين فخذيَّ.. (وغصَّت المسكينة ثم قالت).. وخَتنُوني!
يسألها المراسل:
_ يتناقل الناس في الشارع أنَّكِ خرجتِ من البيت عاريةً..
تُقاطعُه رجاء هاتفةً بحِدَّةٍ لا تتناسب وحالها الصحيَّة:
_ كذبٌ وافتراء!
فيُواصل علي كلامه بقسوةٍ صحافيَّة:
_ وكان زوجُكِ يُحاول منعَكِ من الخروج. فخبَّأ عنكِ ملابسَكِ. لكنَّ ذلك لم يمنعكِ. وخرجتِ إلى الشارع واضعةً عجينةً!
_ كذب..
أدركتُ خطورة الحال. وذكرتُ غابي أشكينازي- الأزعر الذي خلَفَ دان حالُتس في قيادة الدرَّاجين الزعران- يتوقَّع للشارع اللبنانيِّ خريفاً ساخناً إثرَ الإغراء الظنِّيِّ. فقرَّرتُ الاتِّصالَ بالأقطاب لإطفاء الفتنة..
كان صوتُ صلاح يأتيني جهوَريَّاً قاسياً من قناة المنار مُتحدِّثاً إلى عمرو ناصف في برنامجه "ماذا بعد":
_ سنتصدَّى لهم بسكاكين المطبخ! 
أجابني عمَّارٌ الحُوريُّ من قصر قريطم برقَّة:
_ الشيخ سعد في سَفر!
_ وإذا كانوا يختنوننا..
اتَّصلتُ بعين التينة. فأجابني علي حسن خليل بغِلظة:
_ الأستاذ نبيه صائمٌ عن الكلام!
_ فإنَّنا سنَخصيهم!
كان تهديد صلاح هذا من حُرقة قلبه. جتَّى عمرو تبسَّم في غير تصديق. يا لَصلاحٍ إذا انفعل لم يعُد يدري ماذا يقول.


 إلا أنَّ قناة المُستقبل راحت تُذيع التقاريرَ عن حوادث خِصاءٍ تعرَّض لها صبيانٌ في برج أبي حيدر، وإفادةَ شاهد عيان يُدعى نصيراً الأسعد يقول في انفعال:
_ رأيتُها بعينيَّ تتدحرج في نفَق سليم سلام.. حوالي ماية خُصية!
طابُورٌ خامسٌ من غير شكٍّ..
واستضاف علي حمادة رفيقنا السابقَ فوزي، رئيس حركة "عزيزة أوَّلاً"، في برنامجه "الاستحقاق". سأله حمادة وهو يُشير إليه بإصبعه كأنَّما يتحدَّاه في إجابةٍ قويَّة:
_ ماذا تستحقُّ النِّسوة اللواتي يتستَّرنَ على المُعيَّن؟
يقول فوزي في حقد:
_ لقد ثبتَ للبنانيِّينَ أنَّ المُعيَّن وقحٌ لا حدَّ لوقاحته إذ يفتضح في وجوه الأوادم من أمثال السنيورة. وبما أنَّه افتضح مرَّةً فسيفتضحُ دائماً. وبالتالي فإنَّ التي تتستَّر عليه- بنتاً عذراء كانت أم امرأة- تستحقُّ الختان!

اتَّصلتُ بصلاح أريد أن أصُبَّ عليه غضباً كان يعتمل في نفسي منذ مدَّة لتصرُّفه من غير مشُورتي.. هاتفه الخلويُّ يرِنُّ لكنَّه لا يُجيب.. عاودتُ الاتصال وأنا ألجأ إلى تلفزيون لبنان. فإذا عليه العمادُ جان قهوجي- قائد الجيش الجديد- يقول في حزم:
_ لن نتهاونَ في ضرب العابثينَ باللبنانيَّات، والمُستبيحينَ حُرمةَ أجسادهنَّ.
ها هي المُصفَّحاتُ العسكريَّة تجوب الشارع هادرة. وها هم العسكريُّون يعتقلون صبياناً ويُصادرون ما معهم من أمواس. ثم يُزيلون الأعلام والرموزَ الجنسيَّة الفتنويَّة..
أجابني صلاحٌ يبادرني بالتلفون قائلاً بعصبيَّة- وفي الخلفيَّة ضجيجُ الشارع:
_ جميل.. اتَّصلتَ في وقتك.. نحتاجُ إلى مزيدٍ من السكاكين.. (وقبل أن أفتحَ فمي بالاعتراض واصل يقول).. الصَّعيد المصريُّ زوَّد الصبيانَ بالأمواس!
فسألتُه مُشكِّكاً:
_ ومن أدراك يا صلاح؟
فقال مُنفعلاً:
_ أسرَّ إليَّ بذلك فيصل كرامة. قال إنَّه رأى باخرةً مصريَّةً في ميناء طرابلس تُفرِّغ حُمولتها من الأمواس الصَّعيديَّة التي أرسلها لصبيان الحفَّار العُمدة حُسني مُبارك!
_ يا صلاح. أنت تُضخِّم..
فصاح بي في التلفون:
_ لعلَّك لم تسمع بالوقاحة الأخيرة لشيخ البلد في الصعيد المصريِّ، أحمد أبي الغيط؟
_ ماذا قال؟
_ قال إنَّ المُعيَّن اللبنانيَّ مُتفلِّتٌ، "داير على حلِّ شعره"، يُغوي صبياننا.. ما شأنُه هو ليدُسَّ أنفَه في مُعيَّننا؟ فليدُسَّ أنفه في عزيزة!
_ يا صلاح..
قاطعني يصيح إذ أدرك أنِّي لم أقتنع:
_ خمِّن ما قاله بعد، ذاك المُفتن. قال إنَّه لا يُقِرُّ المُعيَّنَ في البيتِ إلا الخِتان!
عند الغروب، في مركبٍ رسَا قُبالة شاطئ الأوزاعي، اجتمعتُ بأشهر أعضاء مُنظَّمة المُمانعين في العالم، الكارهينَ لعزيزة، الرجُل الذي ما فتئ يُنجِّر لها الخوازيقَ في كلِّ بقاع الأرض: هُوغُوه شافاز!
تصافحنا واقفَين على متن المركب تُضيء وجهَينا الأنوارُ المُنبعثة من البيوت على الساحل. لطالما وقف وُجهاء الشارع اللبنانيِّ موقفي هذا. بيد أنَّ الزعيم الفنزِوِلِّيِّ ليس من الزعران ولا من المُتزعرِنين.. قال:
_ همِّي مُمانعةُ كلِّ شُذوذٍ جنسيٍّ يُروِّج له في العالم النادي الأمريكيِّ للتعرِّي.
فقلتُ :
_ الشُّذوذ الجنسيُّ يُدعَى عندنا "الاعتدال"!
فتساءل شافاز مُردِّداً:
_ الاعتدال؟
فأجبتُ أشرح للرجُل معنى هذا المُصطَلح الذي يتداوله عربُ هذه الأيَّام:
_ الاعتدال أن نعتزل المُعيَّنَ تمهيداً للتنازُل عنه للزعران- مُستبدلينَ به عزيزة!
فقال باستغراب:
_ ولكنَّ عزيزة فاحت رائحتُها الكريهة في العالم أجمع!
فقلتُ متنهِّداً:
_ لا يزال البعضُ عندنا راغباً فيها، يتشمَّم السَّبيل إليها، ويريد النَّيلَ من المُعيَّن إعزازاً لها!
سألني الرجُل في قلق:
_ ينالون من المُعيَّن.. كيف ذلك؟
فقلتُ باقتضاب:
_ بقطع بَظْره!
لم يفهم الرجُل الطيِّب ما أعنيه. ومن أين لتلك العادة الصعيديَّة المذمومة أن تخطرَ في باله؟ ونظر إليَّ بوجهٍ مُتسائلٍ في شبه العتمة يستزيدُني شرحاً- ظنَّاً منه ربَّما أنَّني لحنتُ في لغة بلاده. إلا أنَّني أطرقتُ مُلازماً الصَّمت.. حتَّى صاح شافاز إذ أشرقَ في وعيهِ المعنى المُظلمُ لانتصار إرادة الصَّعايدة في الشارع اللبنانيِّ:
_ لك ما تريد. فاطلُب!
ولمَّا رجعتُ إلى الحمَّام مع المساء وجدتُ رجاء نائمةً في المغطس، وسعد الدين الحريريَّ- الذي يستعدُّ لخلافة والده الشهيد في بناء الدولة- يقول على شاشة المستقبل في مأدُبةٍ رمضانيَّةٍ أقامها على شرف بعض البيروتيِّين:
_ يدَّعي الفضَّاحون أنَّ السَّكاكين إنَّما هي لحماية المُعيَّن من مُحاولات الزعران لاستدرا.. لاستدراره.. لاسترداده! أريد أن أسألهم: ماذا تفعل الكساسينُ في أزِقَّة بيروت.. السكاكين؟
وضع الآكلون الشوكة والسكِّينَ على الموائد العامرة أمامهم. وجعلوا يُصفِّقون لمُضيفهم وأفواهُهم تمضغ الطعام.. فأضاف الرجُل بلهجته الرَّتيبة:
_ هذه السكاكين الفنْزِوليَّة تتعارض مع مساعينا للعُبور إلى الدولة. إنَّها سكاكين غير شرعيَّة. لا حقَّ بحملها سوى للشِّف رمزي وضُيوفه!
دمدمتُ غاضباً أسأل الشاشة:
_ ونساؤنا اللواتي خُتِنَّ لا لذنبٍ اقترفنَه إلا تستُّرُهنَّ على المُعيَّن؟
ولجأتُ إلى قناة المنار فإذا المُمرِّض مُصطفى علُّوش يعود المختوناتِ في منازلهنَّ بالضاحية- وقد دفع له أجرتَه سعدٌ الحريريُّ- كما قال المُراسل حسين ناصر.. ظلمتُ الرجُل بمُلاحظتي المُتسرِّعة. ها هو مصطفى يدنُو باسماً من سرير الجريح. يسألُها مُتبسِّماً وهو يمُدُّ يده إليها في عطف:
_ ما اسمُكِ يا حُلوة؟
تتطلَّع إليه رجاء بين الحياء والتأسِّي.. وينقطع البثُّ.. ماذا هنالك؟.. سأتَّصل بحسين ناصر- وهو صديقي- فيُخبرني بما منعته عنِّي إدارةُ تلفازه.. إنَّي أحتفظ برقمه في ذاكرة تلفوني..
_ آلو حسين.. لِمَ قطعتُم البثَّ المُباشَر؟ ماذا جرى؟
يصمُت حسين مليَّاً حتَّى أظُنُّ الخطَّ مقطُوعاً:
_ آلو.. حسين.. أنت معي؟
يُجيبُني حسين قائلاً في مرارة:
_ لقد وضع المُمرِّضُ اللئيمُ في الجُرح ملحاً وراحَ يفرُك..
وانقطع الخطُّ..
_ حسين.. يا حسين!
رغبتُ في الدخول على الزعيم للتباحُث معه في التطوُّرات الخطيرة. غيرَ أنَّ مُرافقتيه، الفخذَين غاضبة وراضية، تلكَّأتا في استئذانه. أدركتُ من تملمُلهما أنَّهما إنَّما تُريدان أن تُطلعاني على سرٍّ. جعلتُ أُمسِّد براحة يدي جنبَ راضية الأملس حتَّى قالت كالمُذنبة:
_ أتدري يا جميل.. منذ أوَّل ظهورٍ لنا في الاحتفالات العامَّة اللبنانيَّة- والسياسيُّون يتحرَّشُون بنا..
وسكتت راضية مُحرَجةً. فواصلت غاضبةُ حانقةً:
_ من تحت الطاولة!
سألتُ راضيةَ باهتمام:
_ مَن عساهُ يكون ذاك الذي تحرَّش بكِ؟
فقالت في حيرة:
_ لا أعرف اسمَه.. فأنا حديثةُ العهد بالشأن العامِّ. ولكنَّه من ذوي القُربى- كما لاحَ لي من الشَّبهِ بينه وبين أمِّي رجاء- ولمَّا سألتُه عن اسمه قال بغُموضٍ، وبلهجةٍ غير لُبنانيَّة بها نبرةُ وعيدٍ وهو يحُكُّ جنبي بسلكٍ كهربائيٍّ اقشعرَّ له بدني: "الأستاذ نبيه بِرِّي- أستاذُ الرياضيَّات عندكم- يدعُوني سين"!
وملتُ إلى غاضبة، فسألتُها:
_ ومَن الذي تحرَّشَ بكِ أنتِ؟
فقالت ساخطةً:
_ سينٌ آخَر! لا أدري.. على أنِّي كنتُ أتوثَّبُ لضربه برُكبتي. فإذا به يُخرج من عباءتهِ كُداسةً من الريالات، جعل يُمسِّد بها باطني المكشُوف!
وتنحَّت غاضبةُ خَجلى من نفسها.
هززتُ رأسي مُخمِّناً:
_ أظنُّ أنِّي عرفتُهما.. لا شكَّ أنَّ غرضَهما المُعيَّن.
فانطبقت الفخذانِ بتلقائيَّةٍ على محرُوسِهما تحميانهِ من المجهول. مددتُ يديَّ أربِّتُ جنبَهما مهدِّئاً من رَوعِهما.. وسألتُهما برِفق:
_ لا عليكما.. ماذا قالا لكما؟
فأجابت راضيةُ هامسة:
_ طلب منِّي سينٌ أن أوصلَ للزعيم رسالة.
_ رسالة.. ما هي؟
فهتفت غاضبةُ:
_ وأنا حمَّلني السينُ الآخر رسالة. لكنَّها رسالةٌ وقحةٌ أستحي من نقلها إلى المُعيَّن!
وانفرجت الفخذان. فوجدتُني إزاء المُعيَّن وأنا مُستغرقٌ في التفكير.. ولعلَّ الزعيم لمحَ ذلك في تقطيبتي، فسألني:
_ بماذا تفكِّر يا جميل؟
رفعتُ إليه وجهي أقول ساهِمَ العينين:
_ في مجاهيلَ رياضيَّة..
افترَّت أشفارُه عن ابتسامة العالم الخبير. وقال باستهانة:
_ اطرحْ عليَّ مسألتك العويصة.
_ ليست مسألتي. ولستُ أنا الذي طرحَها. إنَّه أستاذ الرياضيَّات نبيه برِّي يطرحها على اللبنانيِّين مُتحدِّياً إيَّاهم أن يحُلُّوها.
فقال نافدَ صبر:
_ هاتها يا جميل.
_ معادلة سين سين. مَن هم مجاهيلُها؟ وما هي صيغتُها؟ وما هو حلُّها؟ لم يبقَ من رياضيٍّ في الشارع اللبنانيِّ إلا تخيَّل لها صيغةً. غير أنَّ أحداً منهم لم يأتِ لها بصيغةٍ واضحةٍ وحلٍّ شافٍ.
فقال الزعيم مُتمهِّلاً:
_ السين الذي هدَّدني هو الضابط السُّوريُّ. والسين الذي أغراني بالمال هو الشيخ السَّعوديُّ.
فقلتُ وأنا أهُزُّ رأسي:
_ قد خمَّنَ اللبنانيُّون ذلك..
_ لا تُقاطعني!
سكتُّ. فواصل الزعيمُ يقول:
_ أمَّا صيغة المعادلة فهي التالية: الشيخ السَّعوديُّ يعرض عليَّ ما أشاء من الريالات على أن ألبسَ له هداياهُ من الملابس التحتيَّة، يشتريها من الباعة الجوَّالين المحليِّين!
والضابطُ السُّوريُّ يشترط عليَّ- للنَّجاة من سلكهِ المجدول الذي ذاقت لسعاتِه عزيزة- ألا أخرُجَ عن طَوعه، ولي بعد ذلك أن ألبسَ ما أشاء.
وأطبقَ الزعيمُ أشفاره مُنهياً كلامه حتَّى سألتُه:
_ والحلُّ؟

·    جميل.. يا جميل!
كانت هذه الحلقة21. تليها الحلقة22: روائحُ خبيثة تتسرَّبُ من شقَّة مروان حمادة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق