· جميل.. يا جميل!
هتفتُ بالمرأة غاضباً:
_ هلا غادرتِ الحمَّام.
· إنِّي باقية، باقية، باقية!
فوق هُتافات حوالَي المليون من اللبنانيِّين نزلُوا إلى ساحة رياض الصُّلح يُطالبون فؤاداً السَّنيورة بالرَّحيل عن السَّراي- قالت مُراسلةُ قناة الجديد أوغاريت دندش
بالمذياع في يدها وهي تتَّقي الاصطدامَ بأكتاف المُتظاهرين المُتدافعين:
بالمذياع في يدها وهي تتَّقي الاصطدامَ بأكتاف المُتظاهرين المُتدافعين:
_ فؤادٌ السَّنيورة كان مُحاسباً بسيطاً في السَّراي، مقَرِّ حكومة رجُل الدولة رفيقٍ الحريريٌّ..
على قناة المنار يقول مُراسلُها جميل ناصر من أمام قصر العدل بالمُتحف:
_ لمَّا اغتيلَ الرئيسُ الشهيد رفيقٌ الحريريُّ بادر السَّنيورة- بما يضع يدَه عليه من المال العام- فأوكَلَ مهمَّةَ التَّحقيق في جريمة الاغتيال إلى مُحقِّقينَ أجانب..
مُراسل الشبكة الوطنيَّة للإعلام قاسم غدَّار يقول جاعلاً ظهرَه إلى السَّراي:
_ الوزراء الشيعة محمَّد جواد خليفة وفوزي صلُّوخ ومحمَّد فنيش وطلال الساحلي وطراد حمادة، بالإضافة إلى يعقوب الصرَّاف الذي تضَامنَ معهم، قدَّموا استقالاتِهم جميعاً احتجاجاً على تفرُّد السَّنيورة بالقرار، وغادروا السَّراي..
وتعودُ أوغاريت دندش لتقولَ على قناة الجديد- وراءها عراكٌ بالأيدي بين شُبَّانٍ يتسابُّون:
_ عملاً بإشارةٍ من المُحقِّق الأجنبيِّ دتلف ميلس سَجَنَ قبضاياتُ السَّنيورة كُلاً من اللواء جميل السيِّد واللواء علي الحاج والعميد مُصطفى حمدان والعميد ريمون عازار- بشُبهة تعاونهم على اغتيال الرئيس الحريريِّ مع اللواء السُّوريِّ رُستم غزالة في عنجر- بذلك أطاح السَّنيورةُ بالنظام الأمنيِّ اللبنانيِّ السُّوريِّ..
على قناة البُرتُقالة تقول المُراسلة شيرين ناصر من أمام البرلمان اللبنانيِّ:
_ إنَّه باقتراب انتهاء ولاية رئيس الجمهوريَّة العماد إميل لحُّود أوعَزَ السَّنيورة إلى نوَّاب كتلة الرئيس الشهيد بانتخاب خلَفٍ له بالنِّصف زائداً واحداً..
على قناة الشبكة الوطنيَّة للإعلام يقول رئيسُ مجلسِ النوَّاب الأستاذ نبيه برِّي:
_ إنِّي لن أدعوَ مجلسَ النوَّاب لعقد جلسة انتخاب رئيسٍ للجُمهوريَّة..
بعد عودتهِ من اجتماعٍ في الضاحية بصاحب مخازنِ الشادُورات السيِّد حسن نصرالله قال ميشالُ عون- الذي جمَّعَ حولَه الحقُّ أصحاباً- لماغي فرح في برنامجها "الحق يُقال" على شاشة البُرتُقالة:
_ فؤاد السَّنيورة- باسم الشهيد رفيق الحريريِّ- عطَّلَ مُؤسَّسات الدولة التي كان يعمل على بنائها الرئيسُ رفيق الحريريِّ!
تسأله ماغي وهي تهُزُّ خصلةً من شعرها تدلَّت على وجهها:
_ أيَّة مُؤسَّساتٍ تقصد؟
أجاب عونٌ حانقاً:
_ القضاء الوطنيُّ عطَّله السَّنيورةُ ساعةَ عهِد بالتَّحقيق إلى القاضي الأجنبيِّ برسالةٍ سَرَّبها إليه من غير إطلاع رئيس الجمهوريَّة عليها ولا مجلس النوَّاب- كما يقتضي الدستور.
_ والحكومة؟
فصاح عونٌ:
_ لم يعُد من حكومة إذ انسحبتْ طائفةٌ بأكملها منها، هي الطائفة الشيعيَّة الكريمة. أما الذين تبقَّوا بالسَّراي من وزراء فحكومتُهم غيرُ دستوريَّة ولا ميثاقيَّة ولا شرعيَّة. إنَّما هي تصريف أعمال..
_ ومجلس النوَّاب؟
_ النوَّاب لن يدعوهم الرئيس برِّي للاجتماع في ظلِّ تهديد السَّنيورة بانتخاب رئيسٍ للجمهوريَّة بالنِّصف زائداً واحداً.
_ وماذا في النِّصف زائداً واحداً؟
_ فيه تعطيلٌ للديمُقراطيَّة التوافُقيَّة التي يقوم عليها لبنان.
_ وتُقفَل أبوابُ البرلمان؟
_ تُقفَل أبوابُه.
_ والفراغ في سُدَّة الرئاسة بعد انتهاء ولاية الرئيس الحاليِّ إميل لحُّود؟
_ الفراغ سنصل إليه.. لعلَّ هذا ما يُريده السَّنيورة هذه الآنيَّة!
_ لم يعُد لنا من دولة! هو الشارع إذاً؟
فأجاب عونٌ بلهجةٍ أسيفة:
_ لم يترك لنا السَّنيورة خياراً..
ويُطلُّ السيِّد حسن نصرالله من شاشة قناة المنار- بعِمامته الشريفة السوداء ولحيته التي وخَطَها المَشيبُ على الصِّدق- وتأمُر عيناه:
_ انزِلُوا جميعاً إلى ساحة رياض الصلح..
وتنتقل بنا كاميرا المنار إلى الساحة حيث قعد الستَّارون، عُمَّال مخازن الشادورات، حلقاتٍ مُتراصَّةً يتطلَّعون إلى الشيخ نعيم قاسم- أمين المخازن- مُتربِّعاً على سجَّادةٍ تتوسَّط الحلقات، يُتمتم مُطرقاً برأسه المُعمَّم:
_ إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون!
فيتأثَّر الشبَّانُ لمُصيبة الشيخ بالسَّنيورة. ويُنشدون بصوتٍ مُتهدِّج:
يا فؤادُ جئناكَ فاسمحِ ما شئتَ صنعتَ ألا فاستحِ
ويتنهَّد الشيخ تنهُّدةً مديدةً. ثم تحتدُّ نبرتُه وهو يقول مُحذِّراً:
_ إنَّ للصبر حدوداً!
فتجد نبرةُ الشيخ صداها مُتضخِّماً في المُتظاهرين. فيهتفون مُتوعِّدين:
ارجِعْ عن غِيِّكَ أو ترَى قد أَعذرَ مَن أنذرا..
وتنقُلنا كاميرا التلفاز البُرتُقاليِّ إلى شُبَّانٍ من مشغل الإصلاح والرَّتق يغنُّون:
اضرِبْ آباطَ الإبِلِ يا فؤاد ولا تعُد أبداً أبداً أبداً أبداً
اضرِبْ آباطَ الإبِلِ يا فؤاد ولا تعُد أبدا
فيُسائلهم مديرُ المشغل جبران باسيل- مُتسلِّقاً عمودَ الكهرباء هاتفاً يحثُّهم على ترديد مَطلبهم:
_ ماذا تقولون؟
فيُجيبونه بصوتٍ أعلى مُردِّدين:
اضرِبْ آباطَ الإبِلِ يا فؤاد..
ثم يخطُب بهم صاحبُ مَشغَل الرابية ميشال عون- وراء عازلٍ زُجاجيٍّ- مُتعجِّباً من كثرتهم:
_ هكذا التغييرُ يكونْ أكبرُ حشدٍ رأتْه عُيونْ
احزِمْ فسادَكَ في صُرَّة أمرُ اليومِ من الشعب: بَرَّا
فيُجيبه الشبَّان مُتحمِّسين:
_ هذا صحيح!.. (ثم يواصلون هُتافهم)..
اضربْ آباطَ الإبِلِ يا فؤاد..
وتعود الكاميرا إلى أستديُوه البُرتُقالة. فيُطالعُنا الفنَّان غسَّان الرحباني في برنامجه الشَّعبيِّ "غنِّي مع غسَّان" وهو يستقبل اتِّصالاً من:
_ زياد سحَّاب!
_ ماذا ستُغنِّي لنا يا زياد؟
_ سأغنِّي للشاعر الفاجُوميِّ!
يتطلَّع غسَّان إلى ضيوفه بالأستديوه بعينينِ واسعتينِ دهَشاً. ثم يهُزُّ رأسَه ويقول جادَّاً:
_ فلنسمع!
يتنحنح الشابُّ مليَّاً. ثم يُغنِّي بصوتٍ حَسَن:
ثبِّتْ حضُورك بالشوارع واجِه وقاحة السَّنيُورة
الغدَّارة تقُضّ المضاجع ولاحق يبوِّس القمُّورة
يفتِن بين القايم والراكع ويقفل زنازينه بالزُّورة
العطايا بشرط الموانع والأَمنيَّات المهدُورة
والضريبه تزيد المواجع تخدم ديونَك الزَّغتُورة..
يضحك غسَّان وهو يُردِّد ساخراً:
_ الزَّغتورة!
يواصل زيادٌ غناءه بنبرةٍ أعلى مُتشجِّعاً بضحكة غسَّان:
ضبّ كلاكيشَك والبضايع والمليارات المصرُورة
بالطيَّارة مانك طالع؟ يلا اركبْ بالشَّختُورة
ولا تقول إنَّك راجع والله ذنوبك مش مغفُورة..
ويُصفِّق غسَّان وهو يرفع حاجبيه إعجاباً ويدعو ضيوفه إلى التَّصفيق. فيضجُّ بالتَّصفيق نبيل نقُولا ونعمة الله أبي نصر وشربل نحَّاس..
بالعودة إلى قناة الجديد كان مُراسلها رامي الأمين يقدِّم تقريراً صحافيَّاً عن السَّراي:
_ غارقةً في الصمت واللامبالاة.. (يُشير رامي بذراعه إلى نوافذ السَّراي المُغلقة).. لا شيء مِمَّا يجري في الساحة يعنيها.. (يغمِزُ بعينه نحو المُتظاهرين المُحتشدين).. يجلس عند بابها شيخُ القبضايات أحمد فتفت في زُمرةٍ من قبضاياته- بالدَّشاديش والطرابيش.. (يضع الشابُّ على رأسه طربُوشاً أحمر، وتُطأطئ الكاميرا لتُعاين دشداشته المُقلَّمة).. يدخِّنون النَّراجيل.. (يجلس على كُرسيٍّ تقوم أمامها نرجيلة، يتناول مَبسِمَها، ويدُسُّه في فيه، ويسحَبُ نفَساً عميقاً، ثم ينفثُه، ويهتف بشخصٍ وراء الكاميرا).. نارة يا ولد!
وعلى شاشة التلفاز الميميِّ تقول المُذيعة الرقيقة شارحةً:
_ وكان فؤادٌ السَّنيورة قد أوكلَ فتفتاً- الآتي من الشمال- "أمنَ الشارع اللبنانيِّ" عقبَ استقالة وزير الداخليَّة حسن السَّبع استحياءً من عَجزهِ عن ضبط الشارع في الأشرفيَّة لمَّا تفلَّتَ فيه القبضاياتُ شَغباً وإحراقاً..
وأخيراً على قناة الجزيرة يقترب الإعلاميُّ غسَّان ابن جدِّه من القبضايات عند باب السَّراي- يُرافقُه مُصوِّر القناة. كانوا يقتعدونَ كراسيَّ القشِّ حاسِرينَ الطَّرابيشَ عن الجباه، مُفتِّلينَ الشواربَ، مُلوِّحينَ بقُضبان الخيزُران. يأتيهم صبيانُ المقاهي المُجاورة بالنَّراجيل، وطاولات الزَّهر. يُحيِّيهم غسَّان قائلاً بأريحيَّة:
_ كيف حال القبضايات؟
فيصيحونَ به جميعاً وهم يطرحُون مباسمَ نراجيلِهم جانباً ويهُمُّون بالقيام:
_ ولا!
إلا أنَّ الإعلاميَّ الشُّجاع يتجاوزُهم مُهرولاً وهو يُسوِّي النظَّارة على عينيه بعصبيَّة. ثم يدخل السَّراي- تتبعُه الكاميرا وصوتُ شيخِهم أحمد فتفت يصيح وراءه ساخراً:
_ يا مُثقَّف!
كان فؤادٌ السَّنيورة جالساً في قاعة الاستقبال بهُدوءٍ وسكينة. يتناول حبَّةً، ويشربُ وراءها كوبَ ماء. تدانى منه غسَّانٌ وهو يقول له برقَّة- وفي ظنِّه أنَّ الحبَّةَ حبَّةُ دواء:
_ سلامتك!
مَضَغ الرجُل الماء مليَّاً. ثم ابتلعه في تأنٍّ. ووضع الكُوبَ على طاولةٍ إزاءه. ثم أشارَ بإصبعه إلى النافذة المُغلقة وهو يقول مُتذمِّراً:
_ صدَّعُوا رأسي والله!.. أهلاً بك يا غسَّان. تفضَّل بالجُلوس..
تركَّزت الكاميرا على وجه السَّنيورة الرَّائق. وسأله الإعلاميُّ- الذي لا يخشى في الحقِّ لومةَ لائم- دافعاً المذياعَ إلى فمه:
_ ما جلوسُك هادئاً ونصفُ اللبنانيِّينَ يحتشِدونَ تحتَ شُرفتك يقولون لك "استحِ وارحل"؟ ألن تُحرِّك ساكناً؟
رفع السَّنيورةُ وجهَه إلى عدَسة الكاميرا وحَدَقتاهُ تتَّسعانِ. ثم قال بتحدٍّ:
_ لن يرِفَّ لي جَفْن!
من مجلسَينا على كُرسيَّي الحمَّام- أمامنا شاشةُ الحاسُوب المربوط بشبكة البرامج التلفازيَّة- تفرَّجنا أنا وصلاحٌ على الخيبة التي طالعَ بها نبيه برِّي كاميرا الشبكة الوطنيَّة للإعلام قائلاً لمُراسلها قاسم غدَّار بعينين واسعتين:
_ سنعتصم- الآن- في خيامٍ قُبالةَ السَّراي حتَّى يستحي فؤاد السَّنيورة.
نصبُوا الخِيام. استقدمُوا الفُرُش. أَوقدُوا تحتَ القُدور. أكلوا وشربوا. سهِروا. نعِسُوا فنامُوا- على قناة المنار.
ولكنْ على قناة المُستقبل كان السَّنيورة في السَّراي يُردِّد بإصرار:
_ باقٍ باقٍ باقٍ!
التحقُوا بالجامعات. درسُوا وتخرَّجُوا. بحثُوا عن وظيفةٍ فلم يجدُوا. عادُوا إلى الخيام. لعبوا بالورق. دخَّنوا النَّراجيل. شاهدوا التِّلفاز- على قناة البُرتُقالة.
ولكنْ على قناة المُستقبل كان السَّنيورة في السَّراي لا يزال يُردِّد:
_ باقٍ باقٍ باقٍ!
اشتكَوا آلاماً في المفاصل. وتصَلُّباً في الشَّرايين. وهبُوطاً في ضغط الدم. وضَعفاً في عضَلة القلب- على قناة الجديد.
ولكنْ على قناة المُستقبل كان السَّنيورة في السَّراي لا يزال يُردِّد:
_ باقٍ باقٍ باقٍ!
ماتُوا. حُمِلتْ نُعوشُهم على الأكتاف. صُلِّيَ على جثامينهم الطاهرة. وُورُوا في الثَّرى. تُقُبِّلتْ فيهم التعازي بمنازل ذَوِيهم- على قناة الشبكة الوطنيَّة للإعلام.
ولكنْ على قناة المُستقبل كان السَّنيورة في السَّراي لا يزال يُردِّد:
_ باقٍ باقٍ باقٍ!
عطفتُ رأسي ناحيةَ صلاحٍ الجالسِ على كُرسيِّ التَّشطيف ينظُر إليَّ بعينيه اللتينِ حافظتا على بريقِهما القديم في رأسٍ اشتعلَ الشيبُ بشَعره وشاربَيه ولحيته. فناشدَني بصوتٍ ضعيفٍ مُرتعشٍ بالكِبَر:
_ هلا تحرَّكنا يا جميل.
عدتُ ببصَري الكليل إلى الحاسُوب البالي الطِّراز، على رفِّ عُبوات التَّنظيف، أتأمَّل صُورة السَّنيورة وقد عكست الشاشةُ وجهيَ الحليقَ المُتغضِّن. تجمَّع الغيظُ في صدري وأنا أُحملقُ بوجه السَّنيورة إذ تعطَّل استقبالُ الحاسُوب للإشارة فتجمَّدت صورة السَّنيورة مائلاً بشفتيه إلى جانب.. ثم أجبتُ رفيقَ العُمر بفمٍ خالٍ من طاقم الأسنان الصِّناعيَّة:
_ بلى يا صلاح.. آنَ أوانُ التحرُّك.
مددتُ يدَيَّ إلى لوحة المفاتيح. وعكفتُ على تحديث برامج الجهاز عبرَ الشبكة العنكبوتيَّة. ثم قصدتُ موقعَ حركتنا. فانفتحت الصفحةُ الرئيسيَّة التي تتصدَّرُها صورةُ رجاء وهي تستقبلُ الجمهورَ عاريةً تتساءل: "هل تعتقد أنَّ افتضاحَ المُعيَّن في وجُوه الوقحين يُخجلهم؟"
صاحَ صلاحٌ بصوته القديم القويِّ- وكان لا يكُفُّ عن التملمُل على كُرسيِّه- ودماءُ الشباب تتدفَّقُ في عُروقه:
_ وفي غياب المُعيَّن.. فإنَّه يُخجلُ الوقحينَ أيضاً إشهارُ المُعيَّن الأحمر في وجُوههم!
أطلقتُ ضحكةً مُترعةً بنشوة الانطلاق إذ شعرتُ بزمام المُبادرة في يدي على مفاتيح الحاسُوب. ورُحتُ أكتب النِّداء:
" أيُّها اللبنانيُّ الحريصُ على بناء الدولة
احمِلْ مُعيَّنكَ الأحمرَ واتبعْني "
نزلنا أنا وصلاحٌ إلى الشارع. فالتقينا بالشباب الطامحينَ إلى التغيير يَنصبُّون فيه- بعشَرات الألوف- من مُختلف الأزقَّة اللبنانيَّة- حاملينَ مُعيَّناتٍ حمراء كرتُونيَّةً كبيرة.. رفع صلاحٌ مُعيَّنه الأحمر بيمينه. وصاح بالفضَّاحينَ بصوته الجَهْوَريِّ:
_ هيَّا بنا نفضح الوقاحة.
وزحفنا نحو ساحة رياض الصلح.
بلغنا الساحة التاريخيَّة نرفعُ فوقَ رؤوسنا المُعيَّنات الحمراء، نُمسك بها من زواياها المُتقاربة.. تطلَّع إلينا بإنكارٍ الجيلُ الثاني من المُعتصمين. ولعلَّ اليأسَ الذي أخَذَ يتسلَّل إلى نفُوسهم جعلهم يُسارعون فيُوسعونَ لنا الطريقَ بسُرورٍ بين الخيام. حتَّى أنَّ بعضَهم طوى خيمتَه إذ اعترضتنا..
تجمَّعنا قُبالةَ السَّراي نَشهَر في مُواجهة السَّنيورة حوالَي المليون من المُعيَّنات الحمراء- تتوهَّج حُمرتُها في الشمس.. وكأنَّ الفضولَ دفع بالرجُل إلى تبيُّنِ ما هُنالك وقد استبدَّ بالساحة الصمتُ بغتةً، ما ندري إلا وهو يُطلُّ علينا من شُرفة السَّراي الواسعة شابكاً يدَيه خلفَ ظهره.
حدَّق السَّنيورة ملءَ عينيه في المُعيَّنات الحمراء بين أيدينا. حبستُ أنفاسي مُتوقِّعاً أن يُصاب الرجلُ بوعكة، أو أن يرتبكَ حياءً ويسقُطَ عن الشُّرفة.. ووجدتُني في تلك اللحظات القليلة المشحونة بالتوتُّر أفكِّر في رجُل الدولة الذي سيُكلَّف تشكيلَ حكومة الوحدة الوطنيَّة: سليم الحُص، عمر كرامي، نجيب ميقاتي، محمَّد الصَّفدي، خالد حدادة..
لكنَّ الوقتَ طالَ ولمَّا يرِفَّ للسنيورة جَفْن!
تبادلنا النظرَ فيما بيننا مُستشعِرينَ شيئاً من حياء.. وصاحَ صلاحٌ يستنهضُ في الفضَّاحينَ الجُرأة على المُواجهة:
_ لئن حَرَمَنا الزعرانُ من المُعيَّن فإنَّه خلَّفَ سرَّه في المُعيَّنات الحمراء.
لكنْ حتَّى صوتُ صلاح اعتَرته ارتعاشةُ الحياء والارتباك!
جعلتُ أتفكَّر وأنا أتفرَّسُ وجهَ السَّنيورة الجامدَ لا ينمُّ عن أيِّ انفعال.. ماذا يَعصِمُ الرجُلَ يا تُرى من المُعيَّن الأحمر- وها نحن نَشهَر المليونَ منه في مُواجهته؟ ألم تشهد الدنيا بقُدرة المُعيَّن الأحمر على فضح أوقح الوقحين؟.. أيكون..؟ كلا!.. أيكون..؟ كلا!.. رفضتُ الجوابَ تلوَ الجواب حتَّى اصطدمتُ رُغماً عنِّي بسُؤالٍ برزَ لي مُتحدِّياً من حيثُ لا أحتسب: أيكون فؤادٌ السَّنيورة مظلوماً، ليس في نفسه ذرَّةٌ من وقاحة؟
وإذا بعين السَّنيورة تذرف دمعةً!
ذُبنا حياءً. إي والله ذُبنا حياءً حتَّى احمرَّت منَّا الوجوهُ. وأطبقنا بأيدينا المُعيَّنات الحمراء. وأنزلناها لا ندري أينَ ندُسُّها؛ تحتَ الآباط وفي الأعباب وبينَ الأفخاذ!
أطلق السَّنيورة قهقهةً مديدةً مُتلوِّيةً تردَّدت في أرجاء الساحة.. ثم غادر الشُّرفة راجعاً إلى الداخل.
وانضمَمْنا خائبينَ إلى مُخيَّم الاعتصام، نلعبُ بالورق مع الشباب ونُدخِّن النراجيل، ونستُر حياءنا بخيمةٍ بيضاء، نصَبناها عند طرفِ الساحة قُبالةَ السَّراي، مرسُومٍ على جانبها المُعيَّنُ الأحمر- الأيقُونة التي كادت تفقد- في تلك التَّجربة العصيبة- ثقةَ اللبنانيِّينَ بقُدرتها على فضح الوقاحة لولا أن اعتذرنا عنها بغريمٍ استثنائيِّ- وإنْ لم يغبْ عن بالنا أنَّه لو كان المُعيَّن نفسُه بين ظهرانينا لكان..
· جميل.. يا جميل!
كانت هذه الحلقة الثالثة من روايتي "في وجهكَ يا وقح". تليها- عمَّا قريبٍ- الحلقةُ الرابعة: قبوُ عنجَر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق