الثلاثاء، 29 مارس 2011

في وجهك يا وقح/الحلقة9: قد أتاكم الفارس المغوار، الذي أذلّ بسيفه الفُجّار، الأمير سمير بن القنطار


·    جميل.. يا جميل!
_ ماذا الآن؟
·    تسَلَّ بمشاهدة التلفاز ريثما أخرجُ من الحمَّام.
قلتُ مازحاً:
_ بسَماع القصصِ حولَ النار سأتسلَّى!
توالت بنا الليالي البارداتُ في خِيام الاعتصام قُبالة السَّراي وما يزداد فؤادٌ السَّنيورة إلا بقاءً بقاءً بقاءً.
وفي ليلةٍ اشتدَّ بردُها
 أوقدنا ناراً أمام خيمتنا في تنكةٍ كبيرةٍ مُثقَّبةٍ، وتحلَّقنا حولها. وإذا برجُلٍ يأتينا طارقاً في كُوفيَّةٍ مُشبَّكةٍ حمراء، وشاربٍ كثيف، يحمل في يُسراهُ جِراباً.
تخلَّى له الحاجُّ عن كُرسيِّه داعياً إيَّاه إلى الجلوس في احترامٍ وإجلال. إلا أنَّ الرجلَ شكَره برفع يُمناه إلى جبينه، واقتعدَ الأرضَ قريباً من تنكة النار واضعاً الجِرابَ إلى جانبه. ثم مدَّ يديه فوقَ اللهبِ وهو يُوحْوِح. ولعلَّه شعرَ بالأنظار تتساءل عمَّن عساه يكون. فقال ينتسبُ وهو يَنْزعُ الكوفيَّةَ عن رأسهِ ويلُفُّ بها عُنقه:
_ أنا سميرٌ ابنُ القِنطار، من بَني معروف!
وسكتَ عن التعريف بنفسه عند ذاك- ولسانُ حالهِ يقول: عرفتُموني إذاً. ولكنَّ صلاحاً مالَ إليَّ يسألني: مَن هذا؟ فلكزتُه هامساً: أخفِضْ صوتكَ أنْ يسمعَك الرجل. إنَّه البطلُ الذي تسلَّل إلى السِّرداب الإسرائيليِّ يحاول استنقاذ المُعيَّن!
تزحزحَ صلاحٌ بكُرسيِّه مُقترباً من سميرٍ في مجلسهِ وهو يسأله بإكبار:
_ حدِّثنا يا أخَ العرب.. كيف واتتكَ الجُرأةُ على اقتحام ذلك السِّرداب وحدَكَ وقد عجِزَت عنه قبائلُ العربِ مُجتمعةً؟ 
بدا القنطارُ أنَّه ازدرَى بالشابِّ الذي تكلَّم. وجعل يحرِّكُ بإصبعهِ الجمراتِ في التنكة. فرفعَ الحاجُّ رأسه.. (الحقُّ أنَّنا لم نكُن نعرفُ للحاجِّ اسماً في ذلك الحين، لكنَّه كان يعملُ في مخازن الشادورات).. رفع الحاجُّ رأسَه ونظرَ- من خلال نظَّارتهِ الرقيقة تحتَ مِظلَّة طاقيَّته- إلى صلاح. وقال له يُعاتبه:
_ تسألُ يا أخي صلاح عن الجُرأة سؤالَ مَن يحسبُ حسابَ المخاطر وشرفُه مُنتهَك!
لكنَّ صلاحاً تملَّصَ من الحَرَج بسؤالٍ آخَر وجَّهه إلى سمير:
_ إنَّما قصدتُ أن أسألك: ماذا رأيتَ في السِّرداب؟
ورفعنا الصوتَ جميعاً نُطالبُ سميراً أن يحكيَ لنا- وهو عاكفٌ على الجمَراتِ ينعكسُ وَهَجُها الأحمرُ على وجهه المُتأمِّلِ حتَّى رفعَ إلينا عينيه القويَّتين- لا يشكُّ الناظرُ في أعماقهما بشجاعة صاحبِهما. وقال عن طيب خاطر:
_ سأروي لكم قصَّتي.
ومدَّ سميرٌ يدَه إلى جِرابه. فاستخرجَ منه رَبابةً وقوسَها. فوضَع الرَّبابةَ في حِجره. وأخذ يَسحبُ القوسَ على الأوتار. فيُنطقها نغَماً شَجِيَّاً.. ثم أنشأ يقولُ بصوتٍ منغوم:
"رأيتُ نَشازاً من الأرض. يجلسُ إزاءه القومُ بالعَرض.
ثم ارتقاهُ رجلٌ غاطسٌ بالحديد والزَّرَد،
عليه الجلدُ الأسود،
كأنَّه قُلَّةٌ من القُلل، أو قطعةٌ فُصِلتْ من جَبَل،
في يدهِ شمعَدان، هَولُ منظرهِ يُرعبُ الأبدان،
به سَبعُ شمعات، مُوقَدات"..
شَهقنا في ارتياع.
"استقبلوهُ يُصفِّقون، وطفِقُوا يُنادونه شارُون"..
همستُ لصلاح:
_ آرِئال شارون!
فقال حانقاً:
_ السَّاديُّ اللئيم.
"وإذا لَوحانِ أسودان، مُتقاطعان ، مَشدُودٌ إليهما فرجُ إنسان"..
تمتمَ صلاحٌ بإشفاقٍ شديد:
_ المُعيَّن!
غيرَ أنَّ سميراً حدَجَ صلاحاً بنظرةٍ قاسيةٍ أسكتته. وراحَ يحُكُّ القوسَ بالأوتار مُمهِّداً للآتي الأعظم:
"وما رآهُ القومُ مُوثَقاً هكذا،
حتَّى جَعلُوا يقولونَ كذا وكذا:
يَشتِمُون عِرضَنا، ويَستحِلُّون فرجَنا"..
وصَرَخت أوتارُ الربابةِ فيما يُشبِه الاستغاثة. فقلِقنا في جِلستنا من حولِ الراوي.
"اقتربَ شارونُ من الأسير العاني،
وطفِقَ يصُبُّ عليه ذَوبَ الشَّمع الحامي"..
جَفِلنا أنا وصلاحٌ في شيءٍ من الخوف. فدمدمَ الحاجُّ وهو يُمسِّد لحيته الخفيفة مُتفكِّراً:
_ إنَّه كيُّ الوعي!
وأنَّت الأوتارُ أنيناً مديداً حتَّى خِلنا ألَّا نهايةَ له. لكنَّ الروايَ واصلَ يقول بصوتهِ المنغوم:
"وقد صَحَّ عندي وتأكَّد،
أنَّ القومَ ليسُوا من بلاد العرب،
ولا لهُم فينا من نَسَب.
وإنَّما هُم طارقةٌ من طَوارقِ الزَّمان.
انتَهزُوا غَفلةً من الأجفان"..
صاحَ صلاحٌ مُردِّداً كأنَّما يلتمسُ لنفسه العُذر:
_ إيْ والله انتهزُوا غفلةً.
"وقد تجمَّعوا في هذا السِّرداب، وراءَ الأبواب،
مُستخفِّينَ بالأبطال، مُزدَرِينَ بالرِّجال..
(وعلا صوتُ الراوي مُنادياً)..
يا لَقحطان! يا لَقَحطان!
وذِمَّةِ العرب، نحن منهُم في عَجَب!
نملأ البرَّ خيلاً طالِعة، وفوارسَ طامِعة،
وأَسِنَّةً لامِعة،
ننتظرُ الرجلَ المارد، والفارسَ القائد.
فهل من مُجاهد؟"..
توجَّه سميرٌ بالخطاب إلينا.
أحنَى الحاجُّ رأسَه، فأخفَى عينَيه تحتَ مظلَّة طاقيَّتهِ الزيتيَّة اللون. أمَّا نحن فخَرجنا بصعوبةٍ من استغراقنا. ولكنَّ سميراً لم يجدْ منَّا إلا الصمتَ والحرج.. فغلُظَ بالغضَبِ صوتُه وصريرُ ربابتهِ:
"وصلتُ إليهم، وهجَمتُ عليهم،
وأنا أصيحُ فيهم وأُزمجر، وأَلتقِيهم بالأسمر والأبتر:
يا أوغاد، غيرَ أمجاد.
أبشِروا بالويل والدَّمار.
فقد أتاكُم الفارسُ المِغوار،
العظيمُ الشِّعار،
الذي أذلَّ بسيفهِ الفُجَّار،
وأهلَ البغيِ والعار،
الأميرُ سميرٌ ابنُ القنطار"..
انبعثَتْ في نفوسنا الحميَّةُ العربيَّة الأصيلة. واشتدَّت قبضاتُنا على مَقابِضِ سيوفٍ وهميَّةٍ نكادُ نستلُّها حتَّى أنَّ صلاحاً رفعَ سيفاً منها ولوَّح به، فالتمعَ نصلُه بوَهَج الجمرِ في التَّنكة!
وواصل سميرٌ روايته مُستمِدَّاً من حماسنا اندفاعاً:
"وانقَضَضتُ عليهم انقِضاضَ العُقبان،
برُمحٍ طويلٍ عالي السِّنان،
وقد ارتفعَ فوقيَ الغُبارُ إلى العِنان"..
تردَّدتْ في أذُنيَّ الأغنية: يا سيف اللي عَ الإعدا صايل.
"وكان بينهُم رجُلٌ عليه رأسٌ كأنَّه رأسُ سَعدان،
يُقال له داغان"..
تمتمَ الحاجُّ بين شفتيه:
_ مائير داغان.
"فلمَّا أبصَرَني نادى على مَن حوله من الأشرار،
أن أسدِلُوا السِّتار"..
انطلقت من قُلوبنا الآهات. وتعلَّقت أبصارُنا بالقَوسِ إذْ توتَّرتْ بيد سميرٍ بُرهةً، حتَّى سَحَبها بعُنفٍ على الوتر وهو يصيح:
"ثم إنَّني طعنتُ صاحبَ الشمعدانِ طعنةَ جبَّار،
أخرجت الرُّمحَ من ظهره عَشَرَة أشبار!
فلمَّا رأت الجُبناء تلك الطَّعنة،
أيقَنتْ بالهَلاكِ والمِحنة.
فتفرَّقتْ بين يَدَيَّ شِبهَ الغنم،
وطلبتِ البراريَ والأكَم"..
نهضنا معاً أنا وصلاح نهُمُّ بالإغارة على ذلك السِّرداب لولا أنَّ الراويَ عاد يقول بنبرةٍ أخَفَّ:
"وأبصرَ داغانُ ذلك الحال، فخافَ على نفسهِ من الوَبال.
وأطلقَ ساقيه وولَّى هارباً، وللنَّجاة طالباً وهو يقول:
وحَقِّ ربِّ الأرباب، عمَّا قريبٍ سيُقَوَّضُ السِّرداب".

لم أستطع النومَ تلك الليلة. لبثتُ أتقلَّبُ بالحماسة في فراشي- يترجَّع في أذُنيَّ نغمُ الربابة كأنَّها تستصرخُني أن انهضْ.. ومن آنٍ لآخَر يصيحُ صلاحٌ في نومه القلِقِ إلى جانبي: "يا لَقحطان!.. خُذ هذه الطَّعنة!"- يحلُم بتحرير المُعيَّن. خرجتُ من الخيمة أتنسَّم هواءً بارداً مُنعشاً.. وترامت من حانات مُونُوه الساهرة أغنيةُ هيفاء وهبة تقول في نُبوءةٍ عجيبة:
ليك الواوا  بُوس الواوا  خلِّي الواوا يصحّ
لمَّا بِست الواوا  شِلتُه   صار  الواوا  بحّ
كان النومُ يغشَى المُخيَّمَ إلا خيمةَ الستَّارينَ كانت مُضاءةً..
واوا.. واوا..
·    جميل.. يا جميل!
واوا..
·    جميل.. يا جميل!
كانت هذه الحلقة التاسعة. تليها الحلقةُ العاشرة: نزعُ أرديةِ الفِلسطينيَّاتِ خارجَ المُخيَّمات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق