· جميل.. يا جميل!
_ ماذا تُريدين؟
· ألا تُحبُّني؟
_ بلى.. هل أدخُل عليكِ الحمَّامَ لأفركَ لكِ ظهركِ؟
تصيح في دُعابة:
· خطٌّ أحمر!
ارتفع الآذانُ من السَّراي يدعُو المسلمينَ إلى الصلاة. قال رفيقُنا وفيق صفا وهو يهُمُّ بالقيام- وكان كثيراً ما يتركُ خيمة الستَّارين ليُجالسَنا أمام خيمتنا:
فقال صلاحٌ وهو يغمِزُ بعينه مُعرِّضاً بالانقسام المذهبيِّ المُفتعَلِ بين السنَّة والشيعة:
_ هل ستنضمُّ إلى المُصلِّينَ في السَّراي؟
التفتَ وفيقٌ إلى صلاحٍ في حَرَجٍ.. وإذا بصوتٍ يرتفع من ناحية السَّراي:
_ خطٌّ أحمر!
التفتنا كالمفزوعين. فرأينا إمامَ السَّراي محمَّد رشيد قبَّاني بعمامته الأنيقة وجُبَّته الناصعة البياض واقفاً عند بوَّابتها في نفَرٍ من المُصلِّين- بينهم بضعةٌ من القبضايات- يُشير نحوَنا بإصبعه.. لعلَّه يرسُم حدَّاً وهميَّاً يفصل السَّراي عن مُخيَّمنا. وعاد الرجُل يصرخُ غاضباً- حريصاً على أن يُسمعَنا صوته:
_ خطٌّ أحمرُ بيننا وبين أولئك الفجَرة في تلك الخيام!
وكأنَّما سُئلَ الإمامُ "لماذا؟" أردفَ يقول بإلقائه المنغُوم:
_ هذا لأنَّهم جماعاتٌ لا تستحي.. منهم الفضَّاحون، المُنادونَ بفضح العَورات والعياذُ بالله. ومنهم مُدَّعُو الإصلاح الداعونَ إلى الزواج المدنيِّ.. أمَّا أوقحُهم جميعاً فهم الستَّارون القائلونَ بزواج المتعة!
كظم وفيقٌ غيظَه. ثم خاطب صلاحاً مُتسائلا في أسى:
_ هل سمعتَ الإجابة عن سؤالك يا صلاح؟
فقال صلاح يردِّد صيغةً مألوفة:
_ أنا سمعت.. وأنت؟
وختم الإمامُ خطبته بقوله لله تعالى:
_ أللهمَّ اشهَدْ أنِّي بلَّغت.
فقال وفيق شاكياً وهو يعود بنظره إلينا:
_ يأخذونَ علينا زواجَنا المُنقطع بالمُعيَّن، بينما يُجيزونَ لأنفسهم الزواجَ بعزيزة.. (ثم أضاف مُستدركاً- أن يُشتَمَّ من كلامه رائحةُ المذهبيَّة).. على الرغم من فتوى الشيخ ماهر حمُّود بحُرمة ذلك الزواج!
رَغِبَ صلاحٌ في مؤاساة رفيقنا. فقال له مُهوِّناً عليه ما وجَدَ من الإمام:
_ أرأيتَ يا وفيقٌ إلى أبينا مار نصرالله بطرس صُفير..
أشحتُ بوجهي مُستاءً وأنا أقول:
_ خبِّره يا صلاح..
سارع صلاحٌ يقول منعاً لسُوء الفهم:
_ لم يقُل شيئاً نُكراً.. (ثم نادى بأعلى صوته).. يا إيلي!
فجاءنا صوتٌ من خيمةٍ عند الطَّرف الشَّرقيِّ:
_ أيش؟
فرَجاه صلاحٌ قائلاً:
_ هل تشاركنا جلستنا؟
جاء الرجُل مُتبسِّماً، مُتقبِّلاً الدعوةَ عن طيب خاطر. بادره صلاح:
_ خبِّره وحياة يسوع بما قاله أبونا نصرالله صُفير عشيَّةَ حفلِ زفافِ العروس الزحليَّة.
جلس إيلي وهو يهُزُّ رأسه مُكتئباً. ثم قال وهو يبسِطُ راحتيه:
_ دعا المسيحيِّينَ إلى الاقتداء بالسيِّد المسيح في التبتُّل!
فقال له وفيقٌ يحُثُّه على سَرد القصَّة:
_ كلمةُ حقٍّ هي. ولكن ماذا أراد بها؟ أَنبِئْني عن ظروف قولها.
قام صلاحٌ إلى الخيمة وهو يقول:
_ سأعِدُّ لكم الشايَ بالزَّنجبيل.
قال الفحل الزَّحليُّ إيلي اسكاف:
_ اسمع يا وفيق. أحيينا- في ذات يوم أحَدٍ- حفلَ الزفاف. ماذا أقول يا وفيق؟ اللعنة على القوانين الرجعيَّة!
سأله وفيقٌ مقطِّباً:
_ أيَّة قوانين؟
قال إيلي متنهِّداً:
_ اضطُررنا إلى الخُضوع لقانون الأحوال الشخصيَّة الذي كان معمولاً به في العام ستِّينَ وتسعمئةٍ وألف.
لوَّحَ وفيقٌ بذراعه إلى الوراء وهو يهتف مُستهوِلاً المسافةَ الزمنيَّة:
_ أُف!.. (ثم تساءل متعجِّباً).. وما هذا القانون؟
فأجاب إيلي مُستسلماً للأمر الواقع:
_ لقد ألزمُونا به رغماً عنا. إنَّه النهاية في الرجعيَّة. تصوَّر يا وفيق أنَّه يُجيز بأن يدخلَ على المرأة، في يوم زفافها، آخرونَ سوى زوجِها!
صاح وفيق مُتَّسعَ العينين:
_ آخَرون!
عَلا صوتُ إيلي بالغضب وهو يقول:
_ يكفي أن يكونوا مُسجَّلينَ في سجِلِّ النفوس بزحلة حتَّى يحِلَّ لهم الدخولُ على العروس!
فقال وفيقٌ وهو يتراجع على كُرسيِّه:
_ قانونٌ لا يُصدَّق!
واصل إيلي حكايةَ الزفافِ الغريبة قائلاً في حِدَّة:
_ استغلَّ ذلك شيخُ القبضايات أحمد فتفت فنقلَ من الجُرود إلى زحلة نفوسَ سبعة آلافٍ من صبيانه البالغين، حُقَّ لهم جميعاً- بموجب هذا القانون السَّخيف- أن ينكحُوا العروس!
_ يا لَلوقاحة!.. والفحول الزَّحليُّون، ماذا فعلُوا؟
فقال إيلي مُتنهِّداً:
_ الكثرة تغلب الفُحولة. لم يستطع فحُولنا أن يُكاثروا آلافَ القبضايات البقاعيِّين- عدا المُستقدَمين من بلاد الاغتراب- إذ باكَرُوا العروسَ في سريرها الزوجيِّ، وجعلوا يَدخُلونَ عليها تِباعاً حتَّى ضاقت بهم حُجرة النوم.. هذا وقد طَردوا من الحجرة العديدَ من الزَّحليِّين بالقوَّة.
_ بالقوَّة!
_ إي والسيِّدةِ العذراء كانوا يَرفعُون الرجلَ الزَّحليَّ عن العروس، ويُلقون به في الخارج- من قبلِ أن يقذفَ بنُطَفه في رحِمها.
_ يا للوقاحة!
فقال إيلي وهو يلوِّح بيده ساخطاً:
_ ليس هذا فحسب. اعترضُوا الفحولَ الزحليِّين- بحُجَّة حفظ النظام- ومنعُوهم من دخول الدار: "انتظروا خارجاً.. بالدَّور يا شباب"!.. ظلُّوا ينتظرونَ ساعاتٍ أربع في الشمس الحارقة، ثم غادروا من غير مُمارسة حقِّهم الزَّوجيِّ!
وعاد صلاحٌ بإبريق الشاي على صينيَّةٍ وهو يقول:
_ لا حدَّ لوقاحة القبضايات.
فقال إيلي وهو يُساعد صلاحاً ببسط الفناجين على الطاولة بيننا:
_ في تلك الظروف يا وفيق- وقد سألتَني عن الظروف- أطلق أبونا صُفير دعوتَه!
فقال صلاح وهو يصُبُّ الشايَ في الفناجين بعصبيَّة:
_ كان من أثر تلك الدعوة أن أضربَ الكثيرون من المسيحيِّينَ عن نكاح العروس!
قال وفيقٌ في محاولةٍ منه أن يكون موضوعياً:
_ من واجب أبيكم الروحيِّ أن يَكرزَ بتعاليم المسيح..
فقاطعه صلاح مُحتدَّاً حتَّى ركل الصينيَّة برُكبته فانقلبت وتحطَّمت الفناجين:
_ في ذاك التوقيت الحَرِج!
وأضاف إيلي يقول وهو يشُدُّ على ذراع وفيق:
_ اسمع أيضاً يا وفيق.. ثمَّةَ من كان يُوزِّع على الزَّحليِّين حلوى زنُود الستِّ الصيداويَّة مدسُوساً فيها الكافُور. في حينَ يستضيفُ قبضاياتِ فتفت على المَناسف السعوديَّة: الأرُزِّ باللحم!
فسأله وفيقٌ بإشفاق:
_ والنتيجة؟
فقال صلاحٌ إذ وجَدَ إيلي اسكافَ مُطرقاً لا يُجيب:
_ حبِلت رجاء. ثم وضعت صبيَّاً.
فرفع إيلي رأسه وتابع بصوتٍ حزين:
_ ولمَّا دخلتُ عليها حُجرةَ الولادة وجدتُها مُرهقةً، ذاهلةً، تُهدهد وليدَها، ولا تكاد تسمع ما يُقال لها.
سأله وفيقٌ بإشفاق:
_ والصبيُّ؟
فأجاب إيلي ووجهُه يتقبَّض:
_ هو غايةٌ في الهُجنة.. لم أصدِّق عينَيَّ يا وفيق وأنا أطَّلع عليه في مهده الحريريِّ. لو رأيتَه أنتَ لعرفتَ توَّاً أنَّه ليس من أصلٍ زحليٍّ كريم.
_ كيف؟
أجاب إيلي في شيءٍ من تردُّد:
_ إنَّ له أنفاً- سامحني يا يسوع- معقُوفاً، عجيباً، كأنف الصَّقر، لا عهدَ للزَّحليِّين بمثله!.. ويقولون إنَّه..
_ ماذا؟
_ يقولون إنَّه تكلَّم في مهده!
تساءل وفيقٌ مُتعجِّباً:
_ تكلَّم في المهد!.. ماذا قال؟
صلَّبَ إيلي على صدره بخُشُوعٍ. ثم تلا مُتأنِّياً في لفظه:
_ قال الصَّبيُّ مُتنبِّئاً: إنِّي عُضوٌ في البرلمان. انتخبَني الزَّحليُّون وجعلوني نائباً. وجعلوني مُحصَّناً أينما كنتُ. وأَوصَوني بالدِّفاع عن حقُوقهم ما دُمتُ حيَّا. وبرَّاً بزحلة. ولم يجعلُوني قوَّالاً رديَّا!
ضحك وفيقٌ. وضحكنا معه نُقهقه حتَّى ترامت قهقهاتُنا إلى السَّراي وتلفَّتَ نحونا القبضايات مُتسائلين. ثم مضى وفيقٌ..
· جميل.. يا جميل!
كانت هذه الحلقة الخامسة من روايتي "في وجهك يا وقح". تليها الحلقةُ السادسة: أصلُ الوقاحة كَمْدِيفِد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق