الجمعة، 4 مارس 2011

للحجارة أكتب/ قصة قصيرة

   ها هم يَقصِفُون المدينةَ بقنابل الدبَّابات، يَدُكُّون البيوتَ فوق رؤوس أصحابِها. وما يقتُلون إلَّا إخوةً لهم في الإنسانية. ألعلَّهم لا يُصدِّقون أنَّ البشرَ على هذه الأرض إخوة؟
إنها القسوة.
لطالما كتبتُ أُبشِّر بأُخُوَّة الناس بعضِهم لبعضٍ- كما كتَبَ المُصلِحُون من قبلي- المقالَ تلوَ المقال، حتى بلغتُ من العمر أواخرَه وما كَفَّ الإخوةُ عن التطاحُن والتفاني.
إنْ هُم إلا كالحجارة أو أشَدُّ قسوةً!
وتنهَّد الصِّحافيُّ العجوز.
كان يقتعدُ أرضَ مكتبهِ بمبنى الجريدة في رُكنٍ احتمَى به من القصف- وإنْ كانَ على يقينٍ من أنه ليس بناجٍ إذا ما أصابَت المكتبَ قنبلةٌ من تلك القنابل المُتفجِّرة في الخارج.
ثم قال لنفسه في غيظ: "لو كتبتُ للحجارة طوالَ هذه السنين لسمِعتْ لي، ووَعَتْ عنِّي، فاصطلحتْ فيما بينها- على ما يُعرَفُ عنها من قسوة رُؤوس!".
وبدافعِ يأسهِ من بني البشر، ونقمتهِ عليهم أو ربَّما كيداً وتَشَفِّياً- مدَّ العجوزُ يده، فتناول ورقةً من مكتبتهِ القريبة، وبسَطها أمامه على البلاط، وراح يكتُبُ للحجارة. نعم للحجارة! فكتب ما يلي:
سمع حجرٌ في جدارٍ هاتفاً يصيح بحُرقة:
"يا معشرَ الحجارة. تعاونوا على العُمران، ولا يَهدِمْ بعضُكم بعضاً. فإنَّكم بالأصل إخوة"!
ألقى الرجلُ قلمَه على هذه الورقة مُلتفِتاً عنها في مرارةٍ خالَطَها فجأةً بعضُ الخوفِ من اقتراب أصوات الانفجارات. لم يشأ أن يتركَ مكتبَه للنُزول إلى الملجأ تحتَ الأرضِ حيثُ أوى الجميعُ هذا الصباحَ مع انتشار الأنباء عن قُرب زَحفِ الدبَّابات على المدينة- وكأنَّه يُواجه بجسدهِ ما عَجِزَتْ كلماتُه عن صَدِّه من قنابل "قسوة الإخوة"!
وأراد الرجلُ الانشغالََ عن الترقُّب المُفزع للقنابل، فعادَ بعينَيه الباهتتين إلى ورقتِه، يَقرأُ ما كتبَه للتوِّ. تأمَّل ذلك مليَّاً. ثم ما يدري إلا وهو يأخُذُ بالقلم مرَّةً أخرى ويُواصل ما كان بدأه من كتابةٍ.. للحجارة!
كتب مُواصِلاً:
فاضطربَتْ ذرَّاتُ الحجَر للهُتاف، وردَّدَ له صدًى قويَّاً حتى بلَغَ الهُتافُ كلَّ المباني الحجريَّة في المدينة.
وَجَدَ صدى الهُتاف استجابةً من حَجرٍ بجدار الطابق الثالث من مدرسةٍ ابتدائيَّة. فرجَّعَه قائلاً بإنكارٍ شديد:
_ لسنا نحن الذين يَهدِم بعضُنا بعضاً! إنه الإنسانُ يَهدِم أبنيتَنا في حُروبهِ على بني جنسهِ.
تَقلقَلَ لذلك حَجرٌ في مبنًى قيد الإنشاء، قائمٍ وَسْطَ ورشة بناء. فرجَّعَه بدورهِ مُتسائلاً في إشفاق:
_ بماذا يهدِم الإنسانُ أبنيتَنا؟
جاوَبَهُ حجرٌ بالأرض- بين رُكامٍ- مكسورٌ من جانبٍ، ومثقُوبٌ من جانبٍ آخر، قائلاً وهو ينفُض غُباراً من فُتاتهِ:
_ يَهدِمُنا بالقنابل التي تُطلقها الدبَّاباتُ!
بلغ صدى هذا القول مبنًى تجاريَّاً عريضَ القاعدة، زُجاجيَّ الواجهة. فطقطقَ زجاجُه في جَزَعٍ مُتسائلاً:
_ نحن الحجارةَ نتَّصفُ بالقسوة. فكيف تقوى القنابلُ على هدم مبانينا؟
فجاوَبَه الحجَرُ المُتهدِّم في تذكُّرٍ أليمٍ:
_ إنه الحديد! الحديد الذي يندفع نحونا بقُوَّة الموادِّ المُتفجِّرة، فيدُكُّ منَّا ما قَسا وما تَراصَّ من حجارة.
عند ذاك رنَّ هيكلٌ حديديٌّ عظيم- إذ بلغته أصداءُ الحجارة المُتجاوبة- قائلاً بصرامةٍ من مَربَضهِ على مَشارف المدينة:
_ الويلُ لكم من قُوَّتي التدميريَّة. لن أدَعَ فيكُم حَجراً على حَجَر!
طَقطَقتْ حجارةٌ كثيرةٌ في المباني بصدًى واحد:
_ ما هذا؟
فجاوبهم حجرٌ رمليٌّ ببيتٍ عتيقٍ ذي قُبَّعةٍ من القرميد قائلاً بصوتٍ كالتصَدُّع:
_ إنها دبَّابةٌ مُثقلةٌ بالقنابل!
انتشر الفزَعُ بين حجارة الأبنية كغُبارٍ تفتَّتَ منها وتطاير.
وصَلْصَلَتْ جنازيرُ الدبَّابة، وتحرَّك مدفعُها الطويلُ مُتَّجِهاً نحو بنايةٍ سكنيَّةٍ تنْزوي في جانب شارعٍ فرعيٍّ- تُلوِّحُ شُرفاتُها بملابسَ للأطفال مُعلَّقةٍ على حبال الغسيل. وانطلقت القنبلةُ بصوتٍ مكتومٍ يُضمر بخُبثٍ سرَّ التدمير. وما هي غير ثوانٍ حتى انفجرت القنبلةُ في الطابق الثالث من البناية مُحدِثةً فيه فُتحةً واسعةً مُكلَّلةً بالسواد يتصاعد منها الدخان.
وإذا بالأبنية المُجاورة تتعرَّضُ للقنابل من عشرات الدبَّابات الزاحفة نحو المدينة.
يَتتابع القصفُ حوالَي الساعتين، ثم يتوقَّفُ فجأةً كي تُنفِّذَ الدبَّاباتُ خطَّةً لإعادة الانتشار والتقدُّم. 
اهتزَّ لكلِّ تلك الأصداء المُزلزلةِ الحجرُ الذي سمع هُتافَ الأُخوَّة أوَّلاً وردَّده. فتخلخلَ مُخاطباً في حُزنٍ الدبَّابةَ الحديديَّةَ المُتقدِّمةَ:
_ ألا ترَينَ يا أُختي أنَّ البشَرَ يستخدِمُونكِ لتهديم ما أنتِ في الأصل منه!
توقَّفت الدبَّابةُ. ثم استدارت بمدفعها لتُواجهَ المبنى الذي فيه الحجرُ المُتكلِّم. ثم واصلت تقدُّمَها بصلصلةٍ مشؤومةٍ تقول في أنَفةٍ وازدراء:
_ أنا أصلي من حجارة أيُّها الحجرُ الحقير!
_ نعم! أصلُكِ مِنَّا. فإنَّ حديدَكِ فلذاتٌ من أكبادِ الحجارة في المناجم.
فزمجرت الدبَّابةُ في تهديدٍ تعالت سُحُبُه السوداء من داخِنتها:
_ ما بي سوى الرغبة في تدمير الحجارة، والقُدرة على ذلك!
فتَشدَّدَ الحجرُ في مكانه من جدار المبنى وقال بثباتٍ:
_ لقد ملأ الإنسان مُحرِّكاتك بتلك الرغبة، وحشا قنابلَكِ بتلك القُدرة. فعلَّمكِ التنكُّرَ لأصلكِ الحجريِّ. هدِّئي قليلاً من زمجرتكِ وصلصلة جنازيركِ، وتسمَّعي إلى المناجم البعيدة.
أخذت الدبَّابةَ حَميَّةُ الحديد، وهمَّت بإطلاقِ قُنبلةٍ على الحجر المُتجرِّئ، لتفتيتهِ. غيرَ أنَّها تنبَّهتْ إلى أصداء بعيدةٍ تروي لها قصَّةً لم تَسمَعْها من قبلُ؛ قصَّةً تحكيها مطارقُ عُمَّال المناجم، وأزيزُ النار، وهديرُ الآلات الثقيلة.
أدركت الدبَّابةُ أنَّ حديدَها يُستَخرَجُ بالقُوَّةِ من أكباد الحجارة، ثم يُدفَعُ به في أفرانٍ عُليا لصهره، كي تُصنَع منه بعد ذلك هياكلُ الدبَّابات وأجسامُ القنابل. ولكنَّ الدبَّابة حارت بين القسوة المعروفة عن الحديد، والاقتناع الذي يَبْعَثُهُ في هيكلها الحديديِّ تلك الأصداءُ البعيدةُ لحقيقةٍ واقعة..
تصدُرُ أوامرُ القيادة الحربيَّة للدبَّابات باستئناف قصف المدينة.
وتنطلقُ من فُوَّهة مدفع الدبَّابة الحائرة قنبلةٌ من العيار الثقيل باتِّجاه مبنى الجريدة..
يشُقُّ الجوَّ صفيرُ طيرانها حتَّى تَصطدِمَ بالجدار في انفجارٍ مُدوٍّ.
لحظات ثم ينقشع دُخانُ البارودِ عن المبنى. فإذا به لا يزال قائماً سليماً لم يُصِبْه خدشٌ!
وختمَ الصِّحافيُّ خواطرَه المُتفائلة بالتعليق التالي:
عاد الحديدُ إلى كَبِدِ أهلهِ، الحجارة، مُندمِجاً فيها غيرَ هدَّام.
                آب 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق