الثلاثاء، 12 أبريل 2011

الحلقة11: زعران تمُّوز ونادي الشرق الأوسط الجديد للتعرِّي

الزعران الإسرائيليون على دراجات المركافة
·    جميل. يا جميل.. أُقدِّر لك انتظارَك. فسامحني.
أُجيبها مُتصبِّراً:
_ انتظرتُ في تمُّوز الماضي ثلاثةً وثلاثين يوماً!
أيقظتنا رجاءُ على صَرختها.
كنَّا نسهرُ معاً بالحمَّام نشاهد، على شاشة الحاسُوب، فِلماً أمريكيَّاً طويلاً عن زعرانٍ يركبون الدرَّاجات الناريَّة يغتصبونَ النساءَ في القُرى الآمنة.. ويبدُو أنَّنا غفَونا في نحو الفجر- أنا على كُرسيِّ المرحاض، وصلاح على كُرسيِّ التَّشطيف.
التفتنا إلى رجاء في المغطس- فزِعَين، نجاهدُ للخُروج من حال النوم. فألفيناها مُتَّسعةَ العينين من رُعبٍ وهي تُحدِّق في الشاشة على الرفِّ:
بسِحنةٍ شاحبةٍ، وعينين مُحمرَّتين، كان إيهود أُلمرت- مُدير السِّرداب الإسرائيليِّ- يقول بنبرة المُتفجِّع- على قناة العربيَّة- ما ترجمتُه:
_ أُوخ.. أسَرُوه.. الستَّارون أسروا المُعيَّن!

عُدنا بأنظارنا إلى رجاء وقد أشرقَ وجهانا فرحاً نريد أن نُهنِّئها على تحرير المُعيَّن.. ولكنَّها بدت قلقةً وعيناها لا تُفارقان الشاشة وهي تلوِّح بيدها أن اسمَعا..
وقال ألمرت بصوتٍ مخنوقٍ والدمعةُ تترقرق في عينيه:
_ إنَّ رجالنا بقيادة دان حالُتس وعامير بيرتس سيستردُّونه في الحال!
ذعرت رجاء. فنهضت إلى المنشفة وتناولتها عن التَّعليقة ولفَّتها حول بطنِها وهي تقول بخوف:
_ يا ويلي من الزعران!
فصاح بها صلاح مؤنِّباً:
_ حرَّرناه فافرحي ولا تخافي.
وتمتمت رجاء وهي تعود إلى المغطس وتنطوي على نفسها فيه:
_ سترَكَ يا ربِّ..
مددتُ إصبعي إلى الحاسوب وغيَّرتُ المحطَّة إلى قناة المنار. كانت رايةُ الستَّارين الصفراء تُرفرف، في وسطها رسمُ السيف الأخضر بالعرض، ترفعُه قبضةٌ تتعالى من حرف الألِفِ الثانية في كلمة الستَّارين المكتوبة بالخطِّ الأخضر الثَّخين، وعلى التاء منها شادُورٌ أسودُ تتطلَّع لابستُه- المرأة اللبنانيَّة- في عِزَّةٍ إلى العالم المُتمثِّل، في الراية، بكُرةٍ من خطُوط الطول والعرض. وفوق حدِّ السيف مكتوبةٌ شريعةُ العرب العريقة:
لا يَسلَمُ الشرفُ الرفيعُ مِنَ الأذى حتَّى يُراقَ على جوانبهِ الدَّمُ
وترامت إلينا من الضاحية أصواتُ المُفرقَعات. فقال صلاح مُتألِّقَ العينين:
_ السيِّد حسن نصرالله يخطُب..
فهتفتُ مُستشعراً ارتياحاً- حالي كلَّما سمعتُ صوتَ السيِّد:
_ سيجلو السيِّدُ حقيقةَ الأمر.
وظهر وجهُ السيِّد- جامعاً بين الحزم واللطف- على خلفيَّةٍ من الأسهُم الناريَّة تُفرقع في السَّماء المعتمة وراءه ألواناً من البهجة.. هتفنا معاً:
_ ألله.. نصرالله.. الضاحيه كلها!
قال السيِّدُ يُواصل كلامه- وسهمٌ ينطلق صاعداً نحو السَّماء ثم يُفرقع احتفالاً بالبُشرى:
_ .. من عمق السِّرداب الإسرائيليِّ.. (تتألَّق الفَرقعةُ الزاهرةُ في الجوِّ خلفَ السيِّد).. بعمليَّةٍ نوعيَّةٍ ناجحةٍ والحمدُ لله.. (انتشرت في الجوِّ ثلاثةُ خطوطٍ مُختلفة الألوان تُبشِّر رؤوسُها المُلتهبة بفرقَعاتٍ جميلة).. قام بها إخوةٌ مُجاهدونَ ساروا على درب دلال المغربي.. (فرقعةٌ باللون الأبيض).. ويحيى سكاف.. (فرقعةٌ باللون الأخضر).. وسمير القنطار.. (فرقعةٌ باللون الأحمر)!
قام صلاح يرقُص في المساحة الضيِّقة. فهتفنا به أنا ورجاء أن يقعُد حتَّى نُتابعَ السيدَ يقول برقَّةٍ في نبرته، وهدوءٍ من المُفرقَعات وراءه:
_ .. في عِصمة رجلٍ منَّا، شريفٍ، شجاعٍ. بل هو عمادُ الشرف والشجاعة.
التفتنا معاً إلى رجاء نسألُها:
_ مَن الرجلُ يا تُرى؟
فتعجَّبت لسُؤالنا قائلةً في رِعدةٍ وهي تُحكِمُ المنشفةَ حول جسدها:
_ ومَن يُدريني أنا؟
فتمتمتُ مُتفهِّماً:
_ ليستْ في حِلٍّ من ذِكره.
وأنهى السيِّد خطابه بالصدق:
_ أعِدُكم -كما وعدتُكم دائماً- بسلامة شرفِنا من الأذى.
هتف صلاح يزدري بالزعران:
_ لن يعثروا على المُعيَّن. وسنُنكحُهم البلاطة!
ومدَّ صلاح يدَه إلى الحاسُوب. فانتقل به إلى الجزيرة. أطلَّ علينا وجهُ خديجة بنت حنَّة تبتسم لضيف المُنتصَف إذ كانت طرحت عليه سُؤالاً. أجابها أمين الجُميِّل من شاشةٍ كبيرةٍ بالأستُديوه مُتجهِّمَ القسَمات بالاستياء:
_ إنِّي لأعجبُ كيف أقدمَ الستَّارون على فعلةٍ كهذه يُعرِّضونَ اللبنانيَّات لانتقام الإسرائيليِّين. فليُعيدُوا..
تُقاطعُه خديجة:
_ لكنْ..
لكنَّه يُضيف آمِراً:
_ فليُعيدُوا المُعيَّنَ لأصحابه!
تسأله خديجة مُندهشةً- بصوتها الرَّخيم:
_ ولكنَّ المُعيَّن في الأصل لنا، هو عربيٌّ أليس كذلك؟ فما مُطالبتُك بإعادته لمُغتصبيه السِّردابيِّين؟
ارتبك الجُميِّل قليلاً ثم قال:
_ هو لنا. لستُ أشُكُّ في ذلك.. ولكنِّي أريد أن أسأل السيِّد حسن كذلك الأمر: هل يستحقُّ المُعيَّنُ أن ينتهك الإسرائيليُّون العشرات بل المئات من العذارى اللبنانيَّات في بحثهم عنه؟
وبرز أسفلَ الشاشة خبرٌ عاجل: عصاباتٌ من الزعران الإسرائيليِّين يعبُرون الحدودَ اللبنانيَّة في قرية مارون الراس.
على قناة العربيَّة اندفع المرُاسلون الصِّحافيُّون إلى الأمير سعود الفيصل الواقف في عباءته الفاخرة عند باب الدِّيوان المَلَكيِّ السَّعوديِّ بالرياض- يسألونه تعليقَه على الحدث الأخير. قال الأميرُ ببُطءٍ وهو يدورُ بوجههِ على الجميع:
_ هذا هَوَسٌ من جانب الستَّارين!
صاح صلاح متعجِّباً:
_ خلتُه سيُهنِّئهم على نجاحهم في تحرير المُعيَّن العربيِّ من أسر الزعران الإسرائيليِّين.
فأجبتُه مُتفكِّراً:
_ لعلَّه مُستاءٌ من الستَّارين إذ أحرجُوا- بتحريرهم المُعيَّنَ- الملكَ السَّعوديَّ.
فتساءل صلاحٌ وهو يلتفتُ إليَّ:
_ لِمَه؟
أهملتُ حديثَ الفيصل. ورُحتُ أخبر صلاحاً:
_ لحلِّ النِّزاع على المُعيَّن بين العرب والسِّرداب بادرَ الملكُ عبدالله بن عبد العزيز فأهدى الإسرائيليِّينَ جاريةً طرحَها لهم على الطاولة في فندق فينيقيةَ ببيروت.
فقال صلاح مُتذكِّراً:
_ سمعتُ بتلك الجارية.. هي عربيَّةٌ. أليست كذلك؟
_ بلى. واسمُها رجاء.
_ فكيف يتنازل عنها الملكُ للزعران؟
فقلتُ وأنا ألوي شفتيَّ:
_ في اعتقاده أنَّه يُضحِّي بالجارية لإعفاء السيِّدات العربيَّات من الانتهاك!
_ وهل قبِلوها؟.. أعني الإسرائيليِّين.
_ لا!
_ رفضُوها إذاً؟
_ لم يرفضُوها صراحةً. ولكنَّها ماتت على الطاولة صبراً!
_ ماتت!
تنهَّدتُ وأنا أهُزُّ رأسي. ثم قلتُ في حُزن:
_ لبِثت رجاء دهراً مُمدَّدةً على الطاولة عاريةً على تقلُّب الفصول- والملكُ يُنذر الإسرائيليِّين بأنَّها لن تبقى على الطاولة طويلاً- يُعنَى بها المُمرِّض المصريُّ عمرو موسى.. حتَّى فارقت الحياة أخيراً!
تمتم صلاحٌ بأسفٍ وهو يُصلِّب على صدره:
_ روحُها في السَّماء!
فقلتُ في سُخريةٍ مريرة:
_ لا يزال عمرو موسى المُمرِّض يضغطُ على صدرِها، وينفُخ في رئتيها الهواء مرَّةً بعد مرَّةٍ- على طريقة الإنعاش الأمريكيَّة. ثم يرفع رأسه ويقول للصحافيِّين جاهداً في التقاط أنفاسه: إنَّها تتنفَّس.. رجاء ما تزال على قيد الحياة!
فقال صلاح ضاحكاً:
_ يستميت الرجُل في الحفاظ على وظيفته.
فقلتُ وأنا أُضاحكُه:
_ والملك عبد الله يُصدِّقه ويُبقي الجُثَّةَ على الطاولة رافضاً دفنَها- كما فعل سلفُه يزيد الثاني بالجارية حبَّابة.
فتساءل صلاح وهو يضرب كفَّاً بكفِّ:
_ أليس مَن يرُدُّه إلى الرِّضى بقضاء الله؟
فأجبتُه:
_ الطبيب الشرعيُّ السُّوريُّ بشَّارٌ الأسد كَشَف على الجارية في ذلك الفندق. ثم أعلنَ موتَها وطلبَ إلى الملك عبدِ الله إكرامَها بالدَّفن!
_ وما كان ردُّ عبدالله؟
هممتُ بالجواب. لكنْ لفَتَ سمعيَ سعودٌ الفيصل- وكان لا يزال يتحدَّث إلى الصحافيِّين في قناة العربيَّة- إذ قال:
_ إنِّي أُحمِّل الستَّارينَ المسؤوليَّة عن انتهاك الإسرائيليِّين للنساء اللبنانيَّات!
فسأله صلاح مُمتعضاً:
_ وبعد؟ هل ستُقدِّم لسترهنَّ ذراعاً من القماش الذي ترفُلُ فيه أنت وملكُك؟
لم يُجبه الأمير إذ أنهى حديثه الصحافيَّ..
انتقلنا في اليوم السابع إلى قناة الجزيرة. فإذا الأمير القطريُّ حمد بن خليفة آل ثاني يجيبُ عن سؤال صلاح:
_ نحن سنُقدِّم مِمَّا رزقنا الله اثنَي عشَرَ ألفاً من أذرُع القماش لسَتر بنات الجنوب في بنت جبيل وعيناثا وعيتا الجبل والخيام.
فهتفنا أنا وصلاح ورجاء معاً- والصَّقرُ القطريُّ يُحلِّق عالياً في الشاشة:
_ شُكراً قطر!
قناة الجديد عرضت الصور الحيَّة الأولى للزُعران في الشارع اللبنانيِّ:
على درَّاجاتٍ ناريَّةٍ كبيرة، في جاكتَّاتٍ جلديَّةٍ سوداء مُرصَّعةٍ بالأزرار المعدنيَّة، على عيونهم نظَّاراتٍ شمسيَّة، في أعناقهم السَّلاسل، على أذرُعهم المُشمِّرة المفتولة أوشامٌ غريبة، شعُورُهم مُسترسِلة ولِحاهُم طويلة.. تُوحي سُرعتُهم المُعتدلة ولفتاتُهم المُتبلِّدة بتمرُّسهم في الزعرنة..
صاح صلاح:
_ أين الستَّارون لا يتصدَّونَ لهم؟
لجأتُ إلى قناة المنار فإذا بشاشتها تُرينا عدداً من النِّسوة المُنتهَكات، مُمدَّداتٍ في أسِرَّة المُستشفَيات دامياتِ الفُروج، يهتفنَ للصحافيِّين في عِزَّةٍ عجيبة:
_ فِداءً للمُعيَّن!
فهتفت رجاء مذعُورةً وهي تنهضُ، في اليوم الثامن، إلى تعليقة الثياب بالجدار:
_ سألجأ إلى الشام..
فهتفَ بها صلاح مُنكراً:
_ إلى شقيقك رستُم غزالة!
فقالت وهي ترتدي العباءة المُطرَّزة بالأخضر والأحمر والأبيض:
_ بل إلى شقيقتي بُثينة شعبان!
وفتحت البابَ الأكُرديُونيَّ. وغادرت الحمَّام..
هَبَّ صلاح عن كُرسيِّ التَّشطيف وقد دبَّت فيه الحميَّة وصاح:
_ ونحن هل نقبعُ ههنا في الحمَّام ونساؤنا يُنتهَكنَ في الشارع هكذا؟
أمسكتُ بذراعه أستبقيه:
_ فلنتبيَّن الوضع أوَّلاً..
ومددتُ يدي إلى الحاسُوب. فعُدتُ به إلى قناة الجزيرة. وإذا امرأةٌ تركض في الشارع خائفةً مذعُورةً.. تتعثَّر فتقع صارخةً، ثم تقوم في عجَلةٍ وهي تتلفَّت وراءها مُتَّسعةَ العينين، فاغرةَ الفم، ثم تواصل ركضَها المفزوع..
يتدخَّل مديرُ مكتب الجزيرة في الشارع اللبنانيِّ غسَّان ابنُ جدِّه مُحذِّراً الأهلَ الأعِزَّاء:
_ أبعِدُوا أولادكم عن جهاز التلفاز أن يجرحَ المشهدُ الذي ستَرَونه براءتهم..
ضحك صلاح في مرارةٍ قائلاً:
_ انظُر كيف نستحي نحن. في حين أنَّ "الفحُول" الإسرائيليِّين يعزِمُون على صبيانهم- بكلِّ وقاحة- أن يكتبوا على أحاليل آبائهم المُنتصبة- قُبَيلَ تفلُّتهم في شارعنا: إلى بنات اللبنانيِّين.. مع الحُبِّ!
ويبرُز في خلفيَّة الصُّورة الإسرائيليُّون على درَّاجاتهم الكبيرة، عليها رسمُ علامة الضَّرب الحسابيَّة بالأسود. يُعلِّق غسَّان بصوتٍ مهمُوس:
_ درَّاجاتُ المِركافة الناريَّة، مفخرةُ الإسرائيليِّينَ في زعرناتهم السابقة.
وإذ لمحُوا المرأة..
كانت المرأة في عباءةٍ مُلوَّنةٍ تستُر جسدها. غيرَ أنَّ ركضَها المجنونَ جعل ثدييها الدَّسِمين يترجَّحانِ تحتَ العباءة في إثارةٍ بالغة. كما أنَّها- لمَّا وقعت أرضاً- انحسَرت العباءةُ عن فخذٍ لفَّاء، غايةٍ في الإغراء.. ويقول غسَّان:
_ المرأة الجنوبيَّة بطبيعة الحال بريئة، لا ذنبَ لها سوى أنَّها أُنثى. والزُّعران- أعزَّكُنَّ الله آنساتي وسيِّداتي- في وصايا شيوخهم الأقدمين: استحِلُّوا من الغوييم كلَّ امرأةٍ أو فتاةٍ أو طفلةٍ أو رضيعةٍ أو جنين. والغُوييم تعني..
يقطع غسَّانٌ حديثه إذ يُدرك الزعرانُ المرأة. يترجَّلون عن الدرَّاجات وهم يخلعونَ عنهم بنطلوناتهم الجلديَّة السوداء. ويتقدَّمونَ من المرأة المذعورة. فيُحاصرونها وهم يتصايحونَ ويُعربدون- وقد موَّهت الجزيرةُ عوراتِهم رِفقاً بمشاعر العذارى.. مدُّوا أيديَهم إلى المرأة. وراحوا ينزعُون عنها العباءة وهي تصرخ وتقاوم..
قطعت القناة المشهدَ ليظهرَ غسَّان ابنُ جدِّه في الأستديُوه مصدوماً حزيناً، يقول مُعتذراً:
_ مُشاهدينا الأعِزَّاء نكتفي بهذا القدر البليغ- بطبيعة الحال- من الزَّعرنة الإسرائيليَّة الجارية في الشارع اللبنانيِّ.. معنا- مُباشرةً على الهواء- من دار الأزياء الراقية في معراب- أنطوان زهرة..
يظهر أنطوان- معاون المُصمِّم سمير جعجع حولَ رقبتهِ شريطُ القياس- في شاشةٍ كبيرة بالأستديُوه، فيتوجَّه الإعلاميُّ إليه سائلاً:
_ ما قولُك في انتهاك الزعران لهذه المرأة اللبنانيَّة؟
يتساءل أنطوان غاضباً:
_ لماذا هي لابسةٌ كلَّ هذه الأقمشة؟ حوالي أربعين ذراعاً- على ما ذكرت وكالةُ الصحافة الإفرنسيَّة.. لو كانت في التنُّورة "الميني"، مثلاً، لَعايَنَها الإسرائيليُّون فعرفُوا أنَّها لا تحمل المُعيَّنَ بين فخذيها. وتركُوها.. هذا إذا كانت بريئة!
يتحوَّل غسَّانٌ في شيءٍ من الحرج إلى ضيفه في الأستديُوه:
_ أرحِّب بالناطق باسم جمعيَّة الباعة الجوَّالين عمَّار الحُوري. إلامَ تدعُو المرأة اللبنانيَّة أيُّها الناطق؟
فقال الرجُل مُتبسِّماً للسيَّاح- لا يَخفَى عليه أنَّ المحطَّة خليجيَّة:
_ أدعُوها إلى مُسالمة الإسرائيليِّين.
غسَّان مُردِّداً بصوته الرَّقيق:
_ مُسالمتُهم؟
فيندفع عمَّارٌ قائلاً- تحارُ قسَماتُ وجههِ بين العُبوس والابتسام:
_ ولِمَ لا؟ فلينتهكُوها عشرات المرَّات، مئات المرَّات، سيأتي يومٌ يَمَلُّونها فيه- على ألا تأتيَ بأيَّة حركةٍ تدُلُّ على مُقاومةٍ أو تمنُّع، ولا حتَّى كلمة "آه". هذا هو النَّموذج الذي نريدُه للمرأة اللبنانيَّة كي يتدفَّقَ علينا السيَّاح!
يتلقَّى غسَّان مُداخلةً هاتفيَّة من الناشط في حركة "عزيزة أوَّلاً" نوفل ضوء.. (تظهر على شاشة البرنامج صورةٌ للرجُل من الأرشيف، باسمةٌ، فيتوجَّه الإعلاميُّ إليها).. ماذا تقول فيما يرتكبُه أولئك الزعران؟
يُجيب الناشطُ بصوتٍ حانقٍ- وما تزال الصورةُ باسمةً:
_ الحقُّ عليها!
يسأله غسَّان وهو يُقرِّب أذُنه من الصُّورة:
_ ماذا تقول؟ لعلِّي لم أسمعْكَ جيِّداً..
فعاد الرجُل يقول بانفعالٍ بَهَتتْ له ابتسامةُ صورته:
_ الحقُّ على تلك المرأة.. (ورفع نوفلُ صوته بالغضب، فتقلَّصَتْ شفتاهُ في الصورة).. لولا تمنُّعُها على الإسرائيليِّين لَما استثارتهم إلى هذه الدَّرجة.. (ورفعَ صوته أكثرَ، فتوتَّرت عضلاتُ وجهه بالصورة).. لقد زادَها التمنُّعُ جمالاً كما زادهم إثارةً.. (وتحوَّلت الابتسامةُ امتعاضةَ لُؤمٍ وهو يُضيف).. سيقول العالم: "هي استفزَّتهم لإتيانها"!
امتُقِعَ وجهُ الإعلاميِّ المسكين.. وصاحَ صلاح:
_ تعساً لأولئك الضيوف كيف يستقبلُهم غسَّان!
فقلتُ له مُتسائلاً:
_ ماذا حلَّ برجاء يا تُرى؟
لجأتُ في اليوم العاشر إلى قناة المنار. فألفيناها تُتابع المشهدَ إيَّاه من حيث قطعته الجزيرة: ها هي ذي رجاء لا زالت تُقاوم مُتمنِّعةً على الزعران المُعربدين ولمَّا يبقَ على جسدها مِزقةٌ من قماش. تمتمتُ بإشفاق:
_ سترَكِ الله يا رجاء!
في تلك اللحظة رأينا شيئاً عجَباً اهتزَّت له الشاشة: فوق زُمرة الزعران السماءُ أرعَدَت، وتحتَ أقدامِهم الأرضُ زُلزِلت، ومن خلال صُراخِهم المذعُور سُمِعَ وقعٌ مُنتظمٌ كأنَّما هي حوافرُ حصانٍ يعدُو. ثم  ظهَرَ سيفٌ أخضرُ في يدٍ نُورانيَّة.. وانقطع البثُّ!
سارعتُ إلى محطَّة السِّيأنأنِّ الأمريكيَّة التي كانت تعرض- مُباشرةً على الهواء- نقلَ المقطُوعينَ من الزعران على حمَّالاتٍ مُدولَبة إلى مَشافي السِّرداب الإسرائيليِّ- تتدفَّق الدِّماء من بين أفخاذهم- مكتوباً على الشاشة ما ترجمتُه:
إرهابُ المُتزمِّتين خُلُقيَّاً في الشَّرق العربيِّ!
هتف صلاح في تَشَفٍّ:
_ تستأهلونَ هذا جزاءَ زعرنتكم.. أحسبتُم فُروجَ نسائنا مُباحة؟
وعاوَدَني قلقي على رجاء. فانتقلتُ إلى قناة الجديد. فإذا المرأةُ واقفةٌ وحدَها في عُرض الشارع- مستُورةٌ في شادور، ذاهلة، لكنْ آمنة. اتَّجهَ إليها بالمذياع مُراسل الجديد أنور ياسين. وسألها:
_ أين تبيتين؟
وسرعانَ ما أحاط بها الأهالي في احتضانٍ دافئٍ. فأجابوا عن سؤاله بأنْ حملوا رجاء حملاً- وهي من التأثُّر مُغرورقةُ العينين تلحَظُ الكاميرا في حياء. ومضَوا بها نحو بيتٍ على شاطئ صور، بدا على الشاشة صغيراً جميلاً وادِعاً.. وأخذ الصورةَ أنور ياسين بوجههِ النَّحيل ولحيته الخفيفة بها شيبُ مُقاومته المأثورة لاغتصابِ أُختٍ له حاوله الزعرانُ من قديم. وقال في مذياعه وهو يُشير بيده نحو البيت وراءه:
_ في هذا البيت الجنوبيِّ ستبقى رجاء صامدةً تتحدَّى الزعران..
انتقلَ بنا صلاح- في اليوم الحادي عشر- إلى القناة البُرتُقاليَّة. فطالعنا إبراهيم كنعان وهو يركبُ من أمام مَشغَل الرابية سيَّارةً رُباعيَّة الدَّفع ترفعُ شعارَ الرتَّاقين على هوائيِّها. وينطلق على رأس فريقٍ من العمُّال- إلى بيتٍ في صور. فتحت رجاء لهم البابَ بابتسامةٍ عريضة. فدخل إبراهيم بالمذياع في يده وهو يُبشِّرها ضاحكاً:
_ "جايين نرتيها".. برنامج جديد على شاشة البُرتقالة!
قادت المرأة أسرةَ البرنامج إلى حُجرة الجلوس. كانت ترتدي ثيابها البيتيَّة البسيطة، وتلُفُّ وسطَها بوَزرةٍ ورأسَها بمنديل. قال لها مُقدِّم البرنامج إبراهيم:
_عرفنا يا ستُّ رجاء أنَّ عباءتكِ تخرَّقت في اعتداء الزعران عليكِ.
نهضت رجاء من فورها. فهرولت إلى الداخل مُستبشرةً. في حين توجَّه إبراهيم إلى الكاميرا قائلاً:
_ آنَ لنا نحن المسيحيِّين أن نُشارك إخوتنَا المسلمين في هذا الشرق مصيرَهم. فإنَّ ما يُصيبُهم يُصيبنا. والزعرانُ بتمييزهم الماكر بين نسائنا ونساء إخوتنا إنَّما يستهدفون وَحدتَنا حتَّى إذا قضَوا الوطَرَ من المُسلمات التفتُوا بعين الرغبة الآثمة إلى المسيحيَّات..
جاءت رجاء بالعباءة المُخرَّقة في شيءٍ من حياء. فتناولها إبراهيم برِفق. وجعل يَعرِضُ لعدسة الكاميرا الخُروقَ الواسعة- يُدخل فيها إصبعاً وإصبعَينِ ويداً.. ثم توجَّه إلى المشاهدين يقول بفَخار:
_ لا خرق يتَّسع على الرتَّاقين البُرتُقاليِّين!
ودفع بالعباءة إلى مُرافقيه من فريق الرَّتق. فعكف هؤلاء بالإبرة والخيط على إصلاحها.. وإذا بصلاح يتساءل- مُتأثِّراً ولا شكَّ بما يعترض به سمير جعجع كلَّ مساء على القناة الميميَّة:
_ والشادور؟
فأجابه إبراهيم على الهواء:
_ لا تناقُضَ بين الشادور والعباءة الوطنيَّة- كما قال صاحبُ مشغل الإصلاح والرَّتق ميشال عون. إذا لم تصُدَّ العباءةُ الزعرانَ عن لابستها فمن الجائز لها بل من الواجب عليها أن تلبسَ ما يسترُها: الشادورَ وغيرَ الشادور..
على قناة المستقبل كان البائع الجوَّال- في اليوم الرابع عشر- يشكُو إلى سحَر الخطيب كسادَ بضاعته. تسأله المراسلة في اهتمامٍ شديد:
_ لِمه؟
فيقول مُتباكياً:
_ النِّسوان خائفاتٌ إنْ هُنَّ ارتدَين اللنجُريه أن يُغرينَ الإسرائيليِّين بانتهاكهنَّ!
فتسأله مُتأثِّرةً لحاله:
_ فكيف تعيش؟
ينفعل محمَّد قبَّاني بتأثُّر الفتاة. فيصيح حانقاً:
_ الستَّارون لن يتركوني أعيش.. يستثيرون الإسرائيليِّين حتَّى يأتوا ويقطعوا أرزاقنا!
رجعتُ- وأنا أتنهَّد- إلى تلفزيون لبنان. فطالعني خبرٌ عاجلٌ يتحرَّك أسفلَ الشاشة تحت المُسلسل المُعاد "الدنيا هيك":
إنزالٌ بحريٌّ إسرائيليٌّ على شاطئ صُور
وتذبذبت الصورة كأنَّ عُطلاً طرأ عليها. ثم ارتفع صوتُ الإعلاميَّة ندى صليبا تقول في لهوجة:
_ ننتقل الآن إلى صور، إلى مُصوِّرنا هناك علي دربج.. (تُنادي).. علي!
في الصُّورة الحيَّة زَوارقُ مطَّاطيَّة سريعة، عليها علامة الضَّرب الحسابيَّة- عند التقاء الخطَّين الأسودين نقطةٌ حمراء- رَسَت على الرِّمال. وراح يُغادرها الإسرائيليُّون يرتدون المايُّوهات.. تقول ندى من الأستديُوه بصوتٍ خفيض كأنَّها تُحاذر أن يسمعُوها:
_ أفادتنا مصادر الجيش اللبنانيِّ بأنَّ هؤلاء من زُمرة "شَييطت 13" الشهيرة بزعرنتها البحريَّة منذ ما قبل احتفار السِّرداب..
كانوا يتضاحكون مُطمئنِّي البال يتبادلون النِّكات البذيئة- دلَّت على ذلك حركاتُ أيديهم الفاضحة، ثم استجابةُ عوراتهم التي انتفخت بها مايُّوهاتُهم.. دمدمتُ متألِّماً:
_ لقد اعتاد هؤلاء اعتبارَ وطئهم للأرض اللبنانيَّة نزهةً..
وسأل المُصوِّر الصحافيُّ المشاهدينَ هامساً في مذياعه:
_ أين يقصدون يا تُرى؟
إنَّ الرجُل لا يجرؤ أن يطرحَ هذا السؤال على "المُتنَزِّهين". فهم لا يُحبُّون الصُّور. وكثيراً ما حطَّموا كاميرات الصِّحافيِّين.. ولكن لمَّا ارتفعت الكاميرا بدا على هضبةٍ فوق الشاطئ بيتٌ جميلٌ.. لا! إنَّه البيت الذي آوى فيه الأهالي رجاء!.. تململتُ في مقعدي قُبالةَ الشاشة. مَن للمرأة المستورة؟.. ويقول المُصوِّر علي حانقاً:
_ لا بُدَّ أنَّ جاسُوساً سرَّبَ إليهم هذه المعلومة.. حقَّاً أنَّه لا تخفَى على الإسرائيليِّينَ خافية!
بلغ الزعرانُ البيت.. الكاميرا تأخذُهم من بعيدٍ لخوفٍ اعترى المُصوِّر أو يأسٍ قعدَ به عن اللحاق بهم.. تلصَّصَ بعضُهم من النافذة الواطئة. وجرَّب آخَرون مقبضَ الباب، فلم ينفتح لهم.. هتفَ صلاح:
_ أين رجالُ المقاومة؟
أشار أحدُ الإسرائيليِّين- وكان رَبعةً- إلى رفاقه أن يبتعدُوا قليلاً. وركل البابَ برِجله. فانخلع وسْطَ قهقهات الآخَرين المسموعة عن بُعد.. وسُمِعتْ ندى في خلفيَّة الصورة بالأستُديُوه تقول بصوتٍ مكتومٍ كأنَّها هربت أو اختبأت تحت الطاولة:
_ مَن للمرأة المُستفرَدة؟ لعلَّ جماعةً من الأهالي باتوا معها..
نزَعَ الزعرانُ مايُّوهاتهم- هكذا بكلِّ وقاحة. ثم اندفعُوا إلى الداخل عُراةً قابضينَ بأيديهم على أحاليلهم التي موَّهَها التَّصوير.. صرختُ مُستنجداً:
_ أين الجيش اللبنانيُّ؟
أغلب الظنِّ أنَّ مُكوث الإسرائيليِّينَ بالبيت لم يدُم إلا ثوانيَ معدودات. لكنَّ المُنتظر قُبالة الشاشة وعِرضُه يُنتهَك يحسِبُ الثوانيَ دهراً.. وإذا بالزعران يندفعُونَ خارجَ البيت من الباب والنوافذ مُولولينَ يتعثَّرون.. واقتربتْ منهم الكاميرا تهتزُّ بيد المُصوِّر.. إنَّهم مقطُوعو الأرجُل!.. هببنا أنا وصلاح نُصفِّق.. وغادر البيتَ، صفَّاً واحداً مرصُوصاً، رجالٌ بالبِزَّات الزيتيَّة المُرقَّطة، يتقلَّدون سيُوفاً يقطُر من نصالها الدَّم.. وتعود ندى لتصيحَ مُهلِّلةً من أستديُوه تلفزيون لبنان:
_ إنَّه كمينٌ نصبه لهم جيشُنا الباسل الذي أبرَّ بقَسَمه أن يحفظَ الأرض..
وفي الخلفيَّة النَّشيد الوطنيُّ اللبنانيُّ:
_ أرضُنا عِرضُنا..
هتفتُ بصلاحٍ مُتخلِّصاً من قلقٍ لازمَني منذ ظهُور كبير الزعران أُلمرت مُهدِّداً:
_ ترى المُعيَّنَ الآنَ وقد ستره زوجُه بشادُور وأكَنَّهُ في مُهجَعٍ تحتَ الأرض لا يعرفُ السَّبيلَ إليه أزعر!

في اليوم الخامس عشر تساءل صلاح مُتسخِّطاً:
_ هل نبقَى قاعدَينِ بالحمَّام نتفرَّج والزعران مُتفلِّتونَ في شارعنا؟
لم أكُنْ دونَ صلاحٍ حميَّةً. ولكنَّني رأيتُ ألا يجرفَنا الحماس. فقلتُ له مُتفكِّراً:
_ لا قِبَلَ لحركتنا بهؤلاء الزعران. أمَّا الستَّارون..
قاطعني صلاح مُكابراً:
_ بل نستطيع..
فقلتُ أهدِّئ من اندفاعه:
_ نستطيع تطبيبَ ضحايا الانتهاك.
على موقعنا في الشبكة العنكبوتيَّة "المعين.كوم" فتحتُ حساباً لجمع التبرُّعات تحت الشِّعار: استُروا على حريمنا! فتدفَّقت علينا التحويلاتُ الماليَّة من العرب الغيورين.. ثم أطلقتُ نداءً إلى الراغبين في التطوُّع من الأطبَّاء النسائيِّين:
 أيُّها الطبيب ارتُقْ فَتقاً تُحيِ نفساً!
فامتلأت شاشةُ الحاسُوب بأسماء أطبَّاء يضعون خبراتهم الطبيَّة في خدمة قضيَّتنا النبيلة. وكان من الطبيعيِّ أنَّ غالبيَّتهم من مشغل الرابية للإصلاح والرَّتق- على رأسهم الطبيبُ النسائيُّ الشهير نعمة الله أبي نصر. وسأل صلاح مُتهلِّلاً:
_ أين نفتتح عياداتنا؟
فقلتُ وأنا أقصدُ على الشبكة العنكبوتيَّة مكتباً لتأجير السيَّارات:
_ نُسيِّر في الشارع عياداتٍ مُتنقِّلة.
استأجرتُ الباصات البيضاء بسوَّاقيها- مطبُوعاً على أغطية مُحرِّكاتها رسمُ المُعيَّن الأحمر مفتُوقاً من الوسط- يَبِينُ تحته بياضُ السيَّارة- وقد أخذت إبرةٌ في رَتقِ الفَتق بخيطٍ أسود. وعكفتُ على تجهيزها بالمُعَدَّات الطبيَّة أطلُبها من..
وإذا بصلاحٍ يُقاطعُني مُتأفِّفاً يسُدُّ أنفَه بإصبعَيه:
_ يا لَهذه الرائحة الخبيثة!
فأجبتُه مُتضايقاً:
_ أنتَ في مِرحاض. فماذا تتوقَّع؟
فقال صلاحٌ مُستدرِكاً وهو ينهضُ إلى طاقة الحمَّام وراءه:
_ لا يا جميل. الرائحةُ مُتسرِّبةٌ من الخارج.. (وكما يحدثُ أحياناً أنَّ الرائحة تستثيرُ في ذهن المرء حادثةً سالفةً أو قولاُ مأثُوراً كان ارتبطَ بتلك الرائحة- قال صلاحٌ وهو يتشمَّمُ مُنزعجاً قبل أن يُغلقَ الطاقة)..
Give me a chance, and I will fuck Moayyan!
وكأنَّما صُبَّ عليَّ ماءٌ باردٌ من رشَّاشة المغطس التفتُّ إلى صلاحٍ صارخاً:
_ لا ينطقُ بذلك إلا أزعر!
تولى صلاحاً الحياء- كما بدا من هَرَبهِ بعينَيهِ من عينيَّ. وقال مُعتذراً في شيءٍ من ارتباك:
_ لعلَّها عبارةٌ علِقَت بذهني من الفِلم الأمريكيِّ الذي كُنَّا نُشاهدُه..
ثم صاحَ بي مُتضايقاً- في اليوم العشرين- وهو يستديرُ إلى الباب الأكُرديُونيِّ ويفتحه:
_ سأنزل إلى الشارع؟
 
أدركَني التعبُ على كُرسيِّ المرحاض. فضربتُ بضعةَ أزرارٍ في لوحة المفاتيح. ثم أسندتُ ظهري إلى السِّيفُون مُتنهِّداً.. ويُطالعُني على قناة المُستقبل زافان قُيُمجِيان يسأل ضيفاً مُستخفياً في واقٍ مطَّاطيٍّ أبيض يلُفُّه من الرأس حتَّى أسفل الجِذع- في برنامجه "سيرة انفتحت":
_ ماذا تقول في عمليَّات رَتق غشاء البكارة التي تُجرى في الظروف الراهنة للمُنتهَكات من البنات اللبنانيَّات؟
لاح شبحُ الضيف من وراء الواقي وهو كأنَّما يتضخَّم. ثم قال بصوتٍ مُشوَّهٍ كيلا يُعرَف صاحبُه:
_ إنَّهم يغُشُّون البضاعة؛ يختمونها وهي مُستعمَلة!
يا له من وقحٍ، ويا للغته المُبتذَلة.. عرفتُه مَن يكون.. تناولتُ تلفوني الخلَويَّ وطلبتُ رقم البرنامج.. استقبل زافانُ اتِّصالي بابتسامته الباهتة.. قلتُ:
_ أريد أن أعلِّق على ضيفك.. إنَّه من أجلكَ أنت يا خليل نُجري تلك العمليَّات! وهل ترضى يا خليل لنفسك أو لصبيانك الزواج بفتاةٍ تمزَّقَ غشاءُ بكارتها؟ سترميها بالفُجور.. وقد تقتلها حتَّى لو كانت أختك أو ابنتك..
وانقطع الاتصال بغتةً لتنتقل بنا القناةُ- في اليوم الرابع والعشرين- إلى السَّراي في نقلٍ مباشر..
المراسلون الصحافيُّون والمصوِّرون في أركان قاعة الانتظار. هذا مراسل تلفاز المُستقبل سلمان سريُّ الدين- يقول في مذياعه همساً:
_ مشاهدينا.. تتويجاً لمساعيه لحميدة لوقف انتهاك الإسرائيليِّينَ لبناتنا يجتمع في هذه الأثناء الرئيس فؤادٌ السَّنيورة بالنجمة الأمريكيَّة كُندُوليزة رَيس التي تزور الشارع اللبنانيَّ في مُستهَلِّ جولةٍ فنيَّةٍ لها بالشرق الأوسط.. مضَتْ ساعةٌ وبعضُ ساعةٍ على اجتماع رَيس بالرئيس. ونأمُل مشاهدينا أن يتمخَّض الاجتماع عن وقفٍ فوريٍّ للانتهاك ال..
تنفجرُ وراء سلمانَ ضجَّةٌ من تصفيقٍ وصفير. فيقطع المراسل رسالته ويلتفت- ومعه الكاميرا- إلى بابٍ فُتِحَ على الصالة وظهرت رَيس على عتبتهِ وهي تمسحُ دمعةً على خدِّ السَّنيورة والرجُلُ يتطاول فيُقبِّلها مُمتنَّاً!
اتَّجهت المرأة في تنُّورةٍ قصيرةٍ نحو المذياع الذي ثُبِّتَ لها على عمودٍ معدنيٍّ طويلٍ فوق مِنصَّة، في حين هُرِعَ الصحافيُّون واتَّخذوا مقاعدَهم- مُلتزِمينَ بالصمت يترقَّبُون ما ستُدلي به من المرأةُ تصريح..
اعتلت كُندوليزة المنصَّة في خِفَّة- تُرافقها من أستديوه المُستقبل مُوسيقى أحمد قعبُور:
همّ الناس الإحساس
بيُمناها تنتزع كُندوليزة المذياعَ من العمود المعدنيِّ الطويل أمامها. بيُسراها تُمسك بالعمود، وتدور حوله في خفَّةٍ. ثم تتوقَّف فجأةً وهي تُرامق الصحافيِّين بإغراء. وتُدير ظهرَها ثم تضربُ بيدها على عجيزتها الناهضة في عبَث. فألمح عزيزةَ إذ ارتفعت التنُّورةُ عن أسفل إليتَيها! ثم تستدير المُتعرية لتُواجه الكاميرا فتهبط وتقعد القُرفُصاء مُفرِّجةً فخذيها.. ولكنَّنا لم نلمح شيئاً! ثم عادت فضمَّتهما. ونهضت قائمةً تقول وهي تلهثُ إذ تُقرِّب المذياعَ من فمها:
_ هالُوه يا جمهوري الحبيب في نادي الشرق الأوسط. لا تقلقوا أبداً. سيُواصل رجال أُلمرت جهودَهم مشكورينَ حتَّى يعثُروا على المُعيَّن، الأسير المسكين. ولن تكونوا إذ ذاك إلا راضين!
أنهض مُستاءً- لا أفهم شيئاً. وأُطفئ الحاسُوب. وأُغادر الحمَّام.
في طريقي إلى منزل والديَّ بزقاق البلاط صادفتُ فتاةً مُتشَودِرةً تقتعد الرَّصيف. كانت مُطرِقةً ساهِمة. فلمَّا حاذيتُها ألقيتُ عليها السَّلام. فجفلت مُتراجعةً في جِلستها بالاستناد إلى يدها اليُمنى وهي تشهقُ ضاربةً يدَها اليُسرى على مُقدَّم شادورها كأنَّما تستوثق من متانته. ولمَّا رفعت إليَّ وجهها أدركت في الحال أنَّني لبنانيٌّ. فأفرخ رَوعُها. غيرَ أنَّني سألتُها في شيءٍ من عتاب:
_ لعلَّكِ ظننتني أزعر!
لم يكُن يَبينُ من الفتاة إلا وجهُها- ولا تكُفُّ مع ذلك عن تضييق مساحته- أو مساحة الظاهر منه- تشُدُّ فُتحة الوجه من الشادور على ذقنها وخدَّيها.. ثم قالت مُتوجِّهةً إليَّ بالحديث ولا تكاد ترفع نحوي عينيها:
_ أعرف يا أخ أنَّك تستغرب تستُّري المُبالغ فيه..
أخذ حديثُها بالاعتبار الوُجهةَ التي رأتني قادماً منها. فأغراني ذلك باتِّخاذ وجهة النظر الغربيَّة. فأجبتُها كالكاذب مُشيحاً بوجهي نحو الأشرفيَّة:
_ تلبسينَ ما تشائين.
فقالت شارحةً:
_ نحن الجنوبيَّاتِ نتعرَّضُ لانتهاك الزعران منذ احتَفرُوا سِردابَهم بالأرض الفلسطينيَّة.
قلت كأنَّ الأمر لا يعنيني وأنا أزداد ابتعاداً عنها:
_ هذا دأبُهم.
قالت ولمَّا تكُفَّ عن شدِّ فتحة الشادور على ذقنها:
_ هبَّ رجالُنا للذَّود عن شرفهم..
التفتُّ إليها أنظُر في عينيها قائلاً أستبقُ الحديث:
_ فألبسُوكنَّ الشادورات!
ضحكت رجاء للمرَّة الأولى. كانت ضحكتُها مُفعمةً أنوثةً على الرغم من تحفُّظها الشديد. ثم قالت وهي تضُمُّ أناملَها تستمهلُني:
_ استجمعُوا أوَّلَ الأمر ما تيسَّر لهم من قماشٍ يستروننا به: الباعة الجوَّالون تبرَّعُوا ببعض الأقمشة، محلات الألبسة منحَت، التجَّار، المُغتربون،..
_ والغرباء!
الكلمة التي تكرَّرت في الأشرفيَّة بالزمان القديم- أيَّامَ مُعلِّمي القصِّ والتَّفصيل المُتنافسين تقصيراً وتشقيقاً في أزياء اللبنانيَّات.. إلا أنَّ رجاء قالت فاهمةً قصدي:
_ بلى بلى.. عقدنا حولَ الخصر الكوفيَّة الفلسطينيَّة المُشبَّكة. وماذا في ذلك وقد سترتْ عُريَنا إلى ما فوق الرُّكبة بقليل؟ ثم إنَّ الفلسطينيِّين ليسُوا بغُرباء. ما غريبٌ إلا الزعران!
عند ذاك لم أستطع إلا العودةَ إلى وُجهة النظر الشرقيَّة:
_ صدقتِ يا رجاء، كلُّنا أهل.
تشجَّعت الفتاة. فاندفعت تقول- ناسيةً أن تشُدَّ فتحةَ الشادور حولَ وجهِها:
_ إنَّ من بنات الجنوب مَن ارتدَينَ الصَّرَفان- زيَّ النساء في روسيَّا، هذا ما شجَّعنا على قبول تجربة الشادور الإيرانيِّ..
_ سعيدة!
جاءت التحيَّة من وراء. التفتنا فإذا امرأةٌ تقترب منَّا، في يدها كيسٌ مِمَّا تُحمَل فيه المُشتَريات. ولمَّا بلغت موقفَنا قالت تخاطب رجاءَ برقَّة:
_ أريد أن أسألكِ يا أُختي.. رأيتُكِ تقتعدينَ الرَّصيفَ منذ ساعتين.. أليس لكِ مأوى؟
فوقفت رجاء مُمتنَّةً لسؤال المرأة. وأجابتها بحياء:
_ أنا من الجنوب..
فقالت المرأة باسمةً:
_ وأنا اسمي صونيا. أسكن قريباً من هنا. ويُسعدني أن تنْزلي عندي حتَّى ينكفئ الزعران.
فاغرورقت عينا رجاء في تأثُّر. إلا أنَّها تمتمت بإشفاق:
_ أخشَى أن أُثقل عليكِ..
فهتفت صُونيا بحِدَّة:
_ لا والعذراءِ لا أرضى أن تبيتي بالشارع وأنامَ أنا في بيتي.. (وأشارت إلى الكيس في يدها).. نقتسمُ اللقمةَ فيما بيننا!
وشدَّتها من ذراعها. فأذعنت رجاء مُتغلِّبةً على حَرَجها. وهتفتُ وراء المرأتين في غبطة:
_ أصيلة يا ست صونيا. سلامي إلى مارد الشمال!
هناك في ساحة رياض الصُّلح على مبنى التِّياترو الكبير علَّق اللبَّاسُون، من تيَّار وئام وهَّاب، صورةً للمُتعرِّية الأمريكيَّة كُندوليزة رَيس، على طُول الجدار المُواجِه للسَّراي، وهي تلتفُّ حول عمود المذياع في إهاب أفعى الأناكُندا العملاقة! 
واصلتُ طريقي إلى زقاق البلاط والشمسُ تميل نحو الغُروب. فترامى من البيوت صوتُ السيِّد نصرالله يقول بثقة:
_ انظُروا إلى اليخت وهو يحترق.. وسيغرق!
وهُرِعَ شبابُ الزقاق بالدرَّاجات الناريَّة إلى شاطئ البحر. تلفَّتُّ أبحثُ عن وسيلة نقل. فإذا درَّاجةٌ هوائيَّةٌ تتَّجهُ نحوي بسُرعة حتَّى توقَّفَ بها صاحبُها إزائي. وهتفَ بي بتلقائيَّة:
_ اركبْ يا جميل!
ركبتُ وراء رفيق نصرالله وأنا أسألُه لاهثاً من حماس:
_ عن أيِّ يختٍ يتحدَّث السيِّد؟
فأجاب رفيقٌ وهو يُلاقي بعضَ الجهد في الدَّواسة:
_ اليخت الإسرائيليُّ الشهير- ساعر5 الراسي قُبالةَ شاطئ بيروت يركبُه أثرياء الزعران ينتظرون ريثما يحمل إليهم زعرانُ الدرَّاجات عذارى من بنات اللبنانيِّين!
بلغنا عين المُريسة.. وجعلنا نتطلَّعُ صوبَ البحر إلى اليخت وقد بدا بعيدَ المنالِ جدَّاً لا نكاد نراه في صفحة الماء الذهبيَّة حتَّى أنَّنا لم نستطع الردَّ على القاضي المُتقاعد وليد عيده- وكان جالساً مع زملائه يلعبونَ بالورق إلى جانب درابزين الكُرنيش تحتَ مصباح الإنارة- إذ قال مُشكِّكاً وهو يعود إلى اللعب:
_ من أين للستَّارين- وأمضى سلاحِهم سيفٌ- أن يطالُوا بالنار هذا المركبَ العظيم؟
وما كاد الرجُل يُكمل كلامه حتَّى شبَّت النيرانُ باليخت في عُرض البحر!
انعكسَ الوهجُ على وجوهنا المُستطيلة من الدَّهَش.
وفي طريق عودتنا على الدرَّاجة جعلنا أنا ورفيق نصرالله نتوقَّف قليلاً هنا وهناك كي نتسمَّعَ إلى تعليقات المارَّة في الشارع.. تحادثَ عجوزان عند بائعِ عصير:
_ يا لها من مُفاجأةٍ أتحفَنا بها السيِّد!
_ أذَلَّ بها فجُورَ الزعران..
وقالت امرأةٌ في شُرفة منزلها وهي ترفعُ وجهَها نحو السماء في قلق:
_ وعدنا السيِّد بمُفاجآتٍ أخرى. فعسَى رجالُنا يُحقِّقون إصابةً بأمِّ كامل!
سألتُ رفيقاً:
_ مَن هي أمُّ كامل؟
فأجاب وهو يلهث من جهدٍ ومن حماس:
_ إنَّها تلك الطوَّافة الإسرائيليَّة الرَّهيبة يعرفها الجنوبيُّون بهذا الاسم. تُحلِّق في الجوِّ على ارتفاعٍ شاهقٍ مثل طائرٍ جارحٍ يُعاين في الأرض فريسةً. ولا تدري فتاةٌ- خارجةٌ إلى العَراء لضرورة- متى تنقضُّ عليها أمُّ كاملٍ. فتركع الفتاة مشلولةً من ذُعرٍ كدجاجة، حتَّى تهبط عليها الطوَّافة. فتحملها وتطير بها.. ثم لا يجد ذوو الفتاة في الأرض من أثرٍ لها سوى ثيابها المُمزَّقة!
وجاوبتها النِّسوةُ من الشُّرُفات والسُّطوح:
_ سيُصيبونها هي الأخرى ويُسقطونها بإذن الله!
وصاح ولدٌ من نافذةٍ يُلوِّح بصورةٍ للسيِّد حسن:
_ لن تجرؤ أمُّ كاملٍ على التَّحليق في سماء الجنوب بعد اليوم!
أعادَني رفيق نصرالله إلى زقاق البلاط. لكنَّه أبى إلا أن نحتسي القهوة معاً في مقهى عتريس. جلسنا وهو يقول مُعلِّقاً:
_ ما أعزَّنا يا جميل إلا..
بيب بيب!
رسالة نصيَّة انبعثت إلى هاتفي الجوَّال. فتحتُها مُستأذناً صاحبي الذي كان يطلب فنجانَين.. إنَّها رسالةٌ من رجاء في ملجئها بالشام، تقول فيها:
أنا في أمانٍ يا جميل وهناءةٍ في هذه الدار الشاميَّة العتيقة. أيُّ حفاوةٍ لاقتني بها شقيقتي بُثينة شعبان، وأيُّ حرارة، وأيُّ كرم! ليتك معي.. نتسامر الليلَ كلَّه في استذكار المرحومة أمِّنا.. وإذ شكوتُ إليها الظلم الذي نالني على يدَي شقيقنا رستُم أقرَّت بُثينة بأخطائه قائلةً إنَّه ما كان ينبغي له أن يُقيمَ في بيتي بالجُمَّيزة كلَّ تلك المُدَّة، وأن يتدخَّلَ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من سُلوكي الشخصيِّ، ويضربَني بقسوةٍ كلَّما تأخَّرتُ في العودة بالليل- بدعوى الحِفاظ على عِرضه. كما هالها أن تعرفَ أنَّه كان يستولي على مُعظم أجري من عملي في الفنادق والمطاعم والملاهي- لقاءَ حمايتي.. إلا أنَّ بُثينة عتَبَت عليَّ قائلةً بلغتها المُتحفِّظة إنَّ "جزءاً منِّي" خرج بالأكثريَّة من اللبنانيِّين عن طبيعتنا السَّويَّة نحن العربَ الشرقيِّين. أمَّا الطبيب بشَّار الأسد فقد قال لي باسماً وهو يُعاينُني إثرَ وعكةٍ ألمَّت بي: سأتعامل مع ما حصل باعتباره نزوةً عابرة. لكنِّي..
وتعالى هُتافٌ في الشارع خارجَ المقهى:
أحمد فتفت يا قبضاي  واحد قهوة واثنين شاي!
ودخل المقهى شُبَّانٌ يتناوبون النظرَ في هاتفٍ خلويٍّ وهم في غايةٍ من الانزعاج..
_ ما الخبر يا شباب؟
انفصل علي عمَّار عن الشبَّان. وتقدَّم من طاولتنا. فصافحنا بيده الغليظة وجلس وهو يقول باستياء:
_ إنَّ زُمرةً من الزعران هربُوا من سُيوف رجالنا في الجنوب، فلجَأُوا إلى مقهى مرجعيون الذي كان يجلس فيه شيخُ القبضايات أحمد فتفت وسْطَ نفَرٍ من صبيانه قبضايات القُرى المُجاورة. رآهم شيخُ القبضايات قادمين على درَّاجات المِركافة. فما كان منه إلا أن نهض عن كُرسيِّه يُرحِّب بهم. ثم دعاهم للجلوس إلى طاولته. وصفَّق لصبيِّ المقهى. وأمره أن يُحضر "لضيوفه" ما يطلبون من قهوةٍ وشاي!
فهتفتُ مستنكراً:
_ كلا!
أمَّا رفيق فهزَّ رأسه وهو يُتمتم:
_ أنا أصدِّق..
لكنَّ علي عمَّار- الذي طمح يوماً إلى القبضنة قبل توظُّفهِ في مخازن الشادُورات والتزامهِ أخلاقَ الستَّارين- دعا بالهاتف الخلويِّ. وناولني إيَّاه قائلاً:
_ انظُر..
هذا شيخُ قبضايات الشارع اللبنانيِّ أحمد فتفت- بالدَّشداشة المُقلَّمة وقضيب الخيزُران والشوارب المفتُولة وهو يحمل بيمينه صينيَّةً عليها أقداحُ قهوةٍ وشاي مُنحنياً يُقدِّمُها بابتسامةٍ مُتودِّدة للزعران- المُتميِّزين بعلامة الضَّرب الحسابيَّة على العَضُد..
وقال رفيق وهو يعود إلى احتساء قهوته:
_ ما أحسبُ إلا أنَّ فتفتاً يتمنَّى في أعماقه لو يُخلِّصه الزعران الإسرائيليُّون من الستَّارينَ الذين طالما نازعُوه زعامتَه في الشارع.
وقال عتريسٌ صاحب المقهى من وراء البار:
_ أرى أنَّ الزعران لم يلجأوا إلى المقهى لجُوءاً، بل جاؤوا بدعوةٍ من أحمد فتفت نفسه للتسامُر والتشاور.
قلت ملتمساً العذر لشيخ القبضايات:
_ ليس الرجُل وقِحاً إلى هذا الحدِّ.. إنَّ شيخ القبضايات إنَّما اضطُرَّ اضطراراً إلى الابتسام في وجُوه أولئك الزعران، وطلب القهوة والشاي لهم، واسترضائهم.. ذلك اتِّقاءً لشرِّهم إذ هدَّدوا باختطاف عددٍ من صغار القبضايات انتقاماً لعجزهم عن العُثور على المُعيَّن!
ورفع عتريسٌ صوتَ التلفاز المُعلَّق بالزاوية وهو يقول:
_ اسمعُوا..
هذه الجميلة سُهَيرُ القيسيّ- تُذيع على قناة العربيَّة نبأً عاجلاً. تقول في لهفةٍ أسَرَتْ نفسي:
_ ذكر مُتحدِّثٌ باسم السِّرداب الإسرائيليِّ أنَّ الفحُول من فرقة غُولاني.. (لفظت سُهير اسمَ الفرقةِ في رَهبةٍ ارتعَدَ لها قلبي).. اكتشفُوا في مارون الراس مَهجَعاً تحتَ الأرض.. (ثم اقتربت المرأةُ بشفتيها الشَّهيَّتينِ كأنَّما تهمسُ بسِرٍّ خطيرٍ في أُذُني).. اكتشفُوه بأجهزتهم الذكيَّة التي تسبِرُ الفراغاتِ حتَّى عُمق ثلاثينَ متراً.. (نظرت المُذيعةُ إليَّ مُتَّسعةَ العينَين تحُثُّني على استهوال الرقم. فاستهولتُه. ثم تلكَّأتْ بُرهةً ريثما يترسَّخ في نفسي الخوفُ من أولئك العُتاة. فلمَّا ترسَّخ قالت بإشفاق).. دهَمَ الفحُولُ المهجَع ودخلُوه بعد معركةٍ قاسيةٍ دارت مع صاحبه وإخوتهِ وأبناء عُمومته-وهم جميعاً من عمَّال مخازن الشادورات.. (نطقتها بازدراءٍ نفَّرني من أولئك العمَّال)!
غشِيَني وجُوم.. بل أعترفُ أنَّ شيئاً من الفرح تسلَّلَ إلى نفسي رُغماً عنِّي، أعني الفرحَ بنجاح الإسرائيليِّين!
لكنَّ رفيق نصرالله صاحَ حانقاً:
_ كذِب.. هذا كذِب!  
رفع عتريسٌ صوتَ التلفاز درجةً. فأضافت سُهيرُ مُطمئنَّةً إلى عجزِ رفيقٍ عن تكذيبها:
_ هذا وقد أفادنا شُهود عيان.. (واتَّسعت عيناها دلالةً على العيون الشاهدة).. أنَّهم رَأَوا خِرَقاً سوداء بالأرض قريباً من المهجَع، عليها بُقعٌ من دم، يعتقدون أنَّها مِزَقٌ من شادُور المرأة التي كانت مُختبئةً فيه.. (وأغمضت سُهيرُ عينيها وهي تهُزُّ رأسَها لي أن صَدِّقني يا جميل. ثم فتحتهُما كأنَّما تتأكَّد للمرَّة الأخيرة من تصديقي لخبرها اليقين).
حتَّى التَّرجيعُ الواجبُ في المصائبِ لم ينطِقْ به أحدٌ في المقهى.. وإذا برفيق نصرالله- صاحب "دَور المُذيعات في فَرضِ القَناعات"- يعود فيصيحُ وهو ينهضُ بعصبيَّةٍ إلى التلفاز:
_ أقنعتكم هذه المُذيعة.. (وأمرَ عتريساً بخُشونة).. استَحضِرْ قناةَ المنار.
فأجابه الرجُل متأوِّهاً:
_ قطع الزعرانُ أسلاكَها فتوقَّفت عن البثِّ.
حرَّك رفيقٌ رأسَه بانزعاجٍ شديدٍ وهو يصيح بالرجُل:
_ كلا!
ثم مدَّ يده إلى التلفاز. وضرب أزرارَهُ بعنفٍ- وأنا أنظُر في بَلَه.. فإذا المنار تُضيء المقهى بوجه كوثر المُوسويِّ! تعلَّقت عينايَ الحائرتانِ بعَينَي المُذيعة الصَّبُوح وهي تنظُر إليَّ في عتابٍ- بما لها عليَّ من دالَّةٍ اكتسبتْها بمُتابعتي لها على مرِّ السِّنين- تعاتبُني على تصديقي زميلتَها الكاذبةَ في المحطَّة المُنافسة. ثم بدا أنَّها تُسامحُني إنْ أنا صدَّقتُها فيما ستُذيعُه. وقالت تقول الحقيقة:
_ إنَّ المهجَع كان فخَّاً نصَبه رجالُنا للزعران في مارون الرَّاس.. (أذاعت ذلك باعتزازٍ نفخَ في رجُولتي حميَّةً)..
ويُدوِّي في المقهى تصفيقٌ حماسيٌّ. ثم تعرضُ القناة كهلاً جنوبيَّاً مَهيبَ اللحية هو رفيق علي أحمد- يَروِي الواقعةَ بلهجتهِ الجنوبيَّة:
_ رأيتُ الزعران يُطوِّقون البُقعةَ هُنيكا.. (وأشارَ بيده إلى وَتَدٍ مشدُودٍ إليه حَبل).. هذا حبلُ الغسيلِ الذي مَدَّه رجالُنا فوقَ سطح الأرض، عليه شادورٌ مُبلَّل..
وتعود كوثرُ لتقولَ بنبرتها المحبوبة:
_ اهتدى الزعرانُ بسهولةٍ إلى مدخل الغار المُفضي إلى المهجَع تحت الأرض. فاندفعُوا إليه- واثقينَ من مُفاجأة المرأة وزوجِها في السَّرير.. (تسكُت المُذيعة الخجول قليلاً فأزدردُ ريقي بصعوبةٍ مُتمنِّياً عليها الإفصاح. لكنَّها تخلُص إلى القول).. وكانت تلك الاندفاعةُ آخرَ عهدِ أولئك الزعران بالفحُولة..
وأخرَجَني من أسرِ الخبر الأصحابُ يهتفون:
_ ألله أكبر. ألله أكبر. فشِل ألمرت. فشِلت رَيس!

على أنِّي لم أفهم مغزى زيارة كُندوليزة رَيس إلى السَّراي حتَّى قرأتُ في اليوم التالي مقالةَ أسعد أبي خليل:
كُندي وعزيزة والمُعيَّن
رصَدتْ إدارةُ النادي الأمريكيِّ للتعرِّي، الإسطِرِبطيز، مبالغَ طائلةً- ساهَمَ بأكثرها الأمير مُقرِنٌ ابنُ عبد العزيز- لإنشاء نادٍ للتعرِّي الفنيِّ الراقص في وطننا العربيِّ، يُدعى "نادي الشرق الأوسط الجديد". وستقوم كُندوليزة رَيس، السَّوداء الحارَّة، المُتعرية الأمريكيَّة الشهيرة، نجمة النادي اللامعة كُندي، كما تُعرف هناك، بعرُوض التعرِّي فيه للمُشاهدين والمُشاهدات. وهي لهذه الغاية تريد أن تضُمَّ عزيزةَ والمُعيَّنَ، كليهما معاً، في كيلُوتٍ واحدٍ، تحت تنُّورتها!
رفعتُ رأسي عن موقع "العربيِّ الغاضب أبداً من الانحِلال الخُلُقيِّ" وأنا أقول لرجاء:
_ يا لها من واهمة!
فتحت رجاءُ عينيها في المغطس متسائلةً:
_ مَن تقصد؟
_ كُندي..
فقالت بصوتٍ ناعسٍ وهي تتثاءبُ وتفرُك بيدها عجيزتها كالمُتألِّمة:
_ تستأهل حقَّاً الصورةَ التي زرعَها اللبَّاسُون في طريق عودتها إلى المطار إذ تُمثِّلها بنابَينِ داميينِ وهي تعَضُّ، من فشلها، عزيزة!
صباحَ اليوم الثالث والثلاثين كنتُ راكباً إلى جانب صلاحٍ يقود بنا الباصَ الأبيضَ- عليه رَسمُ المُعيَّنِ الأحمر المرتُوق- في سُرعةٍ وعصبيَّةٍ كعادة اللبنانيِّين.. لفتَ سمعَنا بائعُ الجرائد الجوَّال يُنادي بأعلى صوتهِ على الرَّصيف:
_ اقرأوا بيانَ جمُّول الثانية.. اقرأوا بيانَ جمُّول الثانية..
تتناول السيَّارات نسخةً من الجريدة ثم تواصل سيرَها.
_ تمهَّلْ يا صلاح.
ناولني عصام حمد الجريدة وهو ينظُر في عينينا باسماً من خلال نظَّارته السَّميكة. فتحتُ جريدةَ الأخبار وصلاحٌ يتساءل مُستغرباً:
_ لماذا نظرَ إلينا بائعُ الجرائد بكلِّ ذلك الحنان؟

بيان جمُّول الثانية
يا أبناء شعبنا اللبنانيِّ العظيم. أيُّها الوطنيُّون الشُّرفاء.
إنَّ الزعران الإسرائيليِّين المُستمرِّين في انتهاكهم الوحشيِّ لنسائنا منذ ثلاثةٍ وثلاثين يوماً يرتكبون فَعلاتهم النكراء بالرعاية الأمريكيَّة التي تميَّزت بالمجُون الرَّخيص والوقاحة السافرة، حيث يَظهر جليَّاً أنَّ الناديَ الأمريكيَّ هو القائد الفعليُّ للانتهاك.
ويكشف التذرُّعُ باغتيال الشهيد رفيقٍ الحريريِّ لمُواصلة الانتهاك مسؤوليَّةَ السِّرداب الإسرائيليِّ والنادي الأمريكيِّ عن جريمة الاغتيال. كما يؤكِّد خطورةَ تأسيسِ "نادي الشَّرق الأوسط الجديد للتعرِّي" الذي إذا ما نجحُوا بإقامته في شارعنا فإنَّ فروعَه ستنتشرُ في سائر الشوارع العربيَّة المُجاورة.
أيُّها الرجالُ من كلِّ الطوائف والمناطق والاتجاهات.
إنَّ الإسرائيليِّين لن يكُفُّوا عن الاعتداء الكرَّةَ بعد الكرَّةِ على نسائنا انطلاقاً من ذلك السِّرداب الفاجر.
أيُّها اللبنانيُّون الحريصُون على أعراض نسائنا.
إلى السِّرداب- تنظيماً للمُهاجمة الوطنيَّة اللبنانيَّة.
إلى السِّرداب- تحريراً للأرض العربيَّة من رِجس الزعران الإسرائيليِّين.
إنَّ شرفَ مهاجمة المُغتصبين هو الشرفُ الحقيقيُّ الذي يُفاخر به الرجُل الحقيقيُّ.
فلتنتظمْ صفوفُ الشُّرفاء اللبنانيِّين كافَّة، بغضِّ النظر عن انتماءاتهم السابقة وعن الاختلافات العقائديَّة والطائفيَّة والطبقيَّة، في جبهة المُهاجمة الوطنيَّة اللبنانيَّة للسِّرداب الإسرائيليِّ- قطعاً للعادة التي دَرَجَ عليها الزعرانُ الإسرائيليُّون في انتهاك نسائنا الحرائر، ورفعاً لراية الشرفِ لشعبنا اللبنانيِّ العظيم.                              إبراهيم الأمين

صحتُ بصلاح مُهلِّلاً:
_ إلى السِّرداب يا صلاح!
مائةً وثمانينَ درجةً أدار صلاحٌ المِقودَ بذراعينِ وَضَعَ فيهما ستِّينَ عاماً من التَّصميم- حتَّى دواليبُ الباصِ زغردتْ على الأسفلت، وجاوَبتْها في الحال دواليبُ السيَّارات في الشارع نحو الجنوب.. مددتُ يدي إلى الرادِيُوه فإذا به يصيح مُترنِّماً:
_ إذاعةُ الشرق.. والحكي أحلى من الشَّوفه.. (ويحكي فؤادٌ السَّنيورة مُتوسِّلاً).. لا تُهاجموا السِّرداب.. الإسرائيليُّون مُنسحبونَ من شارعنا!
صرخَ بي صلاح مُتذمِّراً وهو يتجاوزُ في غضبٍ سيَّارةً مُتمهِّلة:
_ أسمعنا فيروزَ أو السيِّد..
شاركتُ رفيقي فيما عاناهُ تلك اللحظة؛ فهو وإنْ زادَ من سرعتهِ صوبَ السِّرداب، فإنَّ نداء السَّنيورة أقلقَ شيئاً في نفسه. ولا صوتَ يُعيد إلى النفس توازُنها مثل تانِكَ الصوتينِ في الشارع اللبنانيِّ. وعدتُ إلى الرادِيُوه أتنقَّلُ بين موجَتَي صوت الشعب وإذاعة النور:
موعُود بعيونَك أنا     موعُود
وشُو قطعت كرمالُن ضِيَع     وجرُود
إنتَ(2)  إنتَ عيونَك سُود  ومانَّك عارف(2)
شُو بيعملوا فيِّي(3)   العيون السُّود
_ بعد ثلاثةٍ وثلاثينَ يوماً من مُحاولات الزعران المُتواصلة للنَّيل من شرفنا..
موعُود   موعُود
_ أُعلن صِدقَ وعدي لكم، أعلنُ سلامةَ شرفِنا من الأذى..
عَ هدير البُوسطة   اللي كانت ناقلتنا
من ضيعة حملايا  على ضيعة مِروحين
تسمَّعتِلَّكْ يا سيِّد   وتذكَّرت عيونَك
_ صُنَّاهُ بأغلى ما عندَنا لأنَّه أغلى ما عندَنا، شرفُنا وشرفُ اللبنانيِّين وشرفُ العربِ أجمعين..
نحنا كِنَّا طالعين  بالعَجْقة ومبسُوطين
نحنا كِنَّا طالعين  بالعَجْقة ومبسُوطين
_ لا تَعبأُوا بالزعران..
واحد عم ياكُل خسّ   وواحد عم ياكُل تين
في واحد هُوِّ ومرتُه        آه شُو حلوِه مرتُه
نيَّالُن ما أفضَى بالُن       ركَّاب   مِروحين
ولو بيشُوفوا عيونَك يا     سيِّد شُو حِلوين!
تا تا تا   تا تا   تارارا...
_ لن يمَسَّ شرفَكم بعدَ اليومِ أزعر..
هيدا اللي هُوِّ ومرتُه:     اطَّمَّن ونامت مرتُه
_ عودُوا إلى قُراكم لا خوفٌ على نسائكم ولا الزعرانُ يجرُؤون..
وحياتَك كان بيترِكْها   تطلَع وَحْدا عَ مِروحين
ويخرِب بيت عيونَك يا       سيِّد شُو حلوين!
تا تا تا.. تا تا.. تارارا..
نحنا كنَّا طالعين   طالعين ومش لابسين
نحنا كنَّا طالعين   طالعين ومش لابسين
_ أمَّا اللواتي تمزَّقت أثوابُهنَّ في مُحاولة الانتهاك الفاشلة فستُوزَّع عليهنَّ الأقمشةُ من مالٍ حلال..
هيدا اللي هوِّ ومرتُه     صدَّق وفرحت مرتُه
وحياتَك كان بيقطُفلا     تتستَّر بورقة تين
ومش عارِفنا إنتَ يا     سيِّد شُو صامدين
تا تا تا..
على صورة المشاهد التي راحت قناةُ المنار تنقُلها عن طوابير البُوسطات في الطريق إلى قُرى الجنوب جعل الإعلاميُّ علي قصير يستضيف أهلَ الاختصاص في برنامجه "مع الحدث"، يسألهم التعليق. هذا ناصر قنديل- الخبير في الأمراض التناسُليَّة يقول بتوكيد:
_ انهارت أسطورة الإسرائيليِّ الأزعر الذي لا يستحي.
ويسأله عليٌّ مُستوثقاً من حَدَث برنامجهِ:
_ أحقٌّ ما تقول؟ هل نقول لنسائنا إنَّكنَّ في مأمنٍ من زعرنةٍ إسرائيليَّةٍ جديدة؟
فيُجيب الخبير مُتبسِّماً وهو يبسط يده كنايةً عن فُقدان الشيء:
_ لم يعُد للأزعر الإسرائيليِّ- أصلاً- ما يَتواقحُ به!
ثم يستضيف عليٌّ كريم بقردُوني- الذي انضمَّ مؤخَّراً إلى حركتنا. ويسأله:
_ ما كانت غايةُ الزعران من محاولة استرداد المُعيَّن؟
فأجاب كريمٌ بمنطقه المُقنع وهو يعُدُّ على أصابعه:
_ إذلال الرجُل العربيِّ بهتك عِرضهِ وانتهاك شرفهِ مرَّةً أخرى.. (ثم بسط الإصبع الثانية).. منع الرجُل العربيِّ عن المُعيَّن فلا يتمكَّنُ أبداً من إنسالهِ أولاداً.. (وبسَط الإصبعَ الثالثة)..
وهذا أمين حطيط، المُتنبِّئ العصريُّ. يسأله عليٌّ:
_ الآن وقد فشِلَ الزعرانُ الإسرائيليُّون في استرداد المُعيَّن. ماذا ستكون حالُهم من دونه؟
يُجيب أمين كعادته في التَّفصيل:
_ ثلاثة نتائج لفُقدانهم المُعيَّن، ستتحقَّق عاجلاً أم آجلاً: الأولى- إنَّ السِّرداب الإسرائيليَّ قائمٌ أصلاً على الاغتصاب والساديَّة. فكيف يستمرُّ وليس من مُعيَّن؟ النتيجة الثانية- التناقُص المُطَّرِد في أعداد المواليد من الزعران.. (يُقلِّب أوراقاً بين يديه).. هذه إحصاءاتٌ تؤكِّد ذلك. أمَّا النتيجة الثالثة فتُستَفاد من الأُولَيينِ وهي زوالُ إسرائيل!
والحقُّ أنَّ كلَّ الأوادم في العالم تحدَّثوا عن فشل عصابات الزعران الإسرائيليِّين في استرداد المُعيَّن من عِصْمة الستَّارين.. إلا فؤاداً السَّنيورة!
فؤادٌ السَّنيورة- وحده- لم يقتنعْ بفشل الزعران.
ها هو يَستقبل وفداً من شُبَّان طرابلس الراغبينَ في الزواج- وقد زارُوه في السَّراي للوقوف على خاطره.
غصَّت القاعةُ بهم- لا زالت كاميرا تلفاز المستقبل تأخُذهم بتقنيَّات التَّصوير الحديثة حتَّى سلَّمنا حقَّاً بأنَّ عددهم يزيدُ على المليون!
وخطبَ السَّنيورة فيهم قائلاً بعطفٍ أبَوِيٍّ آسِر:
_ لا تُصدِّقُوا يا أولادي أنَّ الإسرائيليِّين فشِلوا في إلقاء اليد على المُعيَّن، وهُم على ما هُم عليه من فحُولةٍ تعرفُها القاصيةُ والدانيةُ من نساء العرب، فحُولة قد ضاعفتها مرَّاتٍ ومرَّات الفياجرا الأمريكيَّة. وبالتالي إنِّي أسأل: أيُّ سلامةٍ يتحدَّث عنها السيِّد حسن؟ إنَّ الإسرائيليِّين استردُّوا المُعيَّن، استردُّوه استردُّوه استردُّوه!
وتحوَّلت الكاميرا إلى قُرطةٍ من الصبيان- سَمَّى التلفازُ منهم محمد كبَّارة وسمير الجسر ومحمد سلام- وقفُوا بين الجمع يهتفون مُترنِّمين:
_ المُعيَّن طالق طالق طالق.. ومن عزيزة طالبين القُرب!
وكان بينهم الشيخ..
قمتُ ضائقَ الصدر. فضربتُ السِّيفون. ثم أطفأتُ الحاسُوب وأنا أقول لصلاح:
_ ألن تحضُر "مهرجان السَّلامة" بملعب الراية، المهرجان الذي دعا إليه الستَّارونَ احتفالاً بسلامة شرفِنا من الأذى؟ 
في الضاحية، كان شارع الأمراء يغَصُّ بالناس الزاحفينَ نحو ملعب الراية. كنَّا نسمعُهم يتحدَّثون بأصواتٍ عاليةٍ وتوكيدٍ عجيبٍ عن نصرٍ إلهيٍّ شاركَ فيه أبو الفضل العبَّاس بالسيف ذي الفِقار! أمَّا عيناي فابتهجتا بصُورٍ- عُلِّقت على أعمدة الإنارة في وسط الشارع- لدرَّاجات المِركافة الإسرائيليَّة، مقلوبةً- دواليبُها إلى أعلى وقد حوَّلها السيفُ الأخضر خردةً.. ولفتَ صلاح نظري إلى صُورٍ على الجدران مُكبَّرةٍ للزعران يتَّكئ بعضُهم على مَناكِب بعضٍ وهم يبكُون رجُولتَهم المقطُوعة!
في الملعب جلسنا بالمقاعد الأماميَّة إلى جانب أُسامة سعد وسليم الحُص وعبد الرحيم مُراد وعُمر كرامة- قادة الهوَى السَّوِيِّ في الشارع السُّنِّيِّ. وكان عبدُ الرحيم يقول:
_ نَزوةٌ عابرة حُبُّ عزيزة وإلى آخره.
فأجابه أسامة مُفسِّراً تلك النَّزوة:
_ إنَّه المالُ الذي أُنفِقَ على الدِّعاية لحُبِّها.
وقال سليم:
_ لا بُدَّ من تصحيح هذا الوضعِ الشاذِّ.
فطمْأَنه عُمر:
_ الحقيقة أنَّ شارعَنا يعودُ إلى طبيعته.
أطلَّ السيِّد حسن نصرالله بوجهه السَّمح وهامته الشَّريفة بالعمامة السَّوداء. فوقفنا نهتفُ له وقد ضاقَ بنا الملعبُ على رَحابته:
_ أبو هادي.. أبو هادي..
فنادانا وهو يفتحُ يديه كأنَّما يضُمُّنا في اشتياق:
"يا أشرفَ الناس"
فرفعنا أيدِيَنا إليه نُعانقُه مُردِّدينَ بأصواتٍ أبَحَّتها اللهفة:
_ لبَّيك يا نصرالله.. لبَّيكَ يا نصرالله..
ردَّدناها كثيراً. وما كُنَّا لنسكُتَ لولا أنَّ سيِّدَنا كان يُحرِّكُ شفتيه بالبسمَلة والحمدَلة والصلاة على النبيِّ وعلى آلهِ وأصحابهِ المُنتجَبين. ثم عُدنا إلى كراسيِّنا نتطلَّعُ إلى الشاشة مُستبشِرين.
استهلَّ سيِّدُ الستَّارينَ خطابَه كعادتهِ بالفهْرَسة قائلاً بتمهُّل:
"أريد أن أستعرضَ، بإيجازٍ شديد، تاريخَ الستَّارين. مُتوقِّفاً لحظةً عند القوَّادين. ثم أنتقلُ إلى فرحتنا بالسلامة. فكلمةٌ للبنانيِّين. وكلمةٌ للزعران الإسرائيليِّين"
وقلَّبَ أوراقاً بين يديه. ثم أنشأ يقول:
"كانت انطلاقتُنا- كما تعلمُون- من تفجير "مبغَى الفاجر الإسرائيليِّ" في صُور، العمليَّة الاستشهاديَّة التي نفَّذها الستَّار الأوَّل أحمد قصير. ثم دأبنا على مُلاحقة الزعران في حمَّاماتهم التي أقامُوها على ضفاف الليطاني والحاصباني والوزَّاني، وفي مَلاهيهم الليليَّة على التِّلال بالقُرى الجنوبيَّة البريئة، وفي "مركز التأديب السَّاديِّ" بالخيام.. حتَّى اضطُرَّ الزعرانُ أخيراً إلى الهُروب بليلٍ وهُم يرفعُونَ بنطلوناتهم يكادُونَ أن يتعثَّروا بها"
ضَحِكنا على الزعران. فجارانا السيِّدُ قليلاً في ضحكنا. ثم عبسَ قائلاً:
"هربُوا تاركينَ وراءهم قوَّادِيهم من اللبنانيِّينَ ضِعافِ النفُوس، يتوسَّلون إليهم أن يحمِلُوهم معهم إلى السِّرداب الإسرائيليِّ"
_ فليحمِلُوهم معهم!
"أريدُ هنا أن أقولَ كلمةً في أولئك القوَّادينَ الذين كانوا يبيعُون للزعران شرفَ إخوتهم اللبنانيِّينَ بأبخس الأثمان"
_ هُوه!
كان من الطبيعيِّ أن نذبحَهم- كما يجدُر بأيِّ رجُلٍ مُصابٍ في شرفه. لكنَّنا لم نفعل"
تصايحنا عاتبين على السيِّد:
_ لماذا؟
"بذلنا في ذلك من ضبطِ النفسِ ما لا يُطيقُه رجُلٌ شريفٌ في العالم- مخافةَ أن يُقال إنَّ الستَّارينَ يقتُلون اللبنانيِّين"
_ لا تكترِثْ يا سيِّدُ لما يقول المُنافقون. لن يَسكُتوا عنكم فعلتُم أم لم تفعلوا!
قال وهو يُلوِّح بيده يريد أن يُنهيَ الجدال:
"سلَّمناهُم إلى القبضايات- كلُّ قوَّادٍ إلى القبضايِ في حيِّه السَّكنيِّ. وقد حلفُوا بشواربهم أن يمسحُوا بهم الأرض"
_ لا يغسِلُ العارَ إلا الدم!
"ما يهُمُّنا اليومَ أنَّنا حرَّرنا.."
لكنَّنا واصلنا مُطالبتنا بالانتقام. فسكتَ السيِّدُ رافعاً يده يدعُونا إلى الهُدوء حتَّى سكتنا ثم عاد يقول:
"أنتقلُ إلى موضوعنا الآنيِّ وهو سلامةُ شرفِنا من الأذى"
للحال تناسَينا الانتقام. وأسلمنا أنفسَنا للفرحة التي لا تُنغِّصُها ذكرى أليمة..
"أعترفُ لكم أنَّني لم أكُن أعلمُ أنَّ العالمَ كلَّه، الرجالَ كلَّهم من كافَّة البيوت العريقة والعائلات الشَّريفة في مَضارب الخيام العربيَّة كما في القصُور الأورُبيَّة- سيَستنكِرونَ استردادَنا لشرفنا الضائع"
_ ليسُوا رجالاً!
"وما فعلُوا شيئاً كلَّ تلك السَّنوات لإعادته إلى أهله"
_ جُبناء!
استدركَ السيِّد ساخراً:
"بالأصل لم يكُن يَشغَلُ بالَهم في لياليهم الحمراء إلا .."
وسكتَ السيِّدُ حياءً عن الكلمة البذيئة وهو يتبسَّم في حَرَج.
_ عزيزة!
وضجَّ الملعبُ بالتَّصفيق نتفادى موجةَ الحياء التي شمَلتنا.
"ليس هذا فحسبُ. لكنَّهم شجَّعُوا الزعرانَ في تمُّوز على انتهاك بناتِنا لاغتصابهِ منَّا كرَّةً أخرى وإعادته إلى السِّرداب"
_ هيهات منَّا الذِّلَّة.. هيهات منَّا الذِّلَّة..
"وقد فاحت روائحُ خبيثةٌ تَشِي بلبنانيِّينَ هلَّلُوا للزعران مُمنِّينَ نفُوسَهم برؤية نسائنا تُعرَّى بالقوَّة في عُرض الشارع- إشباعاً لشهواتهم الدَّنيئة"
_ مَن؟.. مَن؟
هزَّ السيِّدُ رأسه رافضاً الإفصاح:
"لن أذكُر أسماء. فإنَّ الرجُل اللبنانيَّ إذا قلتَ له: شرفُك. فارَ دمُه. لكنَّك إذا قُلتَ له: طائفتُك. تناسَى الشَّرفَ وذكَرَ الطائفة"
_ أللهمَّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد!
ضحك السيِّد للنُّكتة. فضحكنا لضحكته الصافية. ثم قال عائداً بنا إلى الجِدِّ:
"على كلِّ حالٍ خابت شهوةُ المُتزعرِنينَ وانكسرتْ نفوسُهم الأمَّارةُ بالسُّوء"
_ يا لَلعيب! 
" كلمتي للبنانيِّين.."
تهيَّأنا في كراسيِّنا لِما سيقُوله سيِّد الستَّارين.
"الآن وقد سَلِمَ شرفُنا من الأذى- ولا وطنَ إلا لمَن سلِمَ شرفُه من الأذى- تعالَوا أيُّها اللبنانيُّون كتفاً بكتف نبني وطنَنا، وطنَ الأجدادِ والآباء والأحفاد"
صفَّقنا مُوافقينَ نهتف معاً:
_ عاشَ لبنانُ وطناً لجميعِ أبنائه.
نظر السيِّد في أوراقه لحظةً ثم رفعَ عينيه إلينا مُلتمِعتَينِ بالتَّصميم من وراء نظَّارته.
"أمَّا الأزعر الإسرائيليُّ فأقول له"
صفَّرنا هازئين..
ثم وهو يُلوِّح بيده في قلَّة اكتراث:
"درَّاجاتك المركافة ضَعْ عليها ما تشاء من زوائد.. (وارتفعت نبرتُه وسبَّابتُه الشريفة مُتوعِّداً).. ستكون أوديتُنا لها كَسْراً"
نادَينا من قلوبٍ محروقة:
_ وأمُّ كامل؟
أغضَى السيِّد حياءً وهو يتبسَّم. ثم رفع وجهَه يرجُونا:
"ألا نُخبِّئ للزعران بعضَ المُفاجآت؟"
_ بلى بلى! 
"إيَّاكَ أن تُسوِّلَ لك نفسُك انتهاكَ نساء اللبنانيِّينَ كرَّةً أخرى"
_ إيَّاك يا أزعر!
"رغباتُك الخسيسة"
_ اكبِتْها كبتاً يا أزعر!
"شهواتُك الآثمة"
_ اقمَعْها قمعاً يا أزعر!
"حتَّى أحلامُك الدَّننيئة"
_ استيقظْ منها يا أزعر!
ورفع السيِّدُ قبضته. ثم قال في حَزمٍ ما لم يقُله غَيُورٌ عربيٌّ من زمان:
"ولَّى زمنُ الانتهاك، وجاء زمنُ سلامةِ شرفِنا من الأذى"
هَببْنا واقفينَ نُغنِّي- مع فرقة الولاية- للمرأة اللبنانيَّة الشريفة:
عِزِّك هزِّ الدِّني   قدِّك ما بينحني
بالدَّم مصَوَّنه   نسوانَك يا لبنان
عِزِّك هزِّ الدِّني  هزِّ الدِّني  هزِّ..
·    جميل.. أنت تُغنِّي!
كانت تلك الحلقة 11 من روايتي "في وجهك يا وقح". تليها عمَّا قريبٍ الحلقةُ 12؛ مُظاهرة الأثداء: من عُبِّنا إلى جَيْبِ السَّنيورة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق