الاثنين، 21 فبراير 2011

ألم الركبة



لم أكن راضياً كلَّ الرضى عن مجرى حياتي. غير أنها ـ حياتي ـ كانت على أي حالٍ تجري. أما أنْ تتوقّفَ عن الجريان، فهذا ما لم أكن أتصوّره  قبل تلك المصيبةِ التي اعترضتْ مجرى حياتي فسدَّتْه سدّاً.
كنتُ ذاتَ يومٍ جالساً في مقهى على الرصيف أرصد فتاةً جميلةً دخلتْ دكاناً على الرصيف المقابل بعد أنْ رمتْ ناحيتي بنظرةٍ واعدة. فقرّرتُ أن ألحق بها حالما تخرج من الدكان. وفي انتظارها ـ وقد أقلقني التحفُّزُ ـ رحتُ أنقر بإصبعي على ركبتي اليمنى. وإذ بي أتنبَّهُ إلى ألمٍ خفيفٍ بها. ساورني الجزعُ، كعادتي كلما شعرتُ بوخزة ألم، وتركتُ الفتاةَ لشأنها مُنصرفاً إلى ركبتي أتفحّصُها؛ أنقر عليها نقراً متواصلاً فأتلقّى ألماً يزداد حدّةً! استولى عليّ الجزع ومددتُ رِجْلي وقد تقلَّصَ وجهي بالألم والخوف.
سألني بعض الجالسين عما أصابني فشكوتُ لهم ألم ركبتي وأخبرتُهم كيف كَشَفَ عنه نقري بالإصبع عليها.
بدا من بعضهم استهزاءٌ بألمي واحتقارٌ لجزعي، فصحتُ بهم بصوتٍ مزَّقه الألم:
ـ لعلّ بركبكم ما بركبتي من ألم، إلاّ أنه كامِنٌ ينتظر الكشفَ عنه!
فَنَقَر أحدُهم على ركبتِه باستهانةٍ وهو يقول:
ـ أما أنا فلا أشكو ألماً.
فقلتُ مدفوعاً بشيءٍ من الحسد:
ـ ما هكذا يكون الكشفُ عن ألم الركبة. دعني أكشف عنه.
ومددتُ إصبعي إلى ركبته. ورحتُ أنقر عليها نقراً كالذي كشفتُ به عن ألم ركبتي. فما لبث الرجلُ أن صاح في تألُّمٍ بَيِّنٍ:
ـ آخ.. ركبتي!
ارتدَدْتُ عن الرجل في ظَفَرٍ وتَشَفٍّ وأنا أقول في ارتياحٍ إلى مشاركةِ الآخرين لي في ألمي:
ـ يبدو أننا جميعاً نشكو من ألمٍ كامِنٍ في ركبنا!
وانتشرتْ في المقهى من حول طاولتي حركةٌ محمومةٌ من النقر على الرُّكب.
منذ ذلك اليوم المشؤومِ وعددُ المصابين بألم الركبة يزدادُ باطرادٍ.
اكتظَّتْ بالمرضى غرفُ الانتظار بعياداتٍ الأطبّاءِ. ولكنّ الأطبّاءَ لم يعرفوا لألمِ الركبة سبباً ولا علاجاً. وتضاربتِ التفسيراتُ. وراح الناسُ يتداولون وصفاتٍ شعبيّة. ولكنها لم تنجحْ إلاّ في زيادة الألم!
وباتَ الناسُ في همٍّ مُقيمٍ، لا حديثَ لهم إلاّ ألم الركبةِ الذي اجتاح المدينة في أيامٍ معدوداتٍ فتعطّلتِ الأعمالُ وخَلَتِ الطرقاتُ إلاّ من القاعدينَ على الأرصفةِ مادِّين أرجُلَهم، مائلينَ على ركبهم في تألّمٍ شديدٍ، أو الساعينَ بعكازاتٍ نحو مدَّعي المقدرة على العلاج بالطبِّ العربيّ القديم، وقد نبتوا في المدينةِ كالفطْر عقبَ المصيبة الكبرى.
أما أنا فلم أدَعْ طبيباً إلاّ زرتُه، ولا علاجاً إلاّ جرّبتُه، وحال ركبتي تزداد سوءاً.
ذهلتُ عن نفسي وعن كافة شؤون حياتي. ولزمْتُ فراشي مُحْمَرَّ العينينِ من الأرقِ، نابتَ الذقنِ، عاصباً ركبتي التي بدتْ كالمتورِّمةِ تحت الأربطةِ البيضاء. أُفكِّر في علاجٍ، فلا يهديني عقلي المُجهَد إلى شيءٍ من أمر هذا الألم العنيد الذي بدا كأنه يزداد حِدّةً بعد كلّ محاولةٍ لعلاجه.
وتمضي الأيامُ صعبةً ثقيلة، ولا أجد سبيلاً إلى الشفاء. وأذكرُ شواغلي التي قطعتْها هذه المصيبة، والمواعيد التي أخلفْتُها. أذكرُ تلك الفتاة الجميلة التي دعتْني ذلك اليومَ بعينيها الساجيتَينِ إلى اللحاق بها. فيفيض قلبي بالأسى على نفسي، وأهتِفُ في قهر:
ـ متى أشفى فأستأنِفَ حياتي؟
وتنحدر من عيني دمعةٌ حارّة.
ويوماً وقد ضقْتُ باستسلامي إلى الرقاد، رأيتُ أنْ أتحاملَ على ركبتي فأنزل إلى الشارع.
وبعد كثير من التردّد رأيتُني أهبط الدرجَ مُتوكِّئاً على عُكّازٍ، مُحاذِراً أشدَّ الحذرِ ألا ألقي بثقلي على رجلي اليُمنى. مشيتُ بعكّازي خطواتٍ في الشارع المقفر. إلا أنني سرعان ما قرّرت أن أريح ركبتي. وفي إشفاقٍ شديدٍ جلستُ على حافةِ الرصيفِ مادّاً رجلي، وعلى جبيني تقطيبةُ تألّمٍ. وإذا بشابٍّ على دَرّاجةٍ هوائيةٍ يلوح آتياً من آخر الشارع!
تابعتُه بذهولٍ وهو يقود درّاجته مُعافىً سليمَ الركبةِ حتى توقَّفَ إزائي. استند إلى الأرض برجله اليمنى وسألني في استغرابٍ:
ـ أين الناسُ في مدينتكم؟
وما تمالكتُ إلا أن سألتُه:
ـ ألا تشكو ألماً في ركبتك؟!
فقال بتوجُّسٍ:
ـ لا.. لماذا تسأل؟
ـ يبدو أنك تزور المدينة لأول مرة، أو بعد غيابٍ طويل. الناسُ هنا يعانون ألماً في ركبهم، لا نعرف له علاجاً. هل تسمح أن أنقر بإصبعي على ركبتك؟
ومددتُ يدي صوبَ ركبتِه. ولكنّه حيّد ركبته في انزعاجٍ، وقال بجفاءٍ:
ـ دعْ ركبتي! ما بها شيء.
ـ لن تعرف ذلك حتى تنقر عليها بإصبعك. دعني أفحصْها لك.
بيد أنه رفع رجله إلى الدوّاسة مُستاءً وابتعد بدرّاجته وهو يقول:
ـ لا أريد أن أعرفَ!
عجبتُ من مُكابرته وعناده. كيف يمضي خاليَ البالِ؟ وما ضرَّ لو كان توقّف قليلاً فتفحّصَ ركبتَه. فإذا اطمأنَّ إلى سلامتها ممّا يُنغِّص الحياة مضى لشأنه، أما إذا كشف فيها عن عِلّةٍ داواها. وله بعد ذلك أنْ يواصلَ حياتَه.
غير أنني لم أذكر ذلك الشابّ إلا بعد أيامٍ وليالي من المعاناةِ بلغ بي الجزعُ فيها أنْ تمنّيت لو لم تكن لي رِجلٌ ولا ركبة!
ذكرتُ قوله «لا أريد أن أعرفَ» وحركةَ رجلهِ على الدوّاسةِ. فأدركت قيمةَ التجاهل، وحسدتُ الشابَّ على قدرته عليه. يا ليتني لم أُلْقِ بالاً إلى الألم الخفيف الذي كشَفْتُ عنه في ركبتي يومَ نقرتُ عليها أوّلَ مرة.
وتساءلتُ في شكٍّ:
ـ هل أستطيع تجاهل علةٍ في ركبتي اعتملتْ في خاطري حتى مَلَكتْ عليّ أمري وشغلتْني عن حياتي؟ والألم. كيف أتجاهلُ وخزاتِه الحادّة؟!
وتأوّهتُ من الأعماقِ. آه.
ما أعمق البلوى التي غرقتُ فيها!
وكَمَن يبذلُ آخرَ جهدٍ للنجاةِ قبلَ أنْ يبتلعَه الغرقُ، قلتُ لنفسي: »فَلأحاوِلْ تجاهلَ علَّتي. وماذا أفدتُ من الالتفاتِ إليها غيرَ تعطيل حياتي؟ ولأجتنِبْ كلَّ ما يُذكِّرني بعلةِ ركبتي، ولأكُفّ عن النقر عليها وإثارتها«.
الحقُّ أني لم أكن واثقاً بسلامة تفكيري، وعَدَدْتُه نوعاً من هذيانِ المحمومين أو أماني اليائسين. ثم عدتُ فقلتُ لنفسي: إما التجاهل وإما الوقوفُ بالحياةِ عند حاجز الجزع والخوف.
وبحركةٍ سريعةٍ قاطعةٍ للتردّدِ، حَلَلْتُ الأربطةَ عن ركبتي وقمتُ فمسحتُ عن الطاولة بجانب سريري ما كنتُ قد صَفَفْتهُ عليها من قوارير الدواء وتقارير الأطباء، فَجَمَعتُها في كيسٍ ورميتُ به في سلة المهملاتِ. ولم يَثنيني عمّا هَمَمْتُ به الوخزةُ الحادّةُ التي اخترقتْ ركبتي فكادتْ ترميني أرضاً وأنا أخطو نحو السلّة.
حدثاً عظيماً كان وقوفي بباب بيتي مُتأهّباً للنزول إلى الشارع بلا عكازة. تشدّدتُ وأخذتُ أنفاساً متتابعة ثم مضيتُ أنزل الدرجَ بخطواتٍ حذرةٍ عاضّاً على أسناني في حزمٍ، عاقداً حاجبيَّ في تصميم، أحاولُ تجاهلَ الألم الذي ثار بركبتي كالوحش جُنّ جنونهُ إذْ رآني لا أكترث له.
كدتُ أتخاذلُ، وفكّرتُ مرّاتٍ بالرجوع والانكفاءِ. بيد أني عُدتُ فاندفعتُ بإرادة الحياةِ حتى بلغتُ أرض الشارع ثم مضيتُ أعرج أو على الأصحّ أجُرُّ رِجْليْ جرَّاً ناظراً فيما أمامي بعناد.
ويوماً بعد يوم رحتُ أستغرق فيما يشغلني عن ألمي، مُلتفتاً عن كلِّ ما يُذكِّرني به حتى خفّت حدّتُه وتباعدت نوباتُه. واستطعتُ أخيراً العودةَ إلى حياتي سعيداً بمواصلة ما قطعتُه من اهتمامات. واستوتْ مشيتي أو كادت. وركبتي؟ ما بها شيء!
ولقد لاحظتُ الناسَ قد بدأوا يسعَون في الشارع؛ مَن نجح بتجاهل علة ركبته مضى بحياته. أما مَن تملكه الجزعُ لزم بيته متوقِّفاً بحياته عند ركبته.
وبينما كنتُ يوماً أسعى لشأني إذا بألمٍ عنيفٍ يهاجم ركبتي فأنطرح أرضاً غائباً عمّا حولي أتلوّى من الألم. ولمّا رجعتْ إليَّ نفسي لمحتُ شابّاً غاضباً يعلوني بعكّازةٍ في يده، يكاد يهوي بها ثانيةً على ركبتي.
رفعتُ يدي لأتَّقيَ ضربتَه صائحاً به في رعب:
ـ ماذا بك؟!
عرفتُه. إنه ذلك الشابُّ راكبُ الدرّاجة. تراجعتْ يدُه بالعكازة فاستند بها إلى الأرض. إذّاك لمحتُ رجله اليمنى مقطوعةً فوق الركبة!
نسيتُ ألمي في فداحةِ مُصابه. وتحاملتُ على رِجْلي حتى وقفتُ أمامه. ثم سألتُه بإنكار وأنا أكتم ألمي في غيظٍ:
ـ ماذا جرى لرجلك؟ لعلك تعتبرني مسؤولاً عما جرى لك!
فقال في أسى:
ـ أتذكر يومَ ابتعدتُ عنك بدراجتي؟ نجحتُ بتجاهل ملاحظتك أياماً. ولكنها ظلّتْ تُلحّ على خاطري حتى دبَّ الجزع في نفسي فمدَدْتُ يدي إلى ركبتي ونقرتُ عليها..
قاطعته صائحاً في ندم:
ـ ليتك لم تفعلْ!
فقال في حقد:
ـ بل فعلتُ عَمَلاً بنصيحتك! كشفتُ في ركبتي اليمنى عن ألمٍ خفيف سرعانَ ما ازداد حدّةً بمحاولة علاجه حتى جعلني قعيد الفراش لا أقوى على شيءٍ منشغلاً بعلاجه عن حياتي جميعاً. ولمّا استعصتْ ركبتي على العلاج، حاولتُ تجاهلها حتى أستطيع مواصلة حياتي. ولكني لم أنجح بتجاهلها؛ وظلّ الألم يُلح عليَّ..
وتنهّد في حرقة ثم عاد يقول:
ـ انقطعتُ عن الحياة حتى اقتنعتُ أخيراً بأنني لن أستطيع مواصلة حياتي إلا إذا تخلصتُ من الركبة العليلة. فاشتريتُ حياتي بركبتي.
30 نيسان 2004

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق