الجمعة، 1 أبريل 2011

الحلقة10: نَزْعُ أَردِيةِ الفِلِسطينيَّات خارجَ المُخيَّمات


·    جميل.. يا جميل!
_ ماذا تريدين؟
·    اشترِ لي غداً عُبوةً من الشَّمبُوه يستر حريمك..


"اللاجئاتُ الفلسطينيَّاتُ لا يَنشُدنَ إلا السَّتر"
بهذه العبارة افتتحَ إبراهيم دُسُوقي- مراسل تلفاز الجديد- تحقيقَه الصُّحفيَّ في مُخيَّم النهر البارد الفلسطينيِّ.
وتُرينا الشاشةُ نسوةً في المُخيَّم واقفاتٍ عند أبواب بيوتهنَّ المُتواضعة، في أسمالٍ باليةٍ لا تستُر ولا تُغني من عُريٍ، يرمُقنَ الكاميرا بارتيابٍ حتَّى إذا اقتربتْ منهنَّ- يتقدَّمُها إبراهيمُ بمذياعه- تراجعنَ كالخائفات إلى الداخل، وأقفلنَ الأبواب!
ويلتفتُ المُراسل إلى الكاميرا ليقول مُفسِّراً- في شيءٍ من حَرَج:
_ ذلك لأنَّ أصواتاً ارتفعت مُؤخَّراً- مُشاهدينا الكرام- من جانب الأكثريَّة اللبنانيَّة تُطالب بنَزع أردِية الفلسطينيَّات- أو ما تبقَّى منها على أجسادهنَّ- لدى مُغادرتهنَّ المُخيَّمات أو حتَّى في داخلها..
ويُطلُّ سمير جعجع في تسجيلٍ لكلمةٍ ألقاها من وراء طاولة الخياطة بمِعراب- عليها المقصَّاتُ والقُصاصات- ويبدو خلفَه على الجدار شعارُ دارهِ للخياطة الراقية: زِيُّ الراهبة الأسود- مقصُوصاً بالطُّول والعرض. يقول المُصمِّم الشهير، داعية الحداثة المُتطرِّفة في اللباس:
_ اللبنانيُّون.. أو أكثريَّتُهم- كيلا تزعلَ الأقليَّة- يتأذَّون، نعم يتأذَّون، لن نختبئ وراء إصبعنا- من منظر فلسطينيَّةٍ ترتدي- خارجَ المُخيَّم أو داخله- تلك الكُوفيَّةَ البيضاء المُشبَّكةَ بالأسود..
ويعود إبراهيم إلى الشاشة ليقول في مذياعه من المُخيَّم:
_ الكُوفيَّة المُشبَّكة بالأسود إذاً هو الزيُّ الخارج على الذَّوق الأكثريِّ- بحسب جعجع.
وتتحوَّل الكاميرا إلى فتاةٍ كانت تقفُ إلى جانب المراسل مُتقنِّعةٍ بالكوفيَّة- لا يَبينُ منها سوى عينَينِ حادَّتينِ جميلتين. قدَّمها إبراهيمُ على أنَّها بنتُ أسامة حمدان- وكيل إسماعيل هنيَّة، مدير مَشغَل غزَّة للحِياكة السِّريَّة، في السُّوق اللبنانيَّة..
وإذا بالفتاة تندفع قائلةً في جُرأةٍ كأنَّما تُصحِّح لإبراهيم:
_ بل أنا بنتُ صبرا وشاتيلا! أتذكُرونَ كم امرأةً فِلِسطينيَّةً ولبنانيَّةً اغتصَبَ الزعرانُ هناك يومَ نَزعُوا عنَّا أردِيتَنا برعاية الأمريكيِّين، ومُراقبة الأورُبيِّين، وفُرجة العرب؟
يسألها المراسل في موضوعيَّة:
_ ولكنَّ بالمُخيَّم نسوةً يَرتدينَ على وجُوههنَّ البُرقُعَ الأسود..
تُجيبه الفتاة ببراءة:
_ وماذا في ذلك؟
فيقول إبراهيم:
_ يُقال إنَّ أزواجهنَّ جاؤُوا من المملكة السعوديَّة عن طريق الشام لإعلان إمارةٍ في المُخيَّم..
ضجِرنا أنا وصلاحٌ في الحمَّام من التقرير المُعاد. فانتقلنا بالحاسُوب إلى تلفزيون لبنان.. هذه رنا البيطار تستضيفُ في برنامجها "صباح الخير يا لبنان" المُحاميَ الشابَّ النشيط زياد بارود. كان يقول:
_ سنُغلِّب منطقَ الدولة على منطق الشارع..
يُعلِّق صلاحٌ قائلاً باستهانة:
_ لا يتعبُ هذا الشابُّ من ترديد أُمنياته!
تسأله رنا مُتعجِّبةً:
_ والقبضايات؟
فيُجيبها بثقة:
_ سيَنخرِطُون جميعاً في مؤسَّسة "قوى الأمن الداخليِّ".
_ ومَن يأبى..
فقال زيادٌ بقوَّة:
_ يُرفَع الغطاءُ عنه. هذا ما اتَّفقَ عليه وُجَهاء الشارعِ اللبنانيِّ وكبارُ التجَّار في اجتماعنا الأخير في منزل الوجيه ميشال سليمان بعَمشِيت..
وتستقبل رنا اتِّصالاً من أحد المُشاهدين:
_ اسمي إيلي كيروز.. أريد أن أسأل المُحامي.. تستُّرُ الفلسطينيَّات خارجَ المُخيَّمات ألا يُعيق العملَ الأمنيَّ لعناصر "قوى الأمن الداخليِّ" إذ يمُرُّ بحواجزهم الأمنيَّة نسوةٌ فلسطينيَّاتٌ يتلفَّعنَ بالكُوفيَّة أو يَستُرنَ وجوهَهنَّ بالنِّقاب، مِمَّا ينتقصُ أيضاً من مَهابة الدَّولة التي نبنيها؟
تحني المُضيفة رأسَها كأنَّما تتفادى من السؤال المُوجَّه كالسَّهم في الرميَّة. غيرَ أنَّ زياداً يتلقَّاه بثباتٍ ويُجيب بشجاعة:
_ الفِلسطينيَّاتُ عارياتٌ من أرضِهنَّ. فماذا يكون حالُهنَّ إذا عَرِينَ أيضاً من ثيابهنَّ؟.. (يقاطعُه إيلي- وهو صبيٌّ مُتدرِّبٌ في دار الخياطة الراقية بمِعراب- لكنَّ زياداً لا يسمح له بالكلام مُواصلاً).. إنَّ تستُّرَ أخَواتِنا الفلسطينيَّات في مُخيَّمات اللاجئينَ وخارجَها مُرتبطٌ بعودتهنَّ إلى بيوتهنَّ في الأرض العربيَّة. قبل تحقيقِ هذه العودة لا أرى أو يجبُ ألا نرى تستُّرَهُنَّ انتقاصاً من هيبة..
أتناول هاتفي الخلويَّ عن رفِّ المرآة فوقَ المغسلةِ وأنا أقول لصلاح:
_ سأسأل المحامي سؤالاً.
فقال صلاح بفُتور وهو يتلهَّى بلُفافة الورق:
_ شأنك.
تتلقَّى رنا اتِّصالي. وتُعرِّف المشاهدينَ بي بصفة رئيس حركة الفضَّاحين. ورحَّب زيادٌ بي قائلاً في بِشر:
_ أهلاً بالرَّفيق!
الشابُّ يُحيِّي اعتصامَنا معاً في ساحة رياض الصُّلح.. سألتُه بنبرةٍ حرصتُ على تنقيتها من السُّخرية:
_ هل ستمنع الدولةُ التي تتحدَّثُ عنها افتضاحَ المُعيَّن في وجُوه الوقحين؟
قال زيادٌ في حزم:
_ إنَّ في افتضاح المُعيَّن مُخالفةً لقانون الآداب العامَّة!
تبادلتُ وصلاحاً نظرة عجَب. وتمتم صلاحٌ كأنَّه لم يسمع:
_ ماذا يقول الرجل؟
فتساءلتُ بأدب:
_ قُل يا ريِّس غيرَ هذا الكلام. وهل من قانونٍ في الشارع اللبنانيِّ؟
أمَّا صلاح فقد عبَسَ. وأعاد اللُّفافةَ إلى تعليقتها بالجدار وراء كُرسيِّ المرحاض كأنَّما يستعدُّ للتدخُّل في الحديث.
قال زيادٌ بتصميمٍ عجيب:
_ سنبني دولةَ القانون!
_ القانون؟
_ نعم دولة القانون يا جميل. لن يبقى اللبنانيُّ في الشارع. سيصيرُ مُواطناً في دولة. له حقوقٌ وعليه واجباتٌ يُحدِّدها القانون. وفي أيِّ خلافٍ سيكون الاحتكامُ للقانون وليس للشارع..
يصيح صلاح وهو يُقرِّب فمَهُ من الهاتف في يدي:
_ ألا ترى يا زياد أنَّ فضحَ الوقحينَ يُساعدك في مشروعك؟
ضحك زيادٌ وقال متسائلاً:
_ أنت صلاح تتكلَّم.. أليس كذلك؟
أجاب صلاح باقتضاب:
_ أنا هو.. (ثم اندفع بحماسه المعهود فسأل المُحامي سُؤالاً يُحرِجُه).. أتُعجبك الوقاحةُ المُتفشِّية في الشارع اللبنانيِّ على المنابر؟
همستُ في أذُن صلاحٍ أن ترفَّقْ بالرجُل.. غير أنَّ زياداً قال- وهو يَلحظُ مُضيفتَه المُرتبكةَ بعينٍ خَجْلَى:
_ بصراحة.. لقد هالتني الوقاحةُ التي برَزَت في الأعوام الأخيرة.. ولكنْ أنْ يمنعَ القانونُ افتضاحَ المُعيَّن في وجُوه الوقحينَ أو يسمحَ به فهذا أمرٌ آخر.. عليكم في حركة الفضَّاحين إقناعُ الشعب اللبنانيِّ بطريقتكم في مُواجهة الوقاحة. فإنَّ للشعب وحده حقَّ سَنِّ القوانين يُفوِّضه لنوَّابه..
إلى آخر ما قاله المحامي الشابُّ من كلامٍ جديدٍ لم نفهمْه. وكثيراً ما كان زياد بارود يجمعُنا بساحة رياض الصُّلح أمامَ خيمتهِ المُرقَّطة. ويقفُ بيننا مُحاضراً في الدولة والمؤسَّسات والقانون.. والحقُّ أنَّنا- وإنْ تثاءبنا طوال المُحاضرة- كنَّا نشعُر على نحوٍ غامضٍ بضرورة التفاهُم على مؤسَّسةٍ ما تضبُّنا من الشارع..


ألا إنَّه بذكر زياد بارود يُذكَر رجُلُ دولةٍ آخَر يُؤمن بالدفاع عن الأرض إزاء العُدوان الخارجيِّ، كما يُؤمن زيادٌ بالأمن الداخليِّ. ذاك الرجُل هو إميل لحُّود.
بدأ لحُّودٌ- أو العمادُ كما لقَّبَ نفسَه- من قريته بَعبدات، يجمعُ من شبابها مَن يأنسُ في أنفسهم غضَباً للأرض اللبنانيَّة إذ يطأُها الإسرائيليُّون كلَّما عنَّتْ على بالهم نُزهة!
كان يخطُب في هؤلاء- يُتابع نشاطَه واصفُ عواضة مراسل تلفزيون لبنان- وقد نظَّمهم مُعاونُه العميدُ جان قهوجي في طابُورٍ طويلٍ بساحة القرية صائحاً فيهم: تآ..هبْ.. استرح!
يقول العماد لحود بلُثغته التي ما زادته إلا هيبةً:
_ أرضنا عِرضنا نقطة على السَّطر.
ومثلما يدفع رجال المقاومة الشرفاء عن نسائنا انتهاكَ الزعران، علينا نحن أن ندفع أولئك الأعداء عن أرضنا- مُتكاملينَ في ذلك مع المقاومة غيرَ مُتعارِضين. هذه عقيدتُنا- لا تبديل لها ولا تغيير..
ومن خطابه هذا اقتبسَ الشاعرُ الكبير إيلي الفرِزلي كلماتِ النَّشيد الوطنيِّ اللبنانيِّ الذي لحَّنه غسَّان الرحباني، ودأبَ تلفزيون لبنان على بثِّهِ وهو يعرضُ العلمَ اللبنانيَّ مُرفرِفاً بأرزته الخضراء في بياض الثلج بين مُستطيلين أحمرين:
أرضُنا عِرضُنا   إنْ تطأْها قَدَم
سيفُنا ردُّنا  فوقَ صوتِ الأُمَم
أرزُه رمزُه   أبداً لبنان
صانَه جيشُه    لمدى الأزمان
كلُّنا للوطن  للعُلى للعلم كلُّنا   للوطن..
ثم إنَّ لحُّوداً فتح بابَ التطوُّع في المؤسَّسة العسكريَّة الناشئة- الجيش. فانخرطَ فيها العديدُ من أبناء اللبنانيِّين من مُختلف مُفترَقات الشارع اللبنانيِّ وطوائفه..
·    جميل. يا جميل..
كانت هذه الحلقة العاشرة. تليها الحلقةُ الحادية عشر: زعران تمُّوز ونادي الشَّرق الأوسط الجديد


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق