الأربعاء، 15 يونيو 2011

الحلقة17: 7 أيار كاريكاتيري/ المرأة اللبنانية بين التنورة والشادور

·    اللي بتقصِّر تنُّورة   اللي بتقصِّر تنُّورة
تلحقها عيون الشباب  إيه
وهيِّ بحالا مغرورة
لابقلا الكعب العالي   الهوا غربي وشمالي
تنُّورتها شبر ونص   وبلوزتها بتلالي   لالي لالي لالي..
ها هي ذي المرأة تُدندن في الحمَّام بالأغنية التي دأبَ تلفازُ المُستقبل على بثِّها مرَّاتٍ لا تُحصى في اليوم، يُغنِّيها فارس كرم بين بناتٍ يَسعَينَ في تنانيرَ قصيرةٍ، يلحَقُ بهنَّ عجُوزٌ مُتهدِّمٌ قد دبَّت لمرآهُنَّ الحياةُ في عينيه ورِجلَيه وظهره. يُعارضُها تلفازُ المنار ببثِّه- مراراً وتكراراً:
إللي بتلبُس شادُورا   إللي بتلبُس شادُورا
بتعِيفا عيون الزعران   إيه
كلِّ العَورة مستُورة
ما بتطلع على بالي     الهوا غربي وشمالي
عيوني الوقحة مهما تبُص   السلِّه فاضيه يا خالي
خالي خالي خالي..
بتمشي وبتشدّ بكِمَّا    والبسمه على تِمَّا
المِركافة ع الميلَين    وهيِّ آخر همَّا
همَّا همَّا همَّا
لبس يغيِّر وجه السُّوق   والأسطُورة مقهُورة
والأسطورة مقهُورة..
يُؤدِّيها علي العطَّار في مقاطعَ مُصوَّرةٍ إبَّانَ انتهاك تمُّوز الفاشل، يبدو فيها الزعران الإسرائيليُّون على درَّاجات المِركافة الناريَّة وقد ركنُوها إلى جانب الطريق ونكَّسُوا رؤوسَهم مُنكسِري الخاطر إحباطاً ويأساً- إذ تمُرُّ بهم، في خطواتٍ واثقة، امرأةٌ جنوبيَّةٌ تلبسُ شادوراً!



شحنٌ وشحنٌ مُضادٌّ لأذواق اللبنانيَّات، في لُبسهنَّ، لم يسعهُنَّ إلا أن يُنفِّسنَ عنه- شيئاً من التَّنفيس- في الشارع عندما تتلاقى امرأتانِ- على خلافٍ في المُوضة المُتَّبعَة- فتقول إحداهُنَّ للأخرى بازدراء:
_ أنتِ مُعقَّدة!
فتُجيبُها الأخرى بإعراض:
_ أنتِ مُتفلِّتة!
حتَّى جاءتني رجاء بخبر ذلك العراك الذي نَشَبَ بين جارتين في رأس النَّبع. ففي ذات مساءٍ رجعتُ إلى الحمَّام. فألفيتُ جوَّه ضبابيَّاً بالبُخار، وفي المغطس وراء السِّتارة النَّيلُونيَّة شبحُ شخصٍ يستحمُّ.. وإذا صوتُ رجاء تُدندن بأغنية فارس كرم:
اللي بتقصِّر تنُّورة  اللي بتقصِّر..
فككتُ أزرار بنطلوني. ثم جلستُ على كُرسيِّ المرحاض وأنا أسأل مُتصنِّعاً اللامُبالاة:
_ هل رَجعَت معكِ عزيزة؟
صرخت رجاء إذ فُوجئت بي:
_ من؟.. جميل!.. أفزعتَني. ماذا تقول؟
_ أسألكِ هل رجَعتْ عزيزة؟
فأجابت ببساطة:
_ لا!
تمتمتُ مُتشفِّياً:
_ سيُقعدونها على الخازُوق!
فسألتني رجاء وهي تُخفِّف من وقع الماء:
_ ماذا قلت؟
_ لا شيء..
ففتحتِ الماء وعادت تُدندن:
اللي بتقصِّر تنُّورة  اللي..
وأزاحت السِّتارة بغتةً وهي تسألني باهتمام:
_ هل سمعتَ بخبر عراك النِّسوة؟
فأجبتُها وأنا أتطلَّع إلى جسدها الثريِّ تُغطِّيه رغوةُ الصابون البيضاء:
_ لا.. هاتي..
فقالت وهي ترفع يديها إلى شعرها المُبتلِّ تتخلَّله بأصابعها:
_ في طريق عودتي من السراي ترامت إليَّ من رأس النَّبع أصواتُ نسوةٍ يتَساببنَ. شدَّني الفُضول- بالرغم من خوفي واضطرابي..
قاطعتُها من مجلسي على كُرسيِّ المرحاض- قائلاً في شماتة:
_ كنتِ خائفةً إذاً!
إلا أنَّ رجاء أجابت ببساطة:
_ نعم.. (ثم واصلت حكايتها).. وقفتُ بين المُتفرِّجين نتطلَّع إلى امرأةٍ على شُرفةٍ بالطابق الثالث من بنايةٍ سكنيَّة، ترتدي التنُّورة المُختصَرة، تتوجَّه بالصياح إلى جارةٍ لها ترتدي الشادور، في نافذةٍ بالطابق الثاني من البناية المُقابلة- قائلةً في تهكُّم:
_ تبدين كشُوال الفحم في هذا الشادور!
هتفتُ مُنكراً:
_ ما أوقحَها!.. بماذا أجابتها المرأة؟
فقالت رجاء عابسةً تُقلِّد لهجة المُتعاركات:
_ صرختْ بها قائلةً- وكانت نسوةٌ في شُرفة الطابق الأوَّل من البناية الشرقيَّة يتطلَّعنَ ما بين شامتةٍ ومُشفِقة:
_ طهِّري فمكِ قبل أن تذكُري الشادور!.. إنَّما أستُر نفسي عن عيُون الزعران. لستُ مثلك مكشُوفة العَورة لمن يرى. هذا حرام!
قالت التي على الشُّرفة وهي تُشير إلى تنُّورتها المُختصَرة باعتزاز:
_ أنا في هذه التنُّورة حُرَّةٌ لبنانيَّةٌ مُستقلَّةٌ. وذلك خيرٌ من أن ألبسَ على ذَوقِ الفقيه الإيرانيِّ!
من نافذة الطابق الثاني مدَّت ذاتُ الشادور ذراعَها المستُورة حتَّى الكفِّ بالقماش الأسود وهي تقول مُحذِّرةً:
_ هذه عقيدتي. إيَّاكِ والخوض فيها. ثم إنَّكِ تدَّعين الحريَّة واللبنانيَّةَ والاستقلالَ في اختيار ملابسك، مع أنَّكِ تلبسينَ التنُّورة الإفرنسيَّة!
فأجابتها ذاتُ التنُّورة بفَخارٍ وهي تدُور حولَ نفسها بالشُّرفة:
_ بل هي من تصميم اللبنانيِّ سمير جعجع!
فقالت ذاتُ الشادور مُتهكِّمةً:
_ استوحاها من القرية اللبنانيَّة!.. (ثم أضافت).. أنسيتِ أنَّه عرضَ على اللبنانيَّات، ذاتَ صيفٍ، مجموعةً من التنانير المشقُوقة من قُبُلٍ أعلى فأعلى حتَّى مُلتقى الفخذَين؟ وكانت تلك المجموعة- باعترافه- من وَحْيِ السِّرداب الإسرائيليِّ!
قلتُ مُقاطعاً حكاية رجاء:
_ صدقت المرأة.. فبماذا أجابتها جارتُها؟
فقالت رجاء وهي تدلك الصابون على صدرها:
_ أجابتها وهي تنحني بثدييها المُندلقَين فوقَ الدَّربزين:
_ الأزعر الإسرائيليُّ خيرٌ من المُتزمِّت الإيرانيِّ!
صرختُ:
_ وقاحةٌ لا مزيد عليها!
فقالت رجاء تُخفِّف من كلام المرأة:
_ لعلَّها قالت ذلك عن غيظ!
سألتُها مُهدِّئاً من انفعالي:
_ بماذا ردَّت ذاتُ الشادور؟
_ لم تفُه بكلمة. غابت عن النافذة حتَّى علَّقت الصحافيَّة إسكرلت حدَّاد- وكانت بالطابق الأوَّل بين المُتفرِّجات- وهي تهزُّ رأسَها آسفةً: "انكفأت المرأة إلى الداخل عائذةً بالله من الشيطان الرَّجيم، كما تفعل كلَّما تلاسَنَت مع تلك الجارة السَّليطة اللسان".
قلتُ مُبرِّراً تصبُّرَ ذات الشادور:
_ إنَّها تحفظ بأسَها تحسُّباً لانتهاكٍ جديد قد يُحاوله الزعران في الخريف المُقبل.
فقالت رجاء وهي تبسط يدها تدعُوني للتمهُّل:
_ ما هي سوى لحظاتٍ حتَّى رأينا ذات الشادور وقد نزلت إلى الشارع تُدمدِم مُهروِلةً نحو بناية جارتها- يدٌ تُمسك مُقدَّم شادورها أن يرتفعَ عن ساقَيها، والأخرى تشُدُّ أطرافه على خدَّيها..
تمتمتُ مُنكراً:
_ لا!
فقالت رجاء مُؤكِّدةً:
_ كان منظرُها مُخيفاً حقَّاً يا جميل.. المُتفرِّجات في الشارع تراجعنَ يُفسحنَ لها الطريقَ وهنَّ يَشدُدنَ بأناملهنَّ صُدورَ قُمصانهنَّ أي: لا دخلَ لنا!
سألتُها مُنفعلاً:
_ والمرأة بالطابق الثالث؟
_ صوَّتت من الشُّرفة تُشهد الناس على ذات الشادور: انظُروا إلى التي تدَّعي حُسن الجِوار..
_ وماذا فعلت المُتفرِّجات؟
_ أكثرُهنَّ انسحبنَ إلى بيوتهنَّ خوفاً من اتِّساع العِراك. أمَّا أنا وبعض الجارات فقد تسلَّلنا وراءها على أمشاط أقدامنا إلى الطابق الثالث. فتكأكأنا على الباب المفتوح- في أيدينا التلفُونات الخَلَويَّة وقد شغَّلنا فيها الكاميرات..
سألتُها بلهفةٍ وأنا أقوم عن كُرسيِّ المرحاض:
_ أين وضعتِ تلفونكِ؟
ومددتُ يدي إلى رفِّ المرآة. فتناولتُ التلفون. وجعلتُ أبحث في ملفَّات ذاكرته عن التَّسجيل.. فقالت رجاء تدُلُّني إليه وهي تتابعني بعينيها:
_ الملفُّ الخامس، التَّسجيل السابع.
في الشاشة الصغيرة بدت ذاتُ الشادور وقد طرحت جارتَها المُتجرِّئة أرضاً. وجثَمت فوقَ صدرها. وراحت تلكمُها في وجهها، والأخرى تصرُخ وتستغيث وتركُل الهواء برِجليها العاريتين.. وانقطع التَّسجيل! فسألتُ رجاء مُستاءً:
_ لماذا أوقفتِ التَّصوير؟
فقالت وهي تغسل الرَّغوة عن جسدها بالرشَّاشة:
_ لم أوقفه من تلقاء نفسي. ولكنَّ ذات الشادور التفتت بوجهها إلينا عند الباب عابسةً حتَّى خلنا أنَّنا سنلقى مصير تلك المرأة. وهربنا!
فسألتُها وأنا أتفحَّص جسدها المُبتلَّ بالماء إذ زايلته الرغوة:
_ هل ضربتكِ؟
فقالت وهي تهُزُّ رأسَها نفياً:
_ لحِقَت بنا ونحن نهبط الدَّرج في فزع، ثم هتفت وراءنا: لا تخفنَ يا جارات. لا أقصدُكنَّ بسُوء. إنَّما أدَّبتُ التي لم تعُد تُميِّز بين الأزعر الذي اغتصب أخَواتها مرَّةً ومرَّةً، والآدميِّ الذي يُوفِّر لها أسبابَ العزَّة!
قاطعتُ رجاء مُفسِّراً:
_ التَّحريضُ المُوضَويُّ أفقدها التَّمييز؛ تلبَس القصيرَ وتقول في نفسها: الرجالُ في نظرتهم إليَّ سَواء!
وواصلت رجاء قصَّتها قائلة:
_ في الشارع بين البنايات توقَّفنا نتطلَّع إلى المرأة بالطابق الثالث وقد عادت تُطلُّ من على الشُّرفة- مُحمرَّة العين اليُمنى، مُتورِّمة الشَّفة السُّفلى، مُتهتِّكة البُلوزة.. تصيح لتُسمعَ جارتَها ذات الشادور التي سارعت بالانسحاب إلى شقَّتها:
_ تغزينَني في عُقر داري.. لن أنسى لكِ ذلك والسَّماء زرقاء!
أغرقتُ في الضحك وأنا أنظر إلى رجاء في حُبٍّ. ومدَّت يدها تريد أن تتناول المنشفة عن التَّعليقة بالجدار، فاحتضنتُها هامساً:
_ أمَّا أنا فسأنسى لكِ انقلابكِ..
الحقُّ أنَّ الصورة التامَّة الاحتشام للابسات الشادور- الصورة التي رسَخت في أذهان اللبنانيِّين أكثرَ ما رسخَت إبَّانَ الانتهاك الإسرائيليِّ الفاشل- اهتزَّت بعضَ الاهتزاز في الشارع اللبنانيِّ جرَّاءَ بثِّ تلفاز المُستقبل- في عالم الصباح- التَّسجيل السابع إيَّاه، الذي تبدو فيه ذاتُ الشادور وقد انكشفت بطَّةُ رِجلها ارتفاعاً حتَّى باطن رُكبتها الشديد البياض، كما بانت ذراعُها البضَّة عميقاً حتَّى إبطها الحليق- وهي تعلُو جارتها الضعيفة وتكيل لها اللكمات! وفي عالم المساء استضاف علي حمادة ببرنامجه "الاستحقاق" عمَّاراً الحُوريَّ، الناطقَ باسم جمعيَّة الباعة الجوَّالين. سأله مُشيراً إلى الشاشة الكبيرة بجانبه التي عرضت حادثة الاعتداء- للمرَّة الألف في ذلك اليوم:
_ ماذا تقول في تلك المرأة المُتشودِرة؟
أجاب عمَّار وقد غاضت ابتسامتُه:
_ هي خطرٌ على كلِّ جاراتها بل على اللبنانيَّات جميعاً..
فقال حمادة متسائلاً:
_ والحل؟
_ الحل في نزع شادُورها.
سأله حمادة مُتحمِّساً:
_ بالقوَّة؟
فأجابه عمَّار وقد استعاد ابتسامته الواسعة:
_ بل بالإغراء!
وراحت كاميرا تلفاز الجديد ترصُدُ الباعةَ الجوَّالين يطوفُون الشارعَ اللبنانيَّ بأجرَأ أنواع اللنجُريه- تتزاحمُ عليهم النِّسوةُ، فيخترنَ لأنفسهنَّ بعضَ القطع، وينقُدنَ البائعَ ثمنَها، ثم يمضينَ راضيات.
هذه أوغاريت دندش، مُراسلة الجديد، تعترضُ سبيلَ إحدى الزَّبُونات. وتسألها وهي تضع المذياعَ إزاء فمها:
_ ما اسمُكِ؟
_ رجاء.
_ ماذا اشتريتِ من ذاك البائع الجوَّال؟
يتهلَّل وجهُ رجاء. وتتنحني على كيس المُشتَرَيات في يدها. فتستخرج منه تفريعةً. وترفعُها إلى الكاميرا. فإذا هي خيطان موصولة. وتقول في غبطة:
_ وهي رخيصةُ الثمن.. (ثم تسأل رجاء المراسلةَ اللطيفة).. هلا تشترينَ يا أوغاريت تفريعةً لكِ أيضاً. هيَّا الحَقي بالبائع قبل أن تنفَدَ بضاعتُه!
أمَّا قناةُ المنار فقد بثَّت تسجيلاً بكاميرا التلفون الخَلَوِيِّ لامرأةٍ مُتشَودِرةٍ يُهاجمُها مجهولون في أرض جلُّول. فتُراوغُهم وتتملَّصُ من أياديهم. لكنَّهم لا يلبثُون أن يُدركُوها عند المُنعطَف. ثم بعد شدٍّ وجذبٍ يتمكَّنون منها وينزِعُون عنها شادُورَها!
تحوَّل صلاحٌ ببصره عن التلفاز أمام الخيمة قائلاً في عصبيَّة:
_ لن يسكُتَ لهم الستَّارون عن هذه الفَعلة.
فقلتُ له مُذكِّراً:
_ هي ليست الفعلة الأولى. وقد قال لهم السيِّد حسن نصرالله، صاحب مخازن الشادُورات: "انزِعُوا عن نسائنا ألفَ شادُور. لن ننجَرَّ إلى مُنافسةٍ غيرِ شريفةٍ في تجارة الألبسة يخرجُ منها الكلُّ بالخسارة"!
وتوالت حوادثُ نزع الشادورات تحتَ جسر المطار، وفي الأوزاعي، ومارمخايل،.. والستَّارون يتململُون في انتظار الرقم ألفٍ- كما قال السيِّد- حتى كان فرَمانُ المُتصرِّف بالسَّراي فؤادٍ السنيورة، فكان ألفاً وَحدَهُ:
استيقظتُ في الظلمة على حركة.. لم أُدركْ للوهلة الأولى أين أنا. ولكنَّ شبحَ رجُلٍ كان يتحرَّك غيرَ بعيد. ساوَرَني الخوفُ. ثم تبيَّنتُ- إذ ألِفَت عيناي الظُّلمة، وفيق صفا، مسؤول الأمن في مخازن الشادورات بالضاحية، يرتدي زِيَّه الأسود في رُكن الخيمة.
ذكرتُ وأنا أتململ في الفراش كيف أنَّني قبلتُ دعوة وفيقٍ إلى المبيت في خيمة الستَّارين هذه، في ختام خطاب "اكتفينا" للسيِّد حسن نصرالله الذي ألقاه من الشاشة العملاقة المنصُوبة في الخارج فوق الخيام.. وإذا نَصْلُ سيفٍ عريضٍ يلتمعُ في يد وفيق! الحقُّ أنَّني لم أرَ قبل تلك اللحظة أحداً من عُمَّال مخازن الشادُورات يمتشقُ سيفاً، على الرغم من قيامنا وقعُودنا دهراً معاً بمُخيَّم الاعتصام قُبالةَ السَّراي ننتظرُ من السَّنيورة شيئاً من حياء.. سألتُ وفيقاً بريقٍ جافٍّ:
_ ماذا دهاك؟
راح الرجلُ يتقلَّد سيفَه وهو يُدمدم:
_ لطالما أنذرناهم بأنَّ اليد التي تمتدُّ إلى نسائنا.. (سكتَ قليلاً ريثما يَشبك البكلةَ ثم رفع نبرته قائلاً).. سنقطعُها!
أدركتُ أنَّ في الأمر تحرُّشاً جديداً بنساء الستَّارين. فقلتُ له مُهدِّئاً من رَوعه وأنا أجلس في الفراش:
_ ولكنَّ العهدَ بكم التسامحُ مع القبضايات إذ يتحرَّشونَ بنسائكم، من آنٍ لآخر، فيكشفونَ لهنَّ ذراعاً أو ساقاً..
فعلا صوتُ وفيقٍ بالغضب وأصابعُه تلتفُّ على مقبض السَّيف كأنَّما يمتشقه:
_ سكتنا لهم طويلاً فماذا كان من أمرهم؟ هل استحَوا؟ كلا! ها هو فؤادٌ السَّنيورة يقرِّر- في وقتٍ مُتأخِّرٍ من الليلة- قطعَ خطوطِ اتِّصالاتنا السِّلكيَّة! 
تمتمتُ وقد طار النُّعاسُ من عينيَّ:
_ الاتِّصالات السِّلكيَّة؟
فسألني وفيقٌ في مرارة:
_ أتذكرُ خارطةَ جنبلاط؟
كان مُهندس الاتِّصالات وليد جنبلاط دعا الصِّحافيِّين، قُبيل أيَّامٍ، إلى خارطةٍ نصبَها أمام كاميراتهم في مكتبه الهندسيِّ بإكليمُنصُوه. ووقف إزاءها يُبيِّن لهم- بمسطرةٍ في يده- التَّمديدات الهاتفيَّة السِّلكيَّة تحت الأرض بين الضاحية والجنوب والبقاع. ويقول بنبرةٍ اتِّهاميَّة:
_ هي أسلاكٌ غيرُ شرعيَّة. فكيف نعبُرُ إلى الدولة ومَن يُسَمَّون بالستَّارين لديهم دولتُهم الخاصَّة بأمنها ودفاعها واتِّصالاتها؟
ذكرتُ كلَّ ذلك ثم سألتُ وفيقاً كأنَّما أتبالَه:
_ وماذا في قطع تلك الأسلاك؟
فقال وفيقٌ وهو يتناول جزمته من تحت الطاولة:
_ إنَّها تصِلُنا، نحن عُمَّالَ مخازنِ الشادورات، بمهاجعِ نسائنا تحتَ الأرض.. فإذا قُطِعت لن يستطيع أحدٌ منَّا الاتِّصالَ بزوجته هاتفيَّاً في مهجعها!
لوَّحتُ للرجُل بهاتفي الخَلَويِّ متسائلاً:
_ وهذه الهواتف؟
فرمَقَ وفيقٌ الجهازَ بازدراءٍ وهو يقول:
_ يستطيع الزعرانُ التقاطَ تردُّداتِها اللاسلكيَّة وتحديدَ موقعِ المرأة المُتَّصَل بها، ومن ثم الاهتداءَ بسهولةٍ إلى مهجعها.
_ حقَّاً؟
_ في الانتهاك الإسرائيليِّ الأخير فقَدَ كثيرون من رجالنا زوجاتِهم بُعَيدَ اتِّصالهم بهنَّ في المهاجع بالخَلَويِّ للاطمئنان!
وشدَّ وفيقٌ جزمته في رِجله وخرج من الخيمة. فنهضتُ إلى ثيابي. وارتديتُها على عجَلٍ. ثم تبعتُه إلى الخارج.
كان نورُ الصباح يُطارد العتمةَ بين الخيام النائمة.. قصدتُ خيمتنا في الخطِّ الأماميِّ قُبالةَ السراي. فوجدتُ صلاحاً في جماعةٍ من رفاقنا الفضَّاحين يرفع راية المُعيَّن الأحمر- وقد بات ذلك تقليداً يوميَّاً يُصرُّ عليه صلاحٌ على الرغم من أنَّه عديم النَّفع مع السَّنيورة:
ينتظم الرفاق في شكلِ مُعيَّنٍ حول سارية الراية وهم يُتابعونها بأعيُنهم إذ يرفعُها صلاح بشدِّ الحبل المُتدلِّي حتَّى إذا بلغت رايةُ المعيَّن الأحمر أعلى السارية هتف صلاح:
_ الافتضاحَ للمُعيَّن في وجوه الوقحين!
فيُردِّد الشبابُ وراءه بصوتٍ واحدٍ- راسمينَ المُعيَّنَ باليدين، بتلاقي الإبهام بالإبهام والسبَّابة بالسبَّابة أمام وجوههم:
_ الافتضاحَ الافتضاحَ الافتضاحَ..
ولمَّا فرغ صلاحٌ من المراسم التفت إليَّ وقال بحُنق:
_ ما رأيُك في تصرُّف السَّنيورة؟
فأجبتُ في محاولةٍ مُستحيلةٍ للموضوعيَّة:
_ يقول الرجُل إنَّه يُشارك المهندسَ جنبلاطاً رغبته في العبور إلى الدولة.
فقال صلاحٌ بحِدَّة:
_ بل يعمل بتوصية فينُغراد!
_ توصية فينُغراد؟
فصاح صلاح:
_ ألم يُوصِ الأزعر العجوز بقطع شبكة الاتِّصالات السِّلكيَّة الخاصَّة بالستَّارين قبل أيَّة مُحاولة انتهاكٍ قادمة؟
أشحتُ بوجهي شاجباً. وإذا بصلاحٍ يصفرُ جاعلاً إصبعَيه في فمه.. سألتُه:
_ ماذا تفعل؟
فقال رافعاً حاجبيه:
_ سأستنفر الشباب..
فهتفتُ به في جَزَع وأنا أمسك بإصبعيه أمنعه من مُواصلة الصَّفير:
_ لا شأن للفضَّاحين في هذا..
فقال عابساً:
_ إنَّما أستنفرُهم تحسُّباً للفتنة. فما أحسبُ خليلاً الحفَّار يبقى، إذا اشتعلت الفتنة، طيَّ الكيلوت!
ثم التفتَ صلاح إلى الرفاق الذين تدانَوا منَّا وهتف بهم في حماس:
_ إلى البُلُوزات يا شباب، بُلوزات المُعيَّن الأحمر!

شعرتُ بالحاجة إلى الاختلاء بنفسي في الحمَّام- شأني كلَّما ألمَّ بي اضطراب. وبينما كنتُ أهُمُّ بعبور الطريق إلى مُونُوه من تحت جسر فؤاد شهاب أنذرتني عن بُعدٍ مصابيحُ سيَّارات الرَّنج روفر- جوَّابة الآفاق السَّوداء آتيةً بأقصى سرعةٍ من رأس النَّبع. تسمَّرتُ على الرَّصيف أتابعُها بعينيَّ.. في تلك اللحظة ترامى من مُكبِّرات الصوت فوق خيمة الستَّارين إعادةٌ لخطاب السيِّد في الليلة الماضية:
"اكتفينا..
لن تُرمَى نساؤنا بالفُجور من أيٍّ كان"
مرَّت السيَّارة الأولى من أمامي فيها شُبَّانٌ باللباس الأسود يشهرون من النوافذ سُيوفاً لامعة!
"لن نقبل أيَّ تَهامُسٍ خبيثٍ عليهنَّ"
وهذه السيَّارة الثانية..
"لن يتحرَّش الصبيانُ بهنَّ بعد اليوم"
وهذه الثالثة..
"لن يُطارَدنَ تحت الجسُور"
فالرابعة..
"لن يُلطَّشنَ في المُتنَزَّهات"
والخامسة..
"لن يُهتَدى إليهنَّ في المهاجع"
والسادسة..
"لن نرضَى أيَّ مَسٍّ بشرعيَّة شادوراتنا"
ثم ختمَ..
"ولو تَزَعْرَنَ العالمُ كلُّه"!
ولمَّا انقطع تتابُع السيَّارات- مُخلِّفةً في الجوِّ غباراً وبالقلب رهبةً- هرولتُ لا ألوي على شيءٍ إلى شاشة التلفاز في مقهى الصوديكُوه:
_ فنجان قهوة سريعة وحياتك.
تناول القهوجيُّ- بحركةٍ عصبيَّةٍ- كوباً كرتونيَّاً صغيراً فوضعه تحت مَصَبِّ آلة تحضير القهوة السَّريعة.. في حين جلستُ أنا على الكُرسيِّ العالي واستوليتُ على آلة التحكُّم بالتلفاز المُسطَّح على الجدار المُواجه.
على شاشة المنار كان المُذيع عبدالله أرسلان يقول وهو يُضيِّق عينيه كالمُتوعِّد:
_ تحتَ سِتار شركة صيانة تُدعى "الصيانة الزائدة" استُقدِم صبيانٌ من شوارع بيروت والشمال والبقاع والجبل لقطع الأسلاك الهاتفيَّة عن مهاجع نسائنا تحتَ الأرض.. (سكت عبدالله قليلاً وهو يصرُّ على أسنانه ثم أردف).. وقد زوَّدهم تاجرُ الخرضَوات سليم دياب بآلاف القطَّاعات التي دفع ثمنَها صاحبُ شركة الصيانة الوهميَّة، رئيسُ جمعيَّة الباعة الجوَّالين، سعد الدين الحريريُّ..
وعلى قناة المُستقبل كان سعد الدين يقول ردَّاً على تلك المزاعم:
_ إنَّ هؤلاء الفتيان طُلاب علم. جاؤوا من قُراهم للتعلُّم بمنح دراسيَّة على حسابي.. (ثم رفع رأسه في كبرياء المجروح وقال وهو يسحبُ القلمَ الرصاصَ من جَيبِ جاكتَّته ويُقدِّمه للكاميرا).. أنا لا أحمل القطَّاعة بل القلم!
ولكنَّ قناة المنار عادت لتعرض صوراً ميدانيةً ومقابلات:
هذا صبيٌّ يغسل رأسه تحت حنفيَّة سبيل.. يسأله صحافيٌّ من وراء الكاميرا:
_ من أين أنت؟
فيُجيب الصبيُّ مُنتفخَ الجفُونِ وهو يمسح شعره المُبلَّل:
_ أنا من الشمال..
_ ما اسمُك؟
_ مصباح الأحدب!
_ ماذا جئتَ تفعل هنا؟
فقال مصباح وهو يفتح كفَّيه كالبريء يكاد يُعاود البكاء:
_ هم جاؤوا بي.. وعدُوني بوظيفة في صيانة الخطوط الهاتفيَّة.. وسلَّموني العُدَّة وتركُوني، وزملاء لي من البقاع، لا عمل ولا طعام ولا أجرة!
ثم عرضت القناةُ صوراً حيَّةً لبضع قطَّاعاتِ أسلاكٍ يدويَّة، إلى جانبها على الرفِّ قنِّينةٌ من الزيت المُزلِّق لصيانتها من الصَّدأ زاعمةً أنَّها ضُبِطت في الطبقة السُّفليَّة من أحد معاهد التعليم التابعة لسعد الدين الحريريِّ.
وبالعودة إلى قناة المستقبل وجدتُ الإعلاميَّة سَحَر الخطيب مُغرورقةَ العينينِ، في برنامجها "الخامسة والعشرون"، مُرتديةً شادُوراً أسودَ فضفاضاً في غير أناقةٍ كأنَّما أُلبِستْهُ على عجَلٍ، تسأل بتأثُّرٍ شديد:
_ ما قولُك يا أنطوان فيما ارتكبه أولئك المُتعصِّبون من إرغام النساء في شوارع بيروت على ارتداء الشادور؟
يقول أنطوان زهرة- مُدير التَّسويق في دار مِعراب للأزياء الراقية:
_ إنَّ الستَّارين يسعَونَ من زمان إلى فرض الشادور على كلِّ امرأةٍ في الشارع اللبنانيِّ. مِمَّا يجعل المشهد كئيباً، أبعدَ ما يكون عن الإثارة الداعية إلى حُبِّ الحياة..
تسأله سحَر كالمُستنجِدة:
_ ودار الأزياء هل ستتخلَّى عن المرأة اللبنانيَّة، وتتركُها للشادُور تُدفَنُ فيه أنوثتُها؟
ترِقُّ نظرةُ أنطوان. ويمُدُّ يده إلى المرأة وينزِع عنها غطاءَ الرأس وهو يقول مُواسياً:
_ لا أُخفي عنكِ يا سحَر أنَّ رئيسَ القسم التنفيذيِّ في الدار، المُعلِّم سمير، يُحضِّر مجموعةً من التصاميم الراقية التي إذا ما أنزلناها إلى السُّوق اللبنانيَّة..
تقاطعُه سحَر متسائلةً في لهفة:
_ متى؟
فيُجيبُها أنطوانُ وهو يُشير بيده إلى زمنٍ قريب:
_ في الصيف القادم على الأرجح..
تسأله بإلحاح:
_ لماذا لا تُنْزِلونها اليوم؟
يرتبك الرجُل قليلاً. ثم يُواصل ما انقطع من حديثه:
_ أريد أن أقول إنَّ هذه المجموعة ستُجبر الستَّارين على طيِّ الشادورات جميعاً بالكرتونات وإعادتها من حيثُ جاؤوا بها..
تُكمل سحَرُ وهي تخلع عنها الشادورَ، مُتهلِّلةَ الوجه، بجُرأةٍ استمدَّتها من وعد الرجُل:
_ إلى المشاغل الإيرانيَّة!
وأنزلتنا القناةُ إلى الشارع لإسماعنا إفادةَ باسم السَّبع، البائع الجوَّال في قميصه الأزرق بحُرق المِكواة في جانبٍ- يبكي ويقول:
_ كنتُ أنادي على بضاعتي في نزلة الحمرا. هاجموني وضربوني ومزَّقوا بضاعتي..
وسأله صوتٌ من وراء المذياع:
_ ما نوع بضاعتك؟ ماذا تبيع يا باسم؟
فأجاب بلهجةٍ باكية:
_ كيلوتات نسائيَّة وكُلُّونات وسُتيانات.. وهي كلُّها ملابس تحتيَّة تلبسها النسوان تحت ثيابهنَّ.. فكيف يتَّهمونني بتشجيع الزعران الإسرائيليِّين على انتهاك نسائنا؟!..
وإذا بصورة المُستقبل ترتعشُ ثم تختفي مُخلِّفةً وراءها في المشهد الإعلاميِّ غُباراً..
وضع القهوجيُّ فنجانَ القهوة أمامي على الطاولة وهو يرمُقني بالنظر الشَّزر. تناولتُ الفنجان ورُحتُ أحتسيه بهدوء. فجلسَ إلى جانبي ثم انفجرَ صارخاً وهو يلفتُ نظري إلى قطَّاعةٍ عتيقةٍ على خاصرته:
_ أنا لا أخاف الستَّارين!
هتفتُ بالرجل مُحذِّراً:
_ أخفضْ صوتك أن يسمعك أحدٌ منهم!
فأسدل دُوري شمعون على القطَّاعة وزرتَه المُتَّسخة وهو يلتفتُ إلى باب المقهى شاحبَ الوجه. وإذ لم يجد أحداً قال مُتحدِّياً وهو يُلوِّح بيده- عليها وشمُ النَّمر:
_ أنا لا أخافُهم. فليسمعْني منهم سبعة، أو حتَّى سبعُون!

في مساء ذلك اليوم التقيتُ في محلِّنا بالحمرا بغازي العريضي- أبي الأخبار في الشارع اللبنانيِّ. فهمسَ في أذُني يصدُقني القولَ على عادته:
_ سقط للمُهندس وليد جنبلاط عشراتُ الموظَّفين في مكاتبه الهندسيَّة بالجبل- مقطُوعي الأيدي بسيوف الستَّارين. فما كان من الدُّروز وقد أخذتهم الغيرةُ على الطائفة بتحريضٍ من أكرم شُهيِّب إلا أن نزلوا إلى الشارع بسكاكين المطبخ والفؤوس والسَّواطير. وتصدَّوا للستَّارين. وإذ ألقوا القبضَ على ثلاثةٍ منهم في الطريق إلى القماطيَّة قطَّوهم إرباً إرباً..
خلال النهار لم تكُفَّ قناةُ المنار عن عرض تسجيلٍ لأكرم شُهيِّب- يد المُهندس وليد جنبلاط اليُمنى في مشاريعه الهندسيَّة- وهو يَعزم على بعض الزعران الإسرائيليِّين أن يبيتوا عنده في بيته بالجبل ريثما تُقطَع الأسلاك!
وثارت ثائرة الأمير طلال أرسلان- أمير المُصالحات- فقال في تصريحٍ لقناة الجديد من قصره بخلدة وهو من الغضب في نهاية:
_ الجبل لم يكُن يوماً للزعران مَوطئاً، ولا لمشاريع التعرِّي راعياً. لطالما كان جبلُ الدروز سَنداً للشُّرفاء، وسيبقى كذلك..
سأله مُراسل القناة فراس حاطوم:
_ هل من اتصالٍ بوليد جنبلاط؟
_ اتَّصلتُ بالبيك مُتحدِّثاً إليه في هذا المعنى.. فكلَّفني بالتوسُّط لمنع فتنةٍ شيعيَّةٍ دُرزيَّة- قائلاً لي "سألبس أيُّها الأمير السِّروال الذي تُفصِّله"..
فسأله فراسٌ مُتخابثاً:
_ ولماذا لا يلبسُ الزيَّ الذي فصَّله له وئام وهَّاب؟
فعَلَت شفتَي الأميرِ ابتسامةٌ خرج بها من حال الغضب. وقال له مُحذِّراً في دُعابة:
_ اقعُد عاقلاً يا فراس!
أمَّا الزيُّ الذي فصَّله اللبَّاسُون من تيَّار وهَّابٍ لسعد الدين الحريريِّ فقد ألبسُوه إيَّاه افتراضيَّاً على الشبكة العنكبوتيَّة في موقعهم حيثُ صوَّروه مُرتدياً مريُولاً أزرقَ اللون، على ظهره الشنطةُ المدرسيَّة، وفي يده قُرص الإبلاي إستَيشِن- وتحتَ الصورة العبارة: سعد ما سقط!
بالعودة إلى أستديُوهات الجديد يقول المُذيع ماريُوه عبُّود في مطلع نشرة الأخبار:
_ الأزواج اللبنانيُّون يعودون من وظائفهم وأشغالهم ويضبُّون زوجاتهم: مَن وجد امرأتَه بالشارع أمرها بالصعود إلى البيت، ومَن ألفاها بالشُّرفة استدعاها إلى الداخل. ثم تداعُوا إلى الاجتماع في قصر الأمير طلال أرسلان بخلدة. وكان الأميرُ عقد- في وقتٍ سابقٍ من اليوم- مُؤتمراً صحافيَّاً قال في ختامه..
يتصدَّر الشاشةَ وجهُ الأمير بشاربيه الشَّريفين وعينيه المُلتمعتين بالإخلاص، ويقول:
_ قرَّر الأزواج المُحترمون قبول دعوة شيخ الصُّلح القطَريِّ، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، مشكوراً، إلى خيمته في الدوحة..
ويعود ماريُوه ليقول وهو يُثبِّت سمَّاعةً في أذُنه:
_ مندوبتُنا إلى الدوحة، المُتخصِّصة بالأزياء، إكلير حدَّاد.. بكاميرا برنامجها "شُو الموضة".. (يناديها).. إكلير! أنت معنا على الخط؟.. (تنتقل القناة بنا إلى الرمال البيضاء في الدوحة)..
هؤلاء رجالُنا في طريقهم إلى خيمة الشيخ حمد الكبيرة- تتعلَّق بذراع كلِّ واحدٍ منهم زوجتُه الكريمة، في أناقتها المُميَّزة: كانت السيِّدة إستريدا آنقَهنَّ حقَّاً. كيف لا؟ وزوجُها سمير جعجع المُصمِّم الشهير في الشارع اللبنانيِّ وفي دُور الأزياء الأورُبيَّة والأمريكيَّة: لَبُوسٌ من الجلد الأحمر اللمَّاع، يتألَّف من أقسامٍ صغيرةٍ موصُولٍ بعضُها ببعض بحبكةٍ من خيطٍ أسود.. تتقدَّم إكلير من سميرٍ وتسأله:
_ سمعنا أنَّك تُحضِّر مجموعةً جديدةً من الأزياء للصيف القادم..
فأجابها في مَسكَنة:
_ هذا إذا سمح لنا الستَّارون بعرضها. هؤلاء هم يُصوِّبون عليها منذ الآن وقد نصَّبوا أنفسهم أوصياء على ذوق المرأة اللبنانيَّة يُشيرون عليها ماذا ترتدي- وليس لديهم لها سوى الشادُور الأسود في الصباح والمساء، بالسهرة أو في العمل أو في..
وانصرفت الكاميرا عنه إلى أستاذ الرياضيَّات نبيه برِّي وزوجتِه رندة تضُمُّ شعرَها بمنديلٍ جميلٍ فُستُقيِّ اللون كفُستانها المُحتشم طولاً وعرضاً.. تسأله إكلير:
_ ماذا تُفضِّل لزوجتك وللبنانيَّات عامَّةً من أنواع الملابس؟
فأجاب برِّي وعيناه تتَّسعان:
_ الملابس المُحتشمة. فلتلبس اللبنانيَّة- الآن- ما تريد.. على أن تُراعي الحشمة. فلا يغيبنَّ عن بالها أنَّ الزعران الإسرائيليِّين يتربَّصون بها شرَّاً..
ميشال عون وزوجته نادية بعباءتها والطَّنطُور. تسأله إكلير:
_ ماذا لديك للبنانيَّات في مشغل الإصلاح والرَّتق؟
فأجاب عابساً:
_ العباءة والطنطور! ولكن للأسف قلَّةٌ من محلات الألبسة في الشارع اللبنانيِّ تبيع هذا الزيَّ اللبنانيَّ الأصيل. وهذا الذي ترتديه زوجتي ورثته عن أمِّها وجدَّتها، أصلحتُه لها ورتقتُه حتَّى صار كما ترين. هو انتماء المسيحيِّين اللبنانيِّين إلى هذا الشرق تُجسِّدُه العباءة والطنطور. 
هذا سعدٌ الحريريُّ شابكاً ذراعه بذراع زوجته الشابَّة لارا التي بدت في ثوبها الحريريِّ المُهفهَف في غايةٍ من البراءة. لكنَّ الرجل بدا حزيناً.. قال في مذياع إكلير:
_ أخذونا بالظنِّ.. سامحهم الله!
ويُطلُّ سليمان افرنجيَّة- قائدُ المرَدة على الثَّغر الشماليِّ للوطن العربيِّ- مُتأبِّطاً ذراعَ زوجته ريمة، المُلثَّمة الوجه، تشُدُّ جسدَها الرُّمحيَّ برِداءٍ أخضر اللون.. تقدَّمت إكليرُ من الزَّوجين. فبادرها سُليمان قائلاً بهُدوئه الحازم:
_ أودُّ أن أقول لكِ شغلة. على المرأة اللبنانيَّة أن تكون دائمة الاستعداد لصدِّ أيِّ تحرُّشٍ بها. وزِيُّها، زِيُّها يجب أن يقول للأزعر: أنا صعبة. أحسنُ لك ألا تحاول!
محمَّد رعد وزوجتُه أمُّ حسن في شادورها الأسود بالطَّبع.
قال رعد:
_ أتينا لإثبات رغبتنا الصادقة في حُسن الجوار. وحسن الجوار يعني أن يحترم جيرانُنا خصوصيَّتنا في الرِّداء النِّسائيِّ..
وليد جنبلاط- وكان يبدو مُتعباً- مع زوجته نورا في تنُّورتها السَّوداء المُكسَّرة، ومنديلها الأبيض الطويل..
قال لإكلير:
_ لبَّينا دعوة الشيخ حمد للبدء في إزالة الرواسب، رواسب العراك الأخير، وإجراء المُصالحات بين نسائنا.. 
أمين الجُميِّل- الأمين السابق لمخازن العباءات الوطنيَّة في بَعبدا، وعقيلته جُويس في ثيابٍ بسيطة..
سألته إكلير:
_ ماذا لديك هذه المرَّة للمرأة اللبنانيَّة؟
يُجيب الجُميِّل بلفظٍ أنيق:
_ الثياب البيتيَّة!
تُردِّد إكليرُ كأنَّها لم تسمع:
_ الثياب البيتيَّة؟
لكنَّ جلَبةً غطَّت على جواب الرجُل. واضطربت الكاميرا في يد المُصوِّر ثم اتَّجهت إلى خيمةٍ كبيرةٍ، تُهرول أمامها إكلير.. ثم تتوجَّه إكلير بالمذياع إلى استُديوهات تلفاز الجديد قائلة وهي تلهث:
_ النسوة دُعينَ إلى مجلس زوجة الشيخ حمد الأميرة موزة التي استقبلتهنَّ في الخيمة الخلفيَّة حاملةً على ذراعها وليَّ العهد في قماط..
يسألها من الأستديُوه ماريوه عبُّود:
_ هل من موقفٍ للشيخ حمد؟
تقول إكلير من الدوحة:
_ الشيخ حمد بن خليفة افتتح اجتماعَ الصُّلح بقوله مُتأسِّفاً:
_ كنَّا نظُنُّ اختلافَ أذواقِ اللبنانيِّين في اللباس غنًى في المشهد النسائيِّ بالشارع الشقيق. فإذا بالمرأة اللبنانيَّة تُضرِبُ عن النزول إلى الشارع خوفاً من الذوق الآخَر! حسبيَ الله ونعم الوكيل.
ثم تلا اتِّفاقَ الصُّلح- أمام حشدٍ من الإعلاميِّين- الشيخُ حمد بن جاسم على شاشة تلفزيون لبنان:
_ يمتنع اللبنانيُّ عن ستر أخته اللبنانيَّة- ولو نزلت إلى الشارع بالقصير أو الكاشف أو الشفَّاف أو حتَّى عارية.
يتنهَّد في تصبُّر- على المقاعد قُبالةَ الشيخ- كلٌّ من طلال سلمان وإبراهيم الأمين- إماما الإعلام المقروء في الشارع اللبنانيِّ. ويهتفان بالشيخ بصوتٍ واحد:
_ وبالمُقابل يا شيخ حمد؟
فيعود الشيخ لينظر من خلال نظَّارته إلى ورقة الاتفاق بين يديه ويقول:
_ يمتنع اللبنانيُّ عن نزع لباس أخته اللبنانيَّة- ولو أسدلته عليها من رأسها حتَّى أخمص قدميها.
فيسأله إبراهيم الأمين:
_ أمَّا اللباس الأمثل؟
فيقول الشيخ عائداً إلى الورقة:
_ أمَّا اللباس الأمثل للأخت اللبنانيَّة فيُبحَث فيه على طاولة القصِّ والتفصيل في مخازن بعبدا. وذلك برعاية أمينها الجديد ميشال سليمان، على أن..
·    يا جميل ناولني ملابسي التحتيَّة!
كانت هذه الحلقة17. تليها الحلقة18: حُسني مبارك يمنع إدخالَ ملابس النساء التحتيَّة إلى غزَّة.

هناك تعليق واحد:

  1. مقطع معبّر من رواية جريئة واسقاطات رائعة من مشاهد جنسية وايروتيكية على واقع سياسي يتميز بالعهر.

    ردحذف