الجمعة، 29 يوليو 2011

الحلقة19: عودة وليد جنبلاط إلى الطبيعة


·    آه!
_ ماذا بكِ يا امرأة؟
جاءني صوتُها من الحمَّام مُختلطاً بتساقُط الماء في المغطس:
·    كدتُ أنقلب..
_ خيرٌ لكِ!
في تسجيلٍ بكاميرا الهاتف الخَلَويِّ، تسرَّبَ بتقنيَّة السنِّ الأزرق إلى هواتف اللبنانيِّينَ جميعاً- ظهرَ مهندسُ الاتصالات وليد جنبلاط وهو يتنَزَّه مَحنيَّ الظهرِ من كِبَرٍ، مع بعض الشيوخ الدُّروز على الشاطئ الجميل بالرملة البيضاء، الشاطئ الذي كان سيَّجه لنفسه السَّاديُّ العتيق رُستم غزالة، مانعاً اللبنانيِّينَ من الاستحمام فيه، إذا أراد الخُروج من قبوِ عنجرَ للاستجمام يُرافقه بعض مُوظَّفي الدولاب السُّوريِّين.. وتبدو في الخلفيَّة طرَّاحةُ غزالة البلَستيكيَّة، تُظلِّلُها شمسيَّتُه المُموَّهة باللون الزيتيِّ- مكتوباً عليها الشِّعارُ الشهير: اللبنانيَّة والسُّوريَّة امرأةٌ واحدةٌ في جِلبابَين.
كان جنبلاط يقول مهمُوماً:
_ إنِّي أفكِّر في إنجاب ولدٍ يخلفُني..
توقَّف المُهندس العجوز عن الكلام وعيناه تتَّسعان ينظر إلى شيءٍ باهتمام. فالتفتت كاميرا الهاتف إلى رجاء وهي مُستلقيةٌ على ظهرها فوق الرمال، في مايُّوه من قطعتين، تتشمَّس. كانت المرأة مُتكوِّرة البطن، حُبلى، في شهرها السابع على أقرب تقدير. هتف الشيوخُ في ابتهال:
_ ما شاء الله!
لكنَّ الكاميرا عادت إلى وجه جنبلاط وهو يمسحُ الغشاوةَ عن عينيه. ثم عاد يتأمَّل البطنَ العامرة في حنان. وأخيراً سأل مُرافقيه من الشيوخ بوجهٍ مُتجهِّم:
_ قولوا لي.. ألسنا طائفةً صغيرة في الجبل اللبنانيِّ؟
وافقه الشيوخ قائلين في الخلفيَّة بصوتٍ واحدٍ:
_ بلى!
فعاد جنبلاط يقول في جُرأة:
_ يا جماعة الوضع بالشَّقلوب. والطائفة في خطر الانقراض.. (تسمَّع الرجُل قليلاً إلى همهمات الشيوخ، ثم قال).. إنَّ الزواجَ بعزيزة إنَّما هو على خلاف الطبيعة!
ولدى عودته من لقاءٍ ليليٍّ بالسيِّد حسن نصرالله في الضاحية- عرضت المنارُ لقطاتٍ منه- صرَّح جنبلاط يُبرِّر المرحلة السابقة لعَشَرات المِذياعات التي تسابقت إلى فمه:
_ لا تنسَوا الهيجانَ العاطفيَّ الذي كنَّا عليه آنذاك!
وعن عزيزة قال وهو يحُكُّ صلعته:
_ حُبُّ عزيزة جنسٌ عاطل. والقائلون بشعار "عزيزة أوَّلاً" أغبياء- لم أرَ في حياتي من هو أغبى منهم إذ ليس من معنًى لهذا الشعار سوى العُقم. وليفرحُوا بعد ذلك بتبنِّي اللقطاء من الأولاد على رصيف الطريق إلى الإسطِرِبطيز!
وفي لقاءٍ بأهالي الجبل بالمُختارة قدَّم لهم خلاله ولَدَه الصغير قال جنبلاط على قناة البُرتقالة:
_ لا بُدَّ من العودة إلى أدبيَّات الجبل إذا أردنا البقاء.. (ثم اعترف قائلاً في أسًى).. نقطةٌ سوداء في سيرتي أنَّني ذهبتُ إلى النادي الأمريكيِّ أطلب ولداً.. (وربَّتَ على كتف ولده باعتزاز).. وعندي ابني تيمور!
وبُعيدَ لقاءٍ في بعبدا بأمين مخازن العباءات الوطنيَّة ميشال سليمان سأله مُراسل تلفزيون لبنان:
_ هل تزور بشَّاراً الأسد في الشام لاسترضائه؟
فأجاب بشجاعة المسؤول:
_ إنِّي أنتظر منه دعوةً.. لقد أسأتُ كثيراً إلى صديق والده رستُم، رستُم غزالة الذي لا أنسى تضحياته في الشارع اللبنانيِّ أيَّامَ كان يردع بسلكه الكهربائيِّ المجدول بعض المُتزعرِنينَ من اللبنانيِّين.. ولا أنسى أيَّامَ تصدَّى في شارعنا للزعران الإسرائيليِّين.. وبشَّار الأسد يقف اليوم في طليعة المُمانعين لما يُسمَّى ثقافة حُبِّ عزيزة التي تفرضُها على شارعنا العربيِّ إدارةُ النادي الأمريكيِّ.. نعم! سأزور الأخَ بشَّاراً في الظروف المناسبة لي وله.
_ وستسترضيه؟
_ نعم.. ولكنْ بما لا يتعارض مع كرامتنا ومساعينا لبناء الدولة.
وفي خلال أيَّامٍ من الانقلابة الجنبلاطيَّة كنتُ بشارع الحمراء أتفقَّد محلاً لحركتنا هناك، حيث نبيع لأصدقائنا، بأسعارٍ رمزيَّةٍ، مشغُولاتٍ يدويَّةً بالمُعيَّن الأحمر، يستعينون بها على فضح الوقاحة التي يُواجهونها في مُختلف المجالات. على سبيل المثال لا الحصر:
لوحاتٌ تشكيليَّةٌ تتَّخذ فيها المُعيَّناتُ الحمراء وضعيَّاتٍ فنيَّةً شتَّى- للعرض في المجالس، سياسيَّةً كانت أم اقتصاديَّةً أم أدبيَّة.. فاضحةً كلَّ ناطقٍ بوقاحة.
سُبحاتٌ يتدلَّى المُعيَّن الأحمر من بين حبَّاتها، يحملها بيُسراه المُخلصُ في دينه، ويمضي بها إلى كلِّ مكانٍ يُتاجَر فيه باسم الدين- فاضحاً ذلك من غير أن ينطقَ بحرف.
أختامُ المُعيَّن الأحمر يضعُها على مكتبه القارئُ الذي تُغيظه وقاحة بعض الكُتَّاب، فيُنفِّس عن غيظه بختم كتاباتهم بالمُعيَّن الأحمر.
لوحةٌ معدنيَّةٌ ذاتُ مِمسَكٍ، مُفَرَّغٌ في وسَطِها شكلُ المُعيَّن، وتحته مُفَرَّغٌ كذلك الكلمات: "أكلتِ حقوقَنا يا سوليدير". وقد راجَت هذه اللوحةُ بين أصحاب الحقوق في الوسط التجاريِّ، يشترونها مع عُبوة طلاءٍ أحمر ليطبعوا على محلاتهم القديمة هناك، التي جدَّدتها الشركة العقاريَّة وأعطتها للمُتموِّلين الخليجيِّين، المُعيَّنَ الأحمرَ فضحاً لتلك الوقاحة..
وكنَّا- نحن كوادرَ حركة الفضَّاحين- نتقاسمُ ريعَ تلك المحلات فيما بيننا، لقاءَ تفرُّغِنا لفضح الوقاحة السياسيَّة في الشارع اللبنانيِّ- وقد أبَينا من بادئ الأمر أن تأكلَ أفواهُنا من أيَّة يدٍ مخافةَ أن تستحيَ أعيُنُنا من فضح وقاحة صاحبها- إنْ تواقَحَ. وذلك عملاً بنصيحة سَماح إدريس، الذي قال لي يوماً في مكتبه بمجلَّة الآداب العامَّة بساقية الجنزير:
_ يا جميل. إنَّ سؤال المال، اليومَ والبارحةَ وغداً، هو السؤالُ الأهمُّ في الثقافة العربيَّة المُعاصرة، لأنَّه سؤال الحُريَّة، وسؤال الفكر الفضَّاح. فلا ثقافة عربيَّة فضَّاحة من غير استقلالٍ ماليٍّ عن الأنظمة والمؤسَّسات والشخصيَّات..
قلتُ وأنا أهُمُّ بالانصراف لشأني:
_ صدقتَ يا سَماح..
ولعلَّ سماحاً آنسَ في وجهي اطمئناناً. فقال مُستدركاً:
_ وسُؤال الخوف..
توقَّفتُ عند الباب. فالتفتُّ إليه مُتسائلاً:
_ الخوف!.. مِمَّن؟
فقال مُتعجِّباً من تجاهُلي:
_ من أولئك الذين تفضحُون وقاحتهم يا جميل. سينالون منكم بالقضاء أو حتَّى بالإيذاء الجسديِّ!
فسألتُه وأنا أزدردُ ريقي بصُعوبة:
_ وب.. بماذا تنصحنا؟
فتراجع سماحٌ بظهره إلى مسند كُرسيِّه وراء المكتب. ثم قال كأنَّما يُحدِّث نفسه:
_ أن تُخفُوا أسماءكم.. لا!.. أن تَضرِبُوا وتهرُبوا.. لا!.. أن تُنكروا فَعلاتِكم..
لم أتنبَّه إلى تأثير كلامه فيَّ إلا عندما لفَتَني هو إلى قبضتي على مَسكة الباب. فإذا هي ترتعش مُطقطِقةً. ثم انتقلت الارتعاشةُ إلى رِجليَّ فلم أعُد أقوى على الوقوف حتَّى أقبلَ عليَّ سَماحٌ جَزِعاًً. فاحتضَنني مُهدِّئاً من رَوعي وهو يقول مُرتبكاً مُعتذراً:
_ لم أقصد إخافتك يا جميل..
ثم قادَني إلى الكُرسيِّ أمام المكتب. فأجلسَني عليه وهو يصيح فوق رأسي لأحدٍ في الداخل:
_ فنجان قهوة بسرعة!
ثم عاد يسألُني في إشفاقٍ شديد:
_ لعلَّك بخير؟
أشفقتُ عليه بدوري. فابتسمتُ في مكر. وأدرك الرجُل مكري. فاسترخَت قسَماتُه في ارتياحٍ. وعاد إلى كرسيِّه وراء المكتب وهو يضحك قائلاً:
_ أخَفتَني!
ضاحكتُه طويلاً. ثم قلتُ له مُعاتباً:
_ ما تمادى الوقحونَ في وقاحتهم يا سماح إلا لسُؤال الخوف هذا الذي يطرحُه أمثالُك على فضَّاحيهم.
_ لحظة..
بدا الرجُل كأنَّه ذكر شيئاً إذ استمهلَني بأنامله المضمُومة. وهتف بمَن في الداخل:
_ قد ألغينا طلبَ القهوة يا رنا!

أقول: إنِّي كنتُ أتفقَّد المحلَّ عندما قطعت المؤسَّسةُ اللبنانيَّة للإرسال برامجَها المُعتادة، وأوردت النَّبأ.
حدَّثتُ نفسي مُنزعجاً: أليس لمُسلسل الاغتيال هذا من نهاية؟ ورفعت البائعةُ في المحلِّ، سوسن صَفا، صوتَ التلفاز المُعلَّق عالياً بالجدار وهي تتساءل في جزَع:
_ مَن الضحيَّة هذه المرَّة؟
دسستُ الغلَّة في جيبي وعيناي لا تتحوَّلان عن الشاشة التي انتقلت بنا إلى مسرح الجريمة: السيَّارة مكسورةٌ، مخلوعة الباب، يتصاعد من داخلها الدخان الأسود. ويقول يزبك وهبة، مراسل المؤسَّسة اللبنانيَّة، بانفعال:
_ يبدو أنَّ العُبوة الناسفة كانت مزروعةً تحت المقعد حيث كانت تجلس الضحيَّة..
وعادت سوسن تقول في تَرَجٍّ:
_ لعلَّه أحمد فتفت!
ومن إستديوهات المؤسَّسة اللبنانيَّة تسأل الإعلاميَّة مي متَّى مُراسلها:
_ هل عُرِفت هويَّة الضحيَّة؟
إنَّها عزيزة!
انفجرَ الجوابُ في وعيي انفجاراً أعظم ربَّما من الانفجار الغادر نفسه. مادت بي الأرض. فاعتمدتُ بيدي على طاولة صندوق الدَّفع. ولحظتني سوسن فصرخت بي:
_ ما بك يا جميل؟
وجاءتني بكُرسيٍّ. فأجلستني عليه وهي تقول باستهانة:
_ لا تزعل هكذا..
ولكن مهما يكُن من شأن الخلاف السياسيِّ بين اللبنانيِّين يبقى الاغتيالُ مذموماً، مُستفظَعاً، تستحقُّ ضحيَّتُه الرثاء.. ها هو رفيقُنا السابق وليد الحبَّاب يُطلُّ علينا من الشاشة يقول لدُلِّي غانم في برنامج "نهارُكم سعيد":
_ إنِّي أتَّهم رستُم غزالة!
تسأله دُلِّي في عجب:
_ ألا تنتظر نتائج التَّحقيق؟
فيُجيبها وليد بحدَّة:
_ تورُّطه واضحٌ كالشمس!
الحقُّ أنَّ أصابع الاتِّهام تسابقت إلى غزالة.. ولكن لمَّا اتَّصلت بي نجاة شرف الدين من تلفاز المُستقبل في منزل والديَّ بزقاق البلاط تسألني قولي فيما يُتَّهَم به الرجل، صرَّحتُ وأنا أنظر إلى صورةٍ لي من أرشيف القناة أصافح فيها رستُم غزالة بابتسامةٍ واسعة:
_ لا أظُنُّ رستم غزالة يغتال عزيزة- والقاصي والداني يعلمانِ بعدائه لها!
تسألني نجاة كأنَّها تُوقعُني في شَرَك:
_ فمن تتَّهم إذاً؟
فأجبتُها شاعراً بمشقَّة تذكيرها بالزعرنة الإسرائيليَّة التي ما انقطعت يوماً عن الشارع اللبنانيِّ:
_ إنِّي أتَّهم الزعران..
قاطعتني المرأة مُحتجَّةً:
_ الإسرائيليُّون.. دائماً الإسرائيليُّون. يعني أنَّ السُّوريين أوادم!
فقلتُ متهكِّماً:
_ بل الإسرائيليُّون أوادم!
فقالت تُعيد الحوار إلى العقلانيَّة:
_ عزيزة محبوبة الأمريكيِّين، وعدوَّة السُّوريِّين. فكيف يغتالها الإسرائيليُّون؟
فقلتُ أرميها بالحُجَّة الدامغة:
_  لكنَّ مُحاولة الاغتيال كانت فاشلة!
نعم! نجت عزيزةُ إلا من جُرحٍ في رِدفها الأيمن، وباسُورٍ بسيطٍ في إستها- على ما أكَّدَ المُمرِّض مُصطفى علُّوش للصحافيِّين، إذ أطلَّ عليهم من شقِّ باب حُجرة العمليَّات بمُستشفى الجامعة الأمريكيَّة.
فورَ علمه بالنَّبأ قرَّر المُعيَّن أن يعُودَ عزيزةَ في المُستشفى- غيرَ مُبالٍ بازدياده عُزلةً على عُزلةٍ جرَّاءَ مُحاولة الاغتيال التي حَشَدت وراء عزيزة شعبيَّةً في الشارع اللبنانيِّ لم تظفر بها عجيزةٌ قبلها قط. دعا الزعيمُ إليه في الحمَّام ناهداً وكاعباً- وكانا في اجتماعٍ بمقرِّ جريدة الأخبار بالكُنكُرد مع الصحافيِّ الفضَّاح حسن عُلَّيق يسألانه الاطِّلاعَ على الوثائق التي تفضح القبضاي إلياس كُعيكاتي في غداءاته وعَشَواته على حساب دافعي الخمسَمايات. كما دعا غاضبةَ وراضيةَ- وكانتا في لقاءٍ بجمعيَّاتٍ نسويَّةٍ للبحث في الانتقال بأفخاذ اللبنانيَّات من التَّسليع في الإعلانات إلى النِّضال لحمايتهنَّ من التحرُّش الجنسيِّ. وذهب المُعيَّنُ وغاضبةُ وراضيةُ وناهدٌ وكاعبٌ جسداً واحداً- إذا اشتكى منه عضوٌ تداعت له سائرُ الأعضاء بالسَّهر والحُمَّى- إلى مستشفى الجامعة الأمريكيَّة. قصَّ عليَّ ما حدث كاعبٌ- الثَّديُ الأيسر- في ضجعةٍ لي معه نادرةٍ على سريري بمنزل والديَّ- في غيابهم. قال مُتوسِّداً المخدَّة:
_ كانت الفُسحة أمام بوَّابة المُستشفى تغصُّ بالناس الغاضبين يهتفون: يا رستم يا قاتل! فلمَّا وصلنا- تجمعُنا الماما رجاء في فستانٍ أحمر قصير- حوَّلوا غضبهم إلينا:
_ ماذا جاء بكم إلى هنا؟
_ جاؤوا شامتين!
_ فلنطرُدهم!
لثمتُ حلمةَ كاعبٍ النافرةَ من الانفعال. وسألتُه برقَّة:
_ ألم تخف؟
فقال الثَّديُ الناعمُ وهو يتفادى من قُبلةٍ ثانية:
_ ارتعدتُ خوفاً يا جميل. واندسستُ في تقويرة الفستان.. غيرَ أنَّ شقيقيَ التَّوأم ناهداً- بصَلَفه المعهود- تفلَّت من التَّقويرة الواسعة. وجعل يترجَّح مُبرزاً حلَمته في تحدٍّ. ثم هتف بالجمهور:
_ أفسحوا الطريق.. هيَّا!
دبَّ في الناس الحياء إذ افتضح الثَّديُ فيهم فأوسعوا لنا.. وإذا بالزَّعيم يهتف بمُرافقتَيه غاضبةَ وراضيةَ- ينبعثُ صوتُه الانزلاقيُّ من تحت تنُّورة الفستان:
_ تقدَّما أو أسبقكما!.. (ثم دمدم قائلاً في سُخط).. نجح الخبثاء في إثارة بعضنا على بعض.
جعلت غاضبةُ تتقدَّم- بارزةً من شِقِّ الفستان العالي- وراضيةُ تتأخَّر- يبدو لي منهما رُكبتاهُما الجميلتان وظاهرَهما النقيَّ البياض تحت حاشية الفستان القصير- حتَّى دخلنا رَدْهة الاستقبال. فألفيناها مُكتظَّةً بوجوهٍ لطالما استضافها ميشال قزِّي في برنامجه السَّنويِّ الشهير، من أمثال هادي حبيش، و..
أطبقتُ فمي على حلمة مُحدِّثي ضنَّاً بالوقت أن يضيع بتعداد الأسماء. فندَّت عن الثَّدي وسوسةٌ مكتومةٌ وهو يُحاول التملُّصَ من شفتيَّ حتَّى إذا تحرَّرت حلمتُه قال مُحتجَّاً:
_ دعني أكمل.. وقفنا أمام موظَّف الاستعلام نصير الأسعد. خرج له ناهدٌ من فوق التَّقويرة وسأله بجديَّة:
_ أين هي حُجرة عزيزة؟
أُخِذَ نصيرٌ على حين غرَّة- وكان اسمُه مُدوَّناً في لافتةٍ صغيرةٍ على مكتب الاستقبال. فتمتم كأنَّه يُردِّد استظهاراً:
_ كلُّ اللبنانيِّين في الحُجرة 14 بالطابق الأوَّل!
دمدم المُعيَّن من تحت بما لم أتبيَّنه. فهمستُ لشقيقي أسأله عمَّا قال الزعيم. فأعاده عليَّ: "يختصر اللبنانيِّين بمُحبِّي عزيزة"..
لامستُ حلمةَ كاعبٍ بشفتيَّ في خفَّةٍ هامساً له: وماذا بعد؟
فتصلَّبت الحلمة وهو يقول بحدَّة:
بلغنا بابَ الحُجرة 114 فطرقته غاضبة برُكبتها طرقاتٍ عصبيَّةً متتالية حتَّى فُتح رُبع فتحةٍ عن وجه فارس سعيد المُتسائل.. دفعت غاضبةُ البابَ تريد أن ندخل كما يدخل المرء على قريبٍ له.. وإذا بفارسٍ يرُدُّ الباب وهو يسأل بجفاء: ماذا تريدون؟ فارتطمت رُكبة راضية بالباب وصرختْ: آخ! وسأله المُعيَّنُ مُغضباً- وكان صوتُه مكتوماً تحت تنُّورة الفستان: ومَن تكون أنت؟ لماذا تمنعنا عن عيادة شقيقتنا؟ جحظت عينا الرجُل ذُعراً وراء نظَّارته إذ أدرك هويَّة السائل.. ولعلَّ عُوَّادَ عزيزة في الحُجرة سمعوا اللغطَ عند الباب. فجعلوا يتساءلون من داخل الحُجرة: مَن؟ مَن بالباب؟ فأجابهم فارسٌ وهو يتراجع مُرتبكاً مُشرِّعاً الباب: تعالوا انظروا.. يقتلون القتيل ويمشون في جنازته!
رفعتُ وجهي إلى كاعبٍ في إنكار. فأردف الثَّديُ يقول ساخطاً: الكلُّ في الحُجرة 114 اتَّهمونا بمحاولة الاغتيال.. أراد الزعيم الافتضاحَ في وجوههم جميعاً.. ولكنَّ مُرافقتَيه غاضبةَ وراضيةَ استشعرتا عليه خطراً داهماً إذ جاء يركضُ من أقصى الدِّهليز شيخُ القبضايات أحمد فتفت في عصابةٍ من صبيانه.. فحملتاه وهربتا به- تتناوبان التقدُّم عليه. كم ترجَّحنا يا جميل أنا وشقيقي خارجَ تقويرة الفستان..
_ يا لَحسرتي لم أركما!
هرولنا في الممشى الطويل نتوثَّب ذات اليمين وذات الشمال نحو الأبواب المُقفلة باحثين عن ملجأ حتَّى بلغنا الحُجرة..
سكت الثَّدي ريثما يستردُّ أنفاسه وهو يعلو ويهبط من الانفعال. ثم قال: في الحُجرة الثامنة تلقَّانا اللبَّاسُ وئام وهَّاب..
·    جميل.. يا جميل!

كانت هذه الحلقة19. تليها الحلقة20: سعد الحريري في مهرجان الترويج للَّنجُريه: لأ للشادُور

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق