الأربعاء، 23 مارس 2011

في وجهك يا وقح، الحلقة6: أصلُ الوقاحة السياسية في وطننا العربي كَمدِيفِد


·    جميل.. يا جميل!
_ نعم؟
·    الكهرباء من الشركة أم من المُولِّد؟
_ من المُولِّد.
تلألأت السَّراي بالأنوار في مساء ذلك اليوم. وانعجَقت الطريقُ أمام بوَّابتها بالسيَّارات تتوقَّف لحظةً. ويفتح القبضاياتُ أبوابها لرجالٍ تتدلَّى على أكتافهم الشالاتُ البيضاء برمز عزيزة- المُثلَّثينِ الأحمرَينِ المُتماسَّينِ برأسَيهما، ونساءٍ في آخرِ صَيحات المُوضة- من تصميم سمير جعجع
- مُتلخِّصةً في بَنيقةٍ حمراء كجناحَي فراشةٍ يَعقِدنَها على ظُهورهنَّ. يستقبلهم رفيقُنا المُنقلبُ علينا وليدٌ في غايةٍ من الحماسة، وميشال سيسُون، المُمرِّضةُ في عيادة جِفْري فِلِتمان بعَوكر، في بُرنُسها الأبيض- بيدها مَضافةُ بُنبُون تُقدِّمُه لهم بابتسامة مجاملةٍ واسعة..
تساءل المُخيَّم: ما الخبر؟ ثم تردَّد الجوابُ بين الخيام:
_ فؤادٌ السَّنيورة يُحيي حفلَ زفاف!
اقتعدنا الكراسيَّ البلستيكيَّة أمام خيمتنا- مع ضيفَينِ شرَّفانا بتضامُنهما- نتطلَّع إلى السَّراي ونحن نُمنِّي النفسَ- كلٌّ في سرِّه- بتسليةٍ تُهوِّن علينا عناءَ الاعتصام. وجعل صلاح يمدُّ إصبعَه نحو المدعوِّينَ يُخمِّن أسماءهم ويلتفتُ إلينا طلباً للتأكيد:
_ هذه نايلة معوَّض، أليست هي؟.. وهذه إستريدا جعجع.. إلياس عطالله.. سمير الجسر.. باسم السبع.. نوفل ضوء..
ومن خيمة تيَّار التَّلبيس اللبنانيِّ، يُرفرف فوقَها علمُ التيَّار: المِقصُّ الأخضرُ يتتبَّع خطَّاً مُنقَّطاً على قُماشةٍ حمراء كأنَّما يُفصِّل منها لباساً- تحت المِقصِّ شِعارُ وئام وهَّاب الشَّهير:
لكُلٍّ اللِّباسُ الذي يَليقُ به
وعلى جانب الخيمة صورةٌ لفُؤادٍ السَّنيورة، المُتصرِّفِ بالسَّراي، وقد أُلبِسَ زِيَّ صخرةٍ صوَّانيَّة- أوحى بهذا الزِّيِّ، كما أخبرني وئام، بيتُ المُتنبِّي:
أصخرةٌ أنا؟ ما لي لا تُحرِّكُني هَذِي الخِيامُ ولا هذي الأناشيدُ؟
أقول: من تلك الخيمة ترنَّمت حناجرُ رفاقنا اللبَّاسينَ- وهم عاكفُونَ على شكِّ الرِّيش الأصفر في أثوابٍ صغيرةٍ يُفصِّلونها- بالأغنية:
هالصِّيصان.. شُو حلوين!
عم بيدُوروا حولَ سيسُون مبسُوطين
نَقدُوا الحبِّه.. وقالوا يا ربِّي
رفعُوا راسُن   شَكروا جِفْري  ممنُونين..
تطلَّعتُ إلى السَّراي لعلِّي ألمحُ رجاء في شُرفةٍ أو نافذة.. لا بُدَّ أنَّها مشغولة.. وترامت من صالة العُرس الأغنية:
عزيزة    عزيزة   الدلُّوعة الحلوه عزيزة
عزيزة يا عزيزة   إنتِ عَ  قلبي  عزيزة
حياتي يا حياتي   حياتي     عزيزة..
فتساءل صلاح مُتعجِّباً وهو يُشيح بنظره عن السَّراي مُتطلِّعاً إلى ضيفَينا الكريمَين:
_ ما هذه الوقاحةُ في المُجاهرة بحُبِّ عزيزة؟
فأجابه نصري الصايغ:
_ يبدو أنَّهم آمنُوا بدعوة جورج بُوش.
فقلتُ مُعرِّفاً صلاحاً بالرجُل:
_ جورج بُوش هو مُدير النادي الأمريكيِّ الشهير المعروف بالإسْطِرِبْطيز.
تساءل صلاحٌ باهتمامٍ مُخاطباً نصري، الخبيرَ في المِلَل والنِّحَل المُستجِدَّة:
_ وإلامَ دعاهم بُوش هذا؟
فقال نصري ساخراً:
_ إلى حُبِّ عزيزة.. وقد زعَم بُوش أنَّه رآها في المنام، أقصد عزيزة، فأمرته بحمل الناس على حُبِّها!
ضحك ضيفُنا الآخر معن بشُّور وهو يهُزُّ رأسَه باستخفاف. في حين واصل نصري قائلاً:
_ فلمَّا تولَّى جورج بُوش إدارة الإسطِرِطيز الأمريكيِّ- وتعريبُها الحرفيُّ: نادي تعرية العجيزة- راح يَكرِز بُحبِّ عزيزة في ملاهي العالم!
فعلَّقَ صلاح وهو يُرامقُني مُتعجِّباً:
_ صار حُبُّ عزيزة من الإيمان!
فقال معن بشُّور- الممنوعُ من دخول النادي الأمريكيِّ خوفاً منه على العارضات- وهو يبسط نحونا يده مُنبِّهاً:
_ دعوة بُوش إلى حُبِّ عزيزة توافقت مع سياسة تحديد النَّسل التي وضَعَها سَلفُه في إدارة الإسْطِرِبطيز: هنري كيسِنجر.
فقلتُ مُستوثقاً:
_ كيسِنجر هو الذي زيَّن لأنور السادات توقيعَ اتفاقيَّة كَمْدِيفِد بين الصعيد المصريِّ والسِّرداب الإسرائيليِّ؟
فأجاب معنٌ بغضبٍ وهو يرفع يدَهُ في الهواء:
_ هو بعينه.
وهَوَى بسبَّابته كأنَّما يفقأُ بها عينَ كيسنجر الوقحة.
صلاح مُتسائلاً:
_ وما هذه الاتفاقيَّة؟
فقال نصري بمرارة:
_ هي تنازُليَّة وليست باتفاقيَّة. تنازلَ الساداتُ للإسرائيليِّينَ بموجبها عن المُعيَّن.
صرخَ صلاح مُقطِّباً:
_ القوَّاد!
هزَّ معنٌ رأسه أسفاً ثم قال:
_ ترافقَ ذلك مع حملةٍ إعلاميَّةٍ واسعة لتحبيب العربِ بعزيزة وتخويفهم من المُعيَّن. تذكُرونَ ولا شكَّ الأمراضَ الخطيرة التي نسبُوها إلى المُعيَّن كالسِّفلس والزَّهريِّ والسِّيدا..
ندَّت عن صلاحٍ حركةٌ كأنَّه يُخفي شيئاً في حِجره. وعاد نصري يزيدُنا شرحاً:
_ وإذ يعتزل العربُ المعيَّنَ لا يُنجبون أولاداً. تعطَّلت بذلك القُنبلة الديمُغرافيَّة العربيَّة التي تُهدِّد السِّرداب.
معن مُتابعاً:
_ وبتخلِّي العرب عن المُعيَّن- وهو شرفُهم وعِرضُهم- يَهُون عليهم التخلِّي عن أرضهم لأولئك الزعران يحتفرونَ فيها سِردابَهم.
قلتُ كأنَّما أتأوَّه:
_ وها هو المُعيَّنُ أسيرٌ في ذاك السِّرداب تُمارَسُ عليه الساديَّة.
فقال نصري ساخراً:
_ لو سمعكَ العرب تُفرط في طلب المُعيَّن لَرَمَوك بالهَوَس ونصحُوك "بالاعتدال".
فقال معنٌ مُعرِّفاً بالكلمة المُلتبسةِ المعنى:
_ وما الاعتدال في الحقيقة إلا التخلِّي عن المُعيَّن للسِّرداب الإسرائيليِّ.
واصلتُ أقول بازدراء:
_ والهَوَس بعزيزة!
استأذنَ صلاحٌ وهو ينهض قائماً. وقصَد المرحاضَ البلَستيكيَّ القريب وهو يهتف بعفويَّةٍ فوقَ الغناءِ المُترامي من العُرس:
_ أصلُ الوقاحة في وطننا العربيِّ كمديفد إذاً.. من جرَّائها انتصَبَ على منابرنا الكثير من..
·    آخ!

كانت هذه الحلقة السادسة من روايتي. تليها الحلقة السابعة: خليلٌ الحفَّار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق