الأربعاء، 9 مارس 2011

في وجهك يا وقح- الحلقة1: في مواجهة الوقاحة السياسية هل تعتقد أن افتضاح امرأة في وجوه السياسيين يُخجلهم؟


الافتتاح
"كان تحالفُنا مع أقصى اليمين على خلاف الطبيعة"
                                     وليد جنبلاط
 الرواية

بانفِراجٍ طُوليٍّ، انتفخَ له شِفراهُ الأكبران، في كثافةٍ من شعرٍ شَعْثٍ، وتراخى شفراهُ الأصغران- يلتمعانِ بإفرازاتهِ المُزلِّقة، صَرَخَ المُعيَّنُ في وجه الرجُل الذي أصَرَّ على اتِّهامه في شرَفه:
_ وقاحة!



أوقفتُ عرضَ المقطَع المُسجَّل في هاتفي الخلَويِّ وأنا أتلفَّت إلى باب الحمَّام المُلحَق بالحُجرة، مُستشعِراً حياءً شديداً.. سمعتُ انسِكاب الماء.. "المرأة ما زالت تستحمُّ".. ثم عُدتُ- مُغالباً حيائي- إلى شاشة الهاتف أستعيد الافتضاحَ الكبيرَ الذي ما عاد ابنُ امرأةٍ يجرُؤ- من بعده- على التواقُح فوق أيِّ مِنبَرٍ في الشارع اللبنانيِّ!
في مدرسة الأخوة بالجُمَّيزة أهمل الأستاذُ جوزف أبو خليل الدَّرسَ ليقول:
_ المسيحيَّات يعرفنَ كيف يلبسنَ أجمل الأزياء وأرقاها. أما المُسلماتُ فذوقُهنَّ رجعيٌّ!
تبادلتُ النظرات مع رفيقيَّ صلاحٍ ووليد، في المقاعد الأماميَّة- يحُضَّاني بأعيُنهما على الردِّ. وكيف أرُدُّ على هذه الوقاحة؟ كانت لأستاذنا ذاك طريقةٌ مُنفِّرةٌ في إجابة المُعارضين لرأيه؛ يُقلِّص عضلاتِ وجهه- راسماً عليه أبشعَ صورةٍ للاشمئزاز، ثم يقول مُردِّداً في ازدراءٍ بغيض: "اسكُت. اسكُت"!
وسألته نايلة تُويني، الجالسة في مقعدٍ أماميٍّ- وكأنَّها تجهل ما يُردِّدُه جوزف كلَّ يوم:
_ وأيُّ الألبسة أجمل يا أستاذ؟
تلقَّف الأستاذ السُّؤال كأنَّه عنوان درس اليوم- ما دفع آباؤنا أقساطَ المدرسة الباهظة إلا لتلقِّيه. وأجاب ساخراً:
_ الحجاب.. ما رأيُكم؟
تحفَّظت التلميذات المُحجَّبات- وكُنَّ يقتعدنَ الطبقات الجانبيَّة- فتشاغلنَ بمُطالعة كتُبهنَّ. في حين نظرتْ إليهنَّ زميلاتُهنَّ المسيحيَّاتُ في عطف. وما عساهُ يكون جوابُ الطلاب وهم يتطلَّعون إلى أستاذهم على مِنبر التَّدريس.. ها هو نديم الجُميِّل يُطلق ضحكةً ساخرة. ويضحك وراءه الطلاب.. وإذا بيدٍ تشدُّ على ذراعي. تحوَّلتُ إلى رجاء، زميلتي وشريكتي في المقعد المُزدوِج، أودُّ أن أصُبَّ عليها غضبي. فقالت تسألني:
_ جميل.. هل تريد أن ترى شيئاً؟
سألتُها في حِدَّةٍ وأنا أعود بنظري إلى الأستاذ الوقح:
_ أيُّ شيءٍ هو يا تُرى؟
عادت تشُدُّني من ذراعي. ثم نظرتْ فيما حولها بعينين حذِرتين. فوجدتِ الزملاء مُستغرقينَ فيما يقوله الأستاذ إذ يُزيِّن لهم أنواعَ الألبسة الفاضحة.. فمدَّت رجاء يدَها إلى تنُّورة المريول. فرفعتها حتَّى كشفتْ عن كيلوتها الأبيض. رفعتْ إليَّ عينيها وسألتني في إغراء:
_ أترغبُ في رؤيته؟
فقلتُ لها عفوَ الخاطر:
_ ما رأيُكِ لو تفضَحينه في وجه هذا الأستاذ ردَّاً على وقاحته؟
ضحكتْ غيرَ مُصدِّقة. ولكنَّها قطعت ضحكتها بغتةً- أن يتنبَّه إلينا أحدٌ من الزملاء. ثم قالت في ابتسام:
_ قُل أتُريد أن تراه؟
ومدَّت يدها إلى خصر الكيلوت.. فعُدتُ أسألها في اهتمام وتفكُّر:
_ أتفضَحينه في وجه هذا الأستاذ؟
فأسبلَت تنُّورتها تحت الطبقة وهي تهمس في حُنق:
_ كلا! .. أتهزأ بي؟
قبضتُ على يدها أمنعُها من ستر فخذيها. وقلتُ لها في جَزَع:
_ أسأتِ فهمي يا رجاء. لا تزعلي. إنَّ فرجَكِ هذا وحده يملك الردَّ على وقاحة هذا الأستاذ..
بدت عليها الصَّدمةُ في اتِّساع حدقتيها. ثم انسدلت الخيبةُ على وجهها وقالت بفتور:
_ ظننتُ أنَّك تُحبُّني، وتغار عليَّ، ولا تُريد لأحدٍ سواك أن يراه..
قاطعتُها قائلاً في حرارة وأنا ألحظ الأستاذَ عند اللوح:
_ أُحبُّكِ كثيراً يا رجاء. ولكن لا بُدَّ من الردِّ عليه..
تنبَّه لي الأستاذ. فصاح بي:
_ أنت يا جميل. أنصِتْ. أو لعلَّك مُتضايقٌ مِمَّا أقول!
وجعل يُقبِّض عضلاتِ وجهه.. فأشحتُ عنه في تقزُّز.
غادرنا المدرسة، ورُحنا نتمشَّى في الشارع.
قلتُ أفتتح حديثاً كنتُ أتهيَّأ له:
_ ما أوقحَ ذاك الأستاذ!
فصاح صلاح وهو يُطقطق بعبوة الطِّلاء الأحمر في يده:
_ كدتُ أسبُّه.. ولكنِّي لم أجد سباباً يليق بوقاحته!
لفتَ وليدٌ نظري ساخراً إلى فتاةٍ ترتدي العباءة الوطنيَّة والطَّنطُور على الرأس- تسير على الرَّصيف برفقة أُخرى ترتدي الشادور.. وسألني صلاح:
_ لماذا لم تُبادره أنتَ برَدٍّ من رُدود أبيك اللاذعة؟
ثم مال إلى صورةٍ على الجدار لدُوري شمعون حاملاً فنجان قهوة- ليُعلِّقَ عليها بالطِّلاء- وهذا دأبُه كلَّ يوم. أجبتُه:
_ لم تعُد تُجدي معه الرُّدود التقليديَّة..
فأجابَ وليد مُنكراً:
_ ردود أبيك تقليديَّة!.. إنَّها غايةٌ في الابتكار من تحت الزنَّار!
فقلتُ في غمُوض:
_ لا يُرَدُّ على وقاحته بالكلام.
كتب صلاح تحت الصورة "زوروا مقهى دوري بالصوديكُوه". ثم سألني باهتمام:
_ وهل لديك ردٌّ أقوى؟ هاتِه.
قلتُ أطرح المسألة:
_ إذا تواقَحَ إنسانٌ فاقدٌ للرجولة على امرأةٍ أمام جمعٍ من الناس، فماذا تفعل المرأة ردَّاً على وقاحته؟
فقال صلاح ضاحكاً:
_ تسُبُّه قائلةً..
فقاطعتُه بحِدَّة:
_ السِّباب ردٌّ تقليديٌّ. ما أهونَ أن ينقلبَ على مُطلقه. إنِّي أتحدَّث عن ردٍّ لا يستطيع معه الوقحُ حيلةً، يُحرجُه ويُخجله!
وقال وليد مُتفكِّراً:
_ خير ما تفعله المرأة هو أن تفضح فقدانه للرجولة.
هتفتُ مُستبشراً:
_ أحسنتَ يا وليد. ولكنْ كيف؟
وسأل صلاح باهتمام:
_ كيف؟
فقلتُ بقوَّة:
_ تفضح فرجَها في وجهه!
هتفا معاً وهما يضحكان:
_ تفضح فرجَها؟
فقلتُ بإصرار:
_ نعم تفضح فرجَها في وجهه. وتدعُوه- أمام الحشد- إلى إثبات رجولته!
فقال صلاح مُعترضاً:
_ هذا إذا كانت عاهراً!
فقلتُ مُلوِّحاً بيدي رفضاً للصفة الباطلة:
_ بل هي شريفة. لكنَّ وقاحة الرجُل أخرجتها من ثيابها.
سألني صلاح مُعجَباً:
_ من أين لك هذه الفكرة؟
_ شاهدتُها تُمثَّل في أحد الأفلام الأمريكيَّة!
غير أنَّ وليداً سألني مُعانداً:
_ ولكنَّك تتكلَّم عن الوقح الفاقد للرجولة.. ماذا عن الوقح الفحل؟
فعاجلتُه بقولي:
_ كلُّ وقحٍ هو إنسانٌ فاقدٌ للرجولة!
فقال صلاح مُشكِّكاً:
_ كنتُ أحسب أنَّ الوقح ذو فائضٍ من الرجولة..
قاطعتُه:
_ كنتَ مُخطئاً! إنَّ الرجُل الرجُل لا يتواقح.
فقال وليد يتثبَّتُ من حُسن فهمهِ لي:
_ تقصد يا جميل أن نرُدَّ على وقاحة أستاذنا..
فأكملتُ بإصرار:
_ بفرجٍ يَفتضحُ في وجهه!
عاد وليد يضحك.. في حين هتف صلاح مُتحمِّساً وهو يُلوِّح بالعُبوة:
_ سأطبعُ صورةً للفرج بالطِّلاء الأحمر على جدار الصفِّ أو حتَّى على اللوح!
فقلتُ مُستدركاً:
_ إنِّي أتحدَّث عن فرجٍ من لحمٍ ودم!
راح صلاح يتسلَّق عمود كهرباء معدنيَّاً ليُعلِّقَ على صورةٍ لأحمد فتفت. وتساءل بصوتٍ مُتقطِّعٍ بما يبذله من جهدٍ في التسلُّق:
_ ومن أين لنا بفرج؟
كتب صلاح على الصورة "شيخ القبضايات"- ووليدٌ يرمقُه باستياء. ثم نزل عن العمود يتأمَّل تعليقَه مُعجَباً به.. فأجبتُه ببساطة:
_ رجاء!
فقال صلاح مُستحسناً:
_ بالطبع.. ومن غيرها؟
وسألني وليد كأنَّما عرَضاً:
_ ولِمَ لا تفضح رجاء عجيزتها في وجهه؟.. (ثم أضاف بحماس).. ورجاء تُحبُّ أن تفعل ذلك! بالأمس لمَّا استاءت منِّي إذ تواقحتُ عليها بالملعب استدارت ثم كشفت في وجهي عن عجيزتها وهي تصيح بتشفٍّ: خُذْ هذه! والحقَّ أقول لكما: تولاني خجلٌ من وقاحتي شديد. وإنَّ العجيزة..
صرخت فراملُ السيَّارات ثم توقَّفت ليتطلَّعَ سوَّاقُوها إلى فتاةٍ عبرت الشارع مُتباطئةً في تنُّورة "الميني".. وكان صبيانٌ يقتعدون حافةً على الرَّصيف. فهتفُوا معاً يُلطِّشُون الفتاة بنبرةٍ منغُومة:
_ داخيلُووه.. ما أطيبه!
فقلتُ لوليد في عناد:
_ الفرجُ أَولى بالافتضاح. وستُؤيِّدُه في ذلك الأكثريَّة الشعبيَّة!
وكنَّا انعطفنا من تلقاء أنفسنا صوب منْزل رجاء العتيق بشارع مونُوه.. وإذا بصلاح يتساءل مستنكراً:
_ أصحيحٌ أنَّ رجاء تبيت ليلَها في الحمَّام؟
فأجاب وليد بغضب:
_ بلى. إنَّه شقيقُها الأكبر رستُم غزالة. يُنيمُها في الحمَّام مُستولياً هو وأولادُه على حُجُرات البيت يسرحون فيه ويمرحون باسم الوصاية على الأخت القاصر!
فاستطردَ صلاح:
_ ويُقال إنَّه يجلدُها على عجيزتها للهفوة ترتكبها..
فصاح وليد وهو يُشير بالسبَّابة والوُسطى إلى عينيه:
_ رأيتُها بعينيَّ.. عجيزتها مُخطَّطةً بالأحمر من أثر الضَّرب بالسِّلك الكهربائيِّ المجدول!
استوقفَ وليدٌ بائعاً جوَّالاً كان يُنادي على بضاعته "سُتيانات.. كيلوتات..". كان الرجل يرتدي بلوزةً زرقاء، في جانبها الأسفل بياضٌ دائريٌّ كأنَّما هو من حُرقةُ مِكواةٍ نُسِيَت هناك.. تدانى منه وليد واشترى كيلوتاً خيطيَّاً. جعلنا نضحك ونحن ننظر إلى الكيلوت في يده. فقال وليد بغير حَرَج:
_ إنَّه هديَّةٌ لرجاء!
وخَزَني شعورٌ بالغيرة على الفتاة. وهممتُ بأن أنتزعَ الكيلوتَ من يده، وأُعيدَه إلى البائع لولا أن جاءنا صوتٌ من خلفنا، رفيعٌ صبيانيٌّ يصيح بنبرة اتِّهام:
_ هؤلاء هم!
التفتنا نحن الثلاثة. فإذا بعصابةٍ من الأولاد يركضون باتِّجاهنا. فقال صلاح بشيطنة وهو يدُسُّ عبوة الطلاء في..
·    جميل.. يا جميل!
إنَّها المرأة تُناديني من الحمَّام.
_ ماذا بكِ؟
·    أترغب في الاستحمام أنتَ أيضاً؟
أدركتُ ما ترمي إليه. فهتفتُ:
_ لا.. لكِ كلُّ الماء الساخن!
حتَّى وليدٌ- وهو من إخوتنا السُّنَّة- لم يستطع إلا أن يعترف "باستيائه" من تصريحات شيخ مدرسة تحت السِّنديانة في الجيَّة- محمَّد علي الجُوزُه- إذ يصف الشيعة بالمُتخلِّفين!
رفعتُ رأسي عن مقالة ثائر غندور بجريدة الأخبار وقد عقدتُ العزمَ على أمر. تطلَّعتُ إلى وليدٍ مليَّاً حتَّى عجِبَ لشأني وسألني:
_ ماذا بك يا جميل؟
فقال صلاحٌ وقد دبَّ فيه الحماس:
_ يبدو أنَّ لدى جميل ردَّاً على وقاحة الشيخ..
كنَّا عند رجاء في حمَّامها- أقتعد أنا كُرسيَّ المرحاض، ووليدٌ كُرسيَّ التَّشطيف، أمَّا صلاح فقد جلس على حافَّة المغطس حيث تنام رجاء.
أجابني وليدٌ في قلَّة اهتمام:
_ يكفيه ردُّ وئام وهَّاب إذ دعاه في حفل تفريغ شاحنةٍ من الملابس المُتنوِّعة في بلدة الجاهليَّة إلى أن يكون كلامُه كلباسه أو أن يكون لباسُه ككلامه!
سألتُ وليداً باستفهامٍ إنكاريٍّ:
_ وهل تظُنُّ الشيخَ يسحب كلامه أو يخلع جُبَّته والعمامة استجابةً لدعوة وهَّاب؟
فاندفع صلاح يُجيب:
_ لا أظُنُّ ذلك.. (ثم تساءل كالمُتجاهل).. ما الملابس التي فرَّغها أنصار وهَّاب؟
فقلتُ له في عجلة:
_ زيُّ ساعي البريد، وبُلوزة مُلطَّخة- طباعيَّاً- بالدَّم، ولباس راقصة شرقيَّة، وثياب قُرصان، ومايُّوهات نسائيَّة ورِجاليَّة، وشلحة عاهرة شوارع أمريكيَّة،..
فهتف صلاح يُقاطعُني في نفاد صبرٍ وهو يمُدُّ يده ويقبض على فخذي:
_ دعك من وهَّاب. فما هو يا جميل الردُّ الكفيلُ بإحراج أمثاله؟
قلتُ بإغراء:
_ الردُّ الذي جرَّبناه من قبلُ في المدرسة.
فقال صلاح مُتذكِّراً:
_ تقصد..
وضحِك غيرَ مُصدِّق. إلا أنَّني سألتُه في جِدٍّ:
_ هل من ردٍّ عندك غير هذا يصلُح لإجابته؟
وقال وليد:
_ كفاك هزلاً..
أما صلاحٌ فقد تألَّقت عيناه- هو المُعجب بالرُّدود الجريئة. لكنَّه سألني:
_ أنستطيع ذلك؟
فأجبتُه بحرارة:
_ وهل تحسب أنَّني سأدفع بالفرج إلى الافتضاح هكذا على الملأ من غير أن أحشد وراءه رأياً عامَّاً مؤيِّداً لافتضاحه..
افتُتن صلاح بكلامي. وهتف مُتحمِّساً:
_ هيَّا نفضحه!
فزجره وليد قائلاً:
_ كنَّا نعبث في المدرسة. وكان أستاذُنا- على وقاحته- ضعيفاً سرعان ما تولاه الحياء وتراجع. أمَّا..
قاطعتُه قائلاً في توكيد:
_ إنَّ أعتى الوقحين ليُخجله افتضاحُ فرجٍ في وجهه على الملأ!
فصاح وليد مُعترضاً:
_ إنَّ بالشارع اللبنانيِّ مَن هو أوقحُ من الجُوزُه..
أدركتُ حساسية وليدٍ المذهبيَّة. فقلتُ له مُطمئناً:
_ دعنا من الجُوزُه فإنِّي قد نسيتُ ما كان منه.. لكنَّني أسعى لصياغة ردٍّ على كُلِّ وقحٍ في الشارع اللبنانيِّ بغضِّ النظر عن مذهبه أو طائفته أو انتمائه السياسيِّ..
بدا وليد كالمُتفكِّر.. ثم إذا به يقول كأنَّما عن براءة:
_ ألا نفضح العجيزة؟
ولكنَّ صلاحاً قال ضاحكاً وهو ينظر إلى رجاء النائمة في المغطس:
_ مهلاً حتَّى تصحوَ رجاء وتسمع ما تريدان بها!
_ أنا مُوافقة!
التفتنا إلى رجاء في المغطس. ففتحت عينيها. ثم رفعت يديها تتمطَّى وتتثاءب باسمةً.. انزلقت عينايَ على ثدييها فبطنها وفرجِها والفخذينِ وتمتمتُ فيما يُشبه النبوءة:
_ سيكون لأعضائك شأن!
وقام وليدٌ عن كُرسيِّ التَّشطيف. فدنا من المغطس وهو يستأذن صلاحاً. ثم انحنى فوق رجاء قائلاً لها برقَّة:
_ انقلبي على بطنك يا رجاء.
تحرَّكت رجاء فاضطجعت على بطنها وهي تقول ضاحكةً:
_ يحبُّ وليد التفرُّج على عجيزتي!
ضربها وليدٌ بكفِّه على عجيزتها. فترجَّحت إليتاها في لَدانةٍ مُثيرة. والتفت إلينا مُتسائلاً في إغراء:
_ انظُرا.. أليست العجيزة أوجَهَ، وأقدرَ بالتالي من الفرج على جذب الأتباع؟
قلت باستياء:
_ ولكنَّ الطبيعيَّ أن ندعو الرجالَ إلى الفرج دون العجيزة.
فلوى وليد بُوزَه ساخراً:
_ يا لَتصنيفاتك البالية! لن يجتذب الفرجُ سوى قلَّةٍ..
فما كان من صلاحٍ إلا أن نحَّى وليداً عن المغطس بحزم. وأقبل على رجاء. فمدَّ يديه إلى خاصرتَيها، وأعادها إلى الاستلقاء على ظهرها في شيءٍ من عنفٍ احتجَّت عليه رجاء بصرخةٍ انتهت بالضحك والقهقهة.. وقال صلاح بنبرةٍ حاسمة:
_ لن نبدأ تحرُّكنا السياسيَّ الأوَّل بالشُّذوذ!
انفتل وليد حانقاً. فتناول ثيابه عن المِشجَب عند باب الحمَّام الأكُرديونيِّ. ثم فتحه بعصبيَّة. ومضى وهو يقول:
_ لن تُفلحا.
ساد الحمَّامَ صمت. تبادلتُ وصلاح النظر. ثم تطلَّعنا إلى رجاء. وبحركةٍ سريعة فرَّجت رجاءُ ما بين فخذيها وهي تصيح:
_ افتضاحاً لفرجي في وجه كلِّ وقح!
جئنا إلى الحمَّام بحاسُوبٍ محمُولٍ مُزوَّدٍ بكاميرا. ونصبناهُ على الرفِّ المُواجه للكراسيِّ، عليه عُبوات الشَّمبُوه وصابون الاستحمام السَّائل.
لبِست رجاء كيلوتاً أحمر. ثم اعتلت حافَّة المغطس. وجَّه صلاحٌ وِقفتها حتَّى التقطتُ لها صورةً بكاميرا الحاسُوب. ثم انحنيتُ على لوحة المفاتيح أستجلبُ صورة رجاء من ذاكرة الكاميرا إلى صفحة برنامج الإخراج الإعلانيِّ. وانكببتُ على تصميم إعلان حركتنا الأوَّل:
تستقبل رجاء الجمهورَ عاريةً إلا من كيلوتٍ أحمر- يدُها على الرُّقعة المُثلَّثة التي تستر فرجَها، كأنَّما تهُمُّ بإزاحتها، وعلى وجهها هيئةُ الاستفهام الجادِّ تطرح السؤالَ الذي كتبتُه بالأحمر في الفراغ إلى جانبها:
هل تعتقد أنَّ افتضاحَ الفرج في وجُوه الوقحين يُخجلهم؟
هتف صلاح مُتحمِّساً من مجلسه على كُرسيِّ التشطيف:
_ مليون نعم!
أمَّا رجاء فقد اقتعدت حافَّة المغطس- ولمَّا تخلع كيلوتها- تتأمَّل الإعلان. ثم مدَّت سبَّابتها إلى الشاشة. فغطَّت بأُنملتها كلمة "الفرج" في السؤال وهي تقول برجاء:
_ هلا نُكنِّي عنه!
ضحكنا أنا وصلاح مِمَّا ظننَّاه دُعابةً. إلا أنَّ رجاء بدت جادَّةً كلَّ الجِدِّ وهي تُضيف:
_ أليست وقاحةً أن نُصرِّح باسمه؟
فصاح صلاح مُعترضاً:
_ تستحين بكلمة "الفرج" أن تخدشَ شعُور المُنافقين، ولا يستحي السياسيُّون وقادةُ الرأي في شارعنا بعشرات الكلمات الوقحة: متخلِّفون، سلاح الغدر، بيروت لأهلها، اتِّهام سياسي، جنس عاطل، المارد السنِّي استفاق، تعاملنا مع إسرائيل ونفخر بتاريخنا، أنتُم زبالة استضفناكم ولا نُريدكم، أعلن أنني صرتُ طائفيَّاً،..
أشرتُ إلى صلاح بيدي أن تصبَّر. ثم سألتُ رجاء برقَّة:
_ بماذا نُكنِّيه؟
فلم تحر الفتاة جواباً. ولكنَّها ضمَّت فخذيها. وأسبلت جفنيها. وتورَّد خدَّاها!
عجب صلاحٌ لحياء رجاء المُستجدِّ. ونظر إليَّ باستغراب. فأغرقتُ في الضحك. غير أنَّني لم أسترسل فيه طويلاً احتراماً لمشاعر الفتاة.. وقلتُ حاسماً:
_ نُكنِّي عنه بكلمة "المُعيَّن".
فقال صلاح بلهجة مَن يَوَدُّ تجاوُز نقطة الخلاف:
_ تأبيانِ إلا الحياء في غير موضعه..
أبدلتُ "بالفرج" كلمة "المُعيَّن" على شاشة الحاسُوب. ثم تساءلتُ:
_ ماذا نُسمِّي حركتنا هذه؟.. (جعلتُ أتأمَّل السؤال الذي سنطرحه على اللبنانيِّين).. لا بُدَّ أن نشتقَّه من سؤالنا هذا..
هتف صلاح في ظَفَر:
_ حركة الفضَّاحين!
تفكَّرتُ قليلاً ثم هتفتُ:
_ أحسنت.. (ثم تمتمتُ وأنا أكتب في الصفحة).. حركة فضَّاحي المُعيَّن في وجُوه الوقِحين!
صفَّقَ صلاحٌ في مرح. وابتسمت رجاءُ في شيءٍ من تحفُّظ. ثم انزلقتْ إلى المغطس واضطجعتْ فيه. قلتُ لصلاح:
_ سنكتب الآن البيانَ التأسيسيَّ للحركة نُخاطب به اللبنانيِّين.
فقال صلاح وقد وَشَت قسماتُه الحادَّة بالضجر الفوريِّ:
_ اكتُبْه أنت..
أقبلتُ بأصابعي على لوحة المفاتيح أنقُر الأحرُف مُتفكِّراً:
"عندما.. عندما تمادى بعضُ السياسيِّين اللبنانيِّين في وقاحتهم على المنابر رأينا أن نُواجههم بما يُخجلُهم.
ولمَّا كُنَّا.. نعتقد أنَّ الوقِحَ ما هو- في واقع الأمر- سوى إنسانٍ فاقدٍ للرجُولة، فإنَّنا قدَّرنا أنَّ افتضاحَ فرجِ امرأةٍ في وجههِ يُخجلُه حتماً ويَفضحُ وقاحته! هذا اعتقادُنا.. فما رأيُكم أيُّها اللبنانيُّون؟"
التفتُ إلى صلاحٍ مُتهلِّلاً أسأله:
_ ما رأيُك؟
فأجاب وهو يتثاءب:
_ طيِّب.. متى نفضحُه؟
فأجبتُه بحزم وأنا أعود إلى الحاسُوب:
_ ليس قبل أن نطرح السؤال على اللبنانيِّين.
أوصلتُ الحاسُوبَ بالشبكة العنكبوتيَّة. وعكفتُ على إنشاء موقعٍ فيها لحركتنا الجديدة:
www.almoayyan.blogspot.com
ثم ألصقتُ عنوانَ موقعنا الجديد على جُدران الفِسبُوك- داعياً الأصدقاء إلى مُشاركتنا في أمرنا، ثم صفَّرتُ به في سماء الإتويتر- داعياً العصافيرَ الشاردة إلى اللحاق بنا.. جعلتُ أتمطَّى مُتثائباً، مُتأوِّهاً من تصلُّبٍ في ظهري وقد تأخَّر بي الوقتُ. كان إلى يميني صلاح يُهوِّم على كُرسيِّ التَّشطيف يُغالب رأسُه الاصطدامَ بالجدار البُرسُلانيِّ. عطفتُ رأسي ناحية المغطس فألفيتُ رجاء نائمةً في وضعٍ جنينيٍّ غايةٍ في البراءة. تمتمتُ في اعتذار:
_ سامحيني يا رجاء. ليس لي غير فرجِكِ أُخجل به الوقحين. وإلا فأيُّ كلامٍ يُرَدُّ به على..


·    جميل.. يا جميل!
هتفتُ بالمرأة مُنزعجاً لقطعها شريطَ ذكرياتي:
_ هي عادتُكِ كلَّما دخلتِ الحمَّام كثُرت طلباتُك!
تسعة وتسعين فاصلة تسعة وتسعين بالماية من المُشاركين في الاستطلاع أجابوا بنعم لافتضاح المُعيَّن في وجوه الوقحين!
ذهلت رجاء للنِّسبة وهي تُقرِّب عينيها من شاشة الحاسُوب. ثم تراجعتْ إلى المغطس فارتمت فيه تُقهقه ضاربةً كفَّاً بكف. ثم قالت ضاحكةَ العينين وهي ترفع وجهها عن فرجها:
_ سأل المُعيَّن عن المعارضين لافتضاحه، ثم أمرَ باعتقالهم وتعذيبهم بالإغراء حتَّى الموت!
وقال صلاحٌ في بِشرٍ وهو يهُمُّ بالنهوض عن كُرسيِّه:
_ هلُمِّي يا رجاء نفضح المُعيَّن!
ضربتُه على ذراعه قائلاً:
_ مهلاً. في وجه مَن نفضحُه؟
فقال صلاح وهو يُلوِّح بيده مُعبِّراً عن الكثرة:
_ اسحب اسماً بالقُرعة!
فقلتُ له مُستمهلاً:
_ ليس الأمرُ بهذه البساطة. علينا أن نلتزم بالأسماء التي يُجمع عليها الفضَّاحُون من زوَّار موقعنا.
ورُحتُ أطَّلع على الأسماء في خانة "اقتراح شخصيَّات وقِحة" من صفحة الموقع، وصلاحٌ يتابعني مُدمدماً.
كان عجيباً حقَّاً أن تُذكرَ جنباً إلى جنبٍ أسماءُ شخصيَّاتٍ عامَّةٍ لبنانيَّةٍ هي على طرفَي نقيضٍ في المواقف من القضايا الوطنيَّة!
قلتُ بنَزفزةٍ وأنا أتراجع بظهري إلى السِّيفون:
_ هؤلاء هم اللبنانيُّون: لا إجماعَ لهم على وقحٍ واحدٍ نبدأ به عملَنا!
قال صلاح مُعانداً:
_ لكنَّ الوقاحةَ وقاحةٌ مهما قيل فيها خلافُ ذلك..
قلتُ مُتفكِّراً:
_ لا بُدَّ لحركة الفضَّاحين من معيارٍ نتبيَّن به الوقحَ من غير الوقحِ من خُطباء المنابر على طول الشارع اللبنانيِّ.
سألني صلاح بلهفة:
_ ما عساه يكون ذاك المعيار؟.. (ولمَّا استبطأ جوابي قال ببساطة).. أنا أعرف الوقاحة بالفِطرة. ولا حاجة بي إلى معيارٍ يقول لي إنَّ فريد مكاري مثلاً كان وقحاً عندما قال إنَّ الإسرائيليِّين جيرانُنا..
_ لا أريد أن أفضح المُعيَّن!
التفتنا إلى رجاء بانزعاجٍ. كانت مُنطويةً على نفسها في المغطس ترتعش! فصاح بها صلاح وهو يندفع نحوها:
_ لا يجوز أن تتراجعي الآن..
أمسكتُ صلاحاً بكتفيه. وأرجعتُه إلى الخلف قائلاً له:
_ رفقاً بالفتاة يا صلاح. لن نُرغمها على شيء.. (ثم سألتُ رجاء في رقَّة).. أهو الخوف؟
صاح صلاحٌ من ورائي:
_ أنا أحميكِ!
فتمتمتْ وهي تهرب بعينيها:
_ لستُ خائفة..
إنَّه الحياء الشَّرقيُّ عَقَلَ رجاءَ عن فضح المُعيَّن في وجُوه الوقحين. لم يُجدِ معها ليني في الطلب ولا شدَّةُ صلاح.. حتَّى اجترَحَ الحلَّ زيادٌ الرحبانيُّ:
في مساء يومٍ ضجَّ الشارعُ اللبنانيُّ بأخبار زيادٍ يختلف إلى مقاهي الجُمَّيزة وحاناتها وملاهيها- مُرتدياً بُلُوزةً بيضاء، على الصَّدر منها رسمٌ هندسيٌّ يُدعى في علم الهندسة: المُعيَّن، وقد رسمَه زيادٌ بالطُّول، وطلاهُ بالأحمر، وكتبَ تحته- بالرُّوسيَّة- ما تعريبُه: في وجهك يا وقح!
وقد روى شهودٌ عيان- تُضيف مُراسلة تلفاز الجديد أوغاريت دندش في تحقيقها الصحافيِّ المُصوَّر- أنَّ زياداً يدخل من غير سلامٍ ولا كلام، وسْطَ تساؤل رُوَّاد المحلِّ، فيختار كُرسيَّاً يجلس عليه واضعاً رجليه على الطاولة..
وتسأل أوغاريت رجلاً طيِّباً في الملهى:
_ خبِّرنا يا عمِّ خالد عن ردَّة فعل الحاضرين إذ يطلُع عليهم المعيَّن الأحمر.
وتدفع بالمذياع أمام فمه فيقول خالد الهبر:
_ أريد أن أقول لكِ شيئاً.. إنِّي بحكم مُعاشرتي للكثير من زبائن المحلِّ أعرف أنَّ بعضَهم كان على درجاتٍ مُتفاوتةٍ من الوقاحة..
تسأله المراسلة في قلَّة صبر:
_ فماذا حدث؟
فيُجيب الرجل في عجبٍ بادٍ:
_ منهم مَن أسبل جفنيه حياءً، وآخرون احمرَّت وجوهُهم خجلاً.. وواحدٌ فرَّ يتعثَّر بحرجه.. ثم إنِّي رأيتُ اثنين تحت الطاولة مغشيَّاً عليهما!
وتعود كاميرا الجديد إلى أوغاريت دندش فتقول بالمذياع:
_ وقد رصدنا في الشارع اللبنانيِّ كثيرين تابعوا زياداً الرحبانيَّ في الاستعانة بالمُعيَّن الأحمر لفضح الوقاحة.. هذه امرأةٌ.. (انتقلت الكاميرا إلى امرأةٍ جميلةٍ حادَّة القسمات).. أشهرتْ- قُبيل دقائقَ- مُعيَّناً أحمرَ صغيراً كانت تحمله في حقيبتها في وجه سائق سيَّارة أجرة.. (وسألت أوغاريتُ المرأة).. ما اسمُكِ؟
فقالت في انفعال:
_ بتريسية داغر!
وسألتها أوغاريت:
_ خبِّرينا عمَّا حدث معك.
أجابت بتريسيةُ ساخطة:
_ سبَّني الوقح.. لا لشيءٍ إلا لأنَّني أبيتُ أن أركبَ سيَّارته.. سبَّني صارخاً: مَن تنتظرين يا شرموطة!
تسألها أوغاريت عابسة:
_ ماذا أصابه إذ أشهرتِ في وجهه المُعيَّن الأحمر؟
اتَّسعت الابتسامة على وجه المرأة وهي تقول:
_ ارتبك الرجُل. ففقد السيطرة على سيَّارته ثم اصطدم بعمود الإنارة.. (تُشير بيدها إلى جانب).. وهذه سيَّارتُه هناك..
وتُصوِّر الكاميرا سيَّارة مرسيدس زرقاء على سقفها إشارة "أجرة"، مُنبعجةً بعمود الكهرباء المعدنيِّ..
 وتتساءل مراسلة الجديد في ختام تحقيقها:
_ هل يقطع المُعيَّن الأحمر دابر الوقاحة في الشارع اللبنانيِّ؟

الحقُّ أنَّ المُعيَّن الأحمر أثبتَ يوماً بعد يومٍ قُدرته على مُواجهة الوقاحة وفضحها أينما برزت في الشارع، أو على منبرٍ، أو حتَّى في مسرح. وهل تُنسى مسرحيَّة "العدالة الإفرنسيَّة" التي قدَّمها المُخرج روجيه عسَّاف لأوَّل مرَّةٍ على خشبة مسرح بيروت.
جلسنا أنا ورجاء في الصفِّ الأماميِّ ننتظر حتَّى أُزيحت السِّتارةُ عن المُمثِّلة الإفرنسيَّة الشَّهيرة ميشال إليوماري مُتربِّعةً- في دور القاضية- على كُرسيِّ القضاء، أمامها المِنضَدة المُستطيلة- عليها ملفُّ القضيَّة والمِطرقة.
وقفنا مع بقيَّة المُتفرِّجين احتراماً للقضاء الإفرنسيِّ العريق. في تلك اللحظة يدخُل على خشبة المسرح، من ناحية اليمين، المُمثِّل الذائع الصِّيت جاك فرجيس، بدور المُحامي، في الرُّوب الأسود الأنيق- على الكتف الشالُ الأبيض، وعلى الرأس القُبَّعةُ السَّوداء الخاصَّة بسلك المُحامين. نضِجُّ بالتَّصفيق- ولا نزال واقفين- لبطل المسرحيَّة الإكلاسيكيَّة "جميلة بوحيرد"..
حيَّانا الرجُل بانحناءةٍ مُتواضعة حتَّى إذا خفَّفنا من التَّصفيق عبسَ واستدار نحو القاضية مُفتتحاً مُرافعته بالصُّراخ:
_ إلامَ تحتجزون مُوكِّلي جورج عبدالله وقد قضى في سجنكم المدَّةَ التي حكمتُم عليه بها؟
عُدنا نصفِّق للرَّوعة في الأداء، على حين ضربت ميشالُ المنضدة بمطرقة العدالة صائحةً بالمُحامي:
_ أبى الاعتذارَ عن جريمته!
غيرَ أنَّ الرجُل الجريء أردف يقول مُتسائلاً:
_ أم أنَّ قضاءكم يرضَخ لطلب الأمريكيِّين!
نهضت ميشال عن كرسيِّها غاضبةً. وضربت المِنضدة بالمطرقة صارخةً:
_ لن يخرجَ جورج عبدالله من السجن أبداً!
صفَّقنا- وكانت أيدينا لا تزال مرفوعةً في الهواء- بأقصى ما أُوتيت أكُفُّنا من عزم: يا لَبراعة هذه المُمثِّلة.. لقد أرتنا- بنُطقها هذا السَّطرَ- الوقاحةَ مُجسَّدةً بارزة!
وإذا بجماعةٍ من المُمثِّلين يدخلون على الخشبة، من ناحية اليسار، في هيئة مُتظاهرين- على رأسهم جوزف عبدالله- أخو جورج، وأنيس النقَّاش- رفيقُ جورج.
صفَّقنا للتظاهُرة- وإنْ لم نعرفْ لها قضيَّةً إذ لم يرفع المُتظاهرون أيَّة لافتة! لبثُوا شاخصينَ إلى القاضية الواقفة وراء منضدتها.. جمدت أيدينا في الهواء نتوقَّع حدثاً ما.. وأيُّ حدثٍ كان؟ المُتظاهرون يَستخرجون من تحت قُمصانهم مُعيَّناتٍ حمراء يرفعُونها في وجه ميشال!
تركَّزت منَّا العيونُ على المُمثِّلة القديرة التي احمرَّ وجهُها احمراراً شديداً. لم يُساورنا شكٌّ في أصالة إحساسِ المرأة بالخجل، وفي أنَّ تلك الحُمرة هي من تدفُّق دم الخجل إلى وجنتيها- كذا يكون المُمثِّلون الكبار! وما هي سوى لحظةٍ حتَّى تهاوت ميشالُ من فوق المنضدة إلى خشبة المسرح حيث انطرحت هناك مَغشيَّاً عليها!
صفَّقنا كما لم نُصفِّق من قبل.. وإذا بالمُخرج روجيه يهرع في جَزَعٍ على الخشبة إلى المُمثِّلة التي لازمت الأرض بلا حِراكٍ. فمدَّ يده إلى عُنُقها يجُسُّ نبضَها. وانحنى يضع أذُنه على صدرها يتسمَّع إلى دقَّات قلبها. ثم جعل يُروِّح بكفِّه على وجهها.. حتَّى رفع رأسه أخيراً إلى جماعة المُتظاهرين وصاح بهم حانقاً:
_ ماذا فعلتُم؟ ليس هذا في نصِّ المسرحيَّة! من أين لكم المُعيَّناتُ الحُمر؟ كيف تجرُؤون على إفساد مسرحيَّتي؟
لم تنطلِ علينا هذه الحيلةُ المسرحيَّة. وأدركنا أنَّ ما نراه ونسمعه مُتَّفَقٌ عليه في السِّينريُوه.. أجاب أنيسٌ النقَّاش وهو يطوي المُعيَّن في يده بهدوء:
_ انتقاماً لخمسين يوماً من الإضراب عن الطعام على خشبة مسرح باريس، وحضرتُها تتلكَّأ في أداء دورها بمسرحيَّة "الحريَّة للجميع"!
صفَّقنا حتَّى كلَّت أيدينا- والستارةُ تنسدل على المُمثِّلين. ثم مضينا نُغادر المسرح مُعجَبين راضين..
في الطريق خارجَ مسرح بيروت استوقفَتنا والروَّادَ سيَّارةُ إسعاف الصليب الأحمر بصفَّارتها الحادَّة المُتلوِّية تتوقَّف عند باب المسرح الخلفيِّ في المُنعطَف المُضاء. يُغادرُها اثنانِ من المُسعفين في بدلاتهم البُرتُقاليَّة مُتأبِّطَينِ حمَّالة. يغيبُون بُرهةً في الباب الذي فتحه لهم على عجَلٍ المُخرج روجيه عسَّاف الذي أبدعَ تلك الليلة في دور القلِق الجَزِع. ثم لا يلبثون أن يخرُجوا بالحمَّالة عليها ميشال إليوماري- لا تُحرِّك يداً ولا رِجلاً!
صفَّقنا ونحن في غاية الدَّهشة من المُبالغة في التصرُّف بالفنِّ المسرحيِّ.. ولم نعرف إلا في اليوم التالي- إذ طالعنا ما كتبته الصحافيَّة ضُحى شمس بجريدة الأخبار- أنَّ أنيساً النقَّاش خرج حقَّاً عن السِّينريُوه بإشهاره ورفاقَه المُعيَّنَ الأحمر بدلاً من لافتاتٍ تقليديَّةٍ، كان زوَّدهم بها المُخرجُ، مكتوبٍ عليها "استحي!".

ولعلَّ أطرفَ ما تردَّد عن شُيوع الاستعانة بالمُعيَّن الأحمر في فضح الوقاحة أنَّ مُنتظَراً الزَّيديَّ- في مُقابلةٍ مع غسَّان ابن جدِّه على قناة الجزيرة- تمنَّى لو كان واجهَ جورِج بُوشَ بالمعيَّن الأحمر بدلاً من رميه بالحذاء:
_ لو رفعتُ المُعيَّن الأحمر في وجهه لكان ذلك أشدَّ فضحاً له.. (ثم أضاف يعتب على اللبنانيِّين).. لقد زرتُ الأسواقَ اللبنانيَّة كي آتيَ بما أرُدُّ به على وقاحة ذلك الرجل الذي قال على المنبر إنَّ الشعب العراقيَّ ينعَم الآنَ بحبِّ العجيزة- فباعُوني حذاءً! ولو أنَّهم أعطوني المُعيَّن الأح..
·    جميل.. يا جميل!


كانت هذه الحلقة الأولى من روايتي "في وجهك يا وقح". تليها، عمَّا قريبٍ، الحلقة الثانية: عزيزة أوَّلاً.


هناك تعليق واحد:

  1. جميلة وفيها تجديد وتعبير وتشويق فالى الأمام

    ردحذف