الاثنين، 21 فبراير 2011

المُمثل الغاضب/ قصة قصيرة

  ما أروعَ الرجلَ إذا غضب!
هكذا كانت تُحدِّثُ سلوى نفسَها وهي تُشاهد- حابسةً أنفاسها- فِلماً على شاشة تلفازها الصغير في حجرتها الخاصة.
وتقبَّضَتْ عضلاتُ وجهِها في تفاعلٍ مع المشهد: شابُّ وحيدٌ في صالة، غاضبٌ غضباً شديداً. وها هما يداه تُطوِّحان بكلِّ ما تصلان إليه من أثاث ثمين؛ مزهريات، تُحف، لوحات..
تتعالى أصواتُ التكسير حتى تملأ على سلوى حجرتها في هذا الوقت المتأخِّر من الليل، ولم يخطر لها أن تخفضَ من صوت التلفاز بآلة التحكُّم التي إلى جانبها، الأمرُ الذي ما كانت لتُهمِله من قبل، رحمةً بأمِّها العجوز النائمة في الغرفة المُجاورة.  
كانت الأمُّ تأوي إلى فراشها- والليلُ لم يُجاوز أوَّله إلا بساعةٍ أو ساعتين. ولكنْ بعدَ أن تُردِّدَ وصيَّتَها المسائيَّةَ لابنتها؛ فتقفُ عند عتَبة الحُجرة وهي تتثاءبُ تثاؤبةً لَطالما اعتقدَتْ سلوى أنها مُصطنعةٌ تتوسَّلُ بها العجوزُ إلى بثِّ النُّعاس في أجفان ابنتها:
_ لا تُطيلي السهر يا بنتي..
هنا تقطع العجوزُ كلامَها عادةً لتتثاءب مرَّةً أخرى، ثم تواصل قائلةً:
_ وأرى أن تُطفئي التلفاز بعد قليل وتنامي كي تستطيعي الاستيقاظ باكراً  إلى المدرسة.
ثم تُغمض أمُّ سلوى عينيها الناعستين نصفَ إغماضة، وتحني رأسها في وضعيَّةٍ تُغري بالتكاسُل والنوم، وتُضيفُ ختاماً لتوصيتها:
_ ما أحلى النوم الباكر!
وتمضي إلى حجرتها. فلا تلبثُ حتى تترامى من وراء الباب تثاؤبةٌ ثالثة!
كانت سلوى تجد ذلك من أمِّها داعياً إلى الابتسام. أما هذا المساءَ فقد وجدَتْهُ مُثيراً للحُنق. فقامت وصَفَقت بابَها بقوةٍ اهتزَّت لها جدرانُ الشقة الهادئة.
لم يَغِبْ عن الفتاة الثلاثينية الباعثُ على عصبيَّتها هذه الليلة. كان يومُها شاقَّاً في المدرسة- وليس التعبُ شكاتَها، فإنَّ التعبَ رافقها في مهنتها زمناً مديداً حتى رضيتْ به شريكاً لأيَّامها- بل لأنه عُهِد إليها اليومَ تدريسُ الصفِّ الرابع بالنيابة عن المُدرِّسة التي تركت المدرسةَ فجأةً دون إخطار الإدارة- نُزولاً عند رغبة حبيبها في خطفِها للزواج!
كانت زميلتُها ساميةُ قد أسرَّت في أذنها أمسِ بقبولها دعوةَ "أمجد" للهرب معه هذا الصباحَ. لم تكتُمْها الفتاةُ- الحديثةُ العهدِ بالتدريس- سرَّاً، منذ أن أخبرتها كيف أنها "وقعَتْ في حُبِّ" ذلك الشابِّ الأسمر الذي ما كَفَّ عن مُلاحقتها في طريق المدرسة. تقُصُّ عليها– خلال الاستراحة اليوميَّة بغرفة المُدرِّسات- ما كان أمجدُ يقول لها، وما كان "يفعلُ بها" في لقاءاتهما السِّريَّة المُتكرِّرة.. حتى تصرُخَ سلوى فزِعةً: "ألا تخجلين؟ يا لكِ من جريئة!" ثم تبتلعُ ريقَها بصعوبةٍ، وتسأل: "وماذا فعل أيضاً؟". وأخيراً أخبرتها ساميةُ- في الأسبوع الماضي- كيف تقدَّم أمجدُ لخطبتها- أنيقَ البدلة، حليقَ الذقن- فرفضَهُ والدُها بحُجَّة أنه "عاطل عن العمل، وهاوٍ للتسكُّع":
_ ياي! جُنَّ جُنونُه يا سلوى. وقف غاضباً. وقذف بالكوب من يده فتكسَّر على الجدار. وغادر البيتَ وهو يسُبُّ ويلعن ويتوعَّد!
نعم! كانت سلوى تُدرك الباعثَ على عصبيَّتها. غير أنها لم تشأ أن تصُبَّ نقمتَها على أمِّها. وبالرغم من ذلك، كرهت سلوى أن تعودَ فتفتحَ البابَ لتهتف لأمِّها بكلمات الاعتذار من مثل:
_ عفواً يا ماما.. انصَفق الباب غصباً عنِّي!
استلقت سلوى في سريرها- كعادتها كلَّ مساء- في مُواجهة شاشة التلفاز. وراحت- بجهاز التحكُّم البعيد- تستعرض القنوات الفضائيَّة حتى خطَفَ انتباهَها هذا المشهدُ لشابٍّ أسمرِ البشرةِ، حادِّ القسمات، يُكسِّر أثاثَ تلك الصالة الأنيقة. فتخلَّت يدُها عن آلة التحكُّم دون أن تُحوِّل عينيها عن المُمثِّل الغاضب. ها هو يرفع بيده القويَّة كرسيَّاً ثقيلاً فيُطوِّح به نحو مرآةٍ بالجدار فتتطاير شظايا في ضجَّةٍ عالية.
أخذها المشهدُ فانفرجت شفتاها، والتمَعت عيناها، وغمرها إحساسٌ بالزُّهُوِّ استغرقَ جسدَها كلَّه. ذلك لأنه سرعان ما تمثَّل لخاطرها أنَّ الشابَّ إنَّما يفعل ما يفعل لأجلها هي دون سواها.. رُبَّما غضباً لرفض أحدٍ من الناس- أمِّها مثلاً- طلبَه ليدها!
واغرورقت عيناها بالتأثُّر وهي تتابع يدَ الشابِّ ترتفع مرَّةً أخرى بكأسٍ بلَّوريَّة عظيمة يُريد قذفَها نحو الجدار.. وشهَقَتْ سلوى..
_ دق دق دق.. أَخرِسي صوتَ هذا اللعين ونامي!                        أيار 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق