الاثنين، 21 فبراير 2011

محفوظ/ قصة قصيرة

ـ اِنتبِهْ!
كاد الشابُّ المسكينُ يقع في حفرةٍ بالطريق لولا أن سارعتُ فأمسكتُه.
مُتوكِّئاً على عُكّازٍ اتّخذه بديلاً عن رجله اليُمنى المقطوعة ـ كان يمشي غيرَ مُنتبِهٍ إلى الحفر الطوليّة التي شُقَّت في الطريق لمدّ أنابيب المياه. بيد أنَّ الشابّ المُعاقَ تخلّص من يدي بلطفٍ وهو يقول باسماً:
ـ شكراً لك! وإنْ لم يكن من داعٍ لمساعدتك. فما كنتُ لأقعَ!
ولعلَّه آنَسَ في وجهي شيئاً من الانزعاج لإنكاره إنقاذي له، فدعاني إلى مماشاته وهو يقول:
ـ سأشرح لك الأمرَ.
مشينا جنباً إلى جنب بضع خطواتٍ في الطريق المحفور وأنا أتساءل في نفسي عن سرِّ هدوئه وقلة اكتراثه كأنه ما كانتْ ستتكسَّر عظامُه قبل لحظاتٍ في الحفرة العميقة. ثم التفت الشابُّ إليَّ بعينيه الصافيتين وقال بابتسامةٍ تبعث على الاطمئنان:
ـ أشكر لك اهتمامك بسلامتي. وتبارك أمثالُك من الناس.
فقلتُ مبتسماً في حياءٍ من امتنانه:
ـ العفوَ! لا شكر على واجب.
وإذا به يعود فيقول في توكيد:
ـ ولكني ما كنتُ لأقع!
نظرتُ إليه مستغرباً إصرارَه على إنكار ما كان من قرب وقوعِه. فأردفَ قائلاً وهو يَهُزّ رأسَه يمنةً ويسرةً:
ـ لن يُصيبني مكروهٌ مهما كان!
ابتسمتُ ساخراً من سذاجة اقتناعهِ وسألتُه وأنا ألحظ رجله المقطوعة:
ـ وماذا يحميك؟
فأجابني بثقةٍ عجيبة:
ـ إنَّ مصيبتي بفقد رجلي ـ منذ حوالي الشهر ـ أمَّنتْني من المصائبِ بعدَها! لذلك فأنا لا أخشى على نفسي مصيبةً أخرى!
ضحكتُ منه وأنا أنظر أين يضع الأحمق رجله من الطريق المليءِ بالحفر الخطرة. ثم سألتُه في دعابة:
ـ والموت؟ لعلك ستقول لي إنك مُؤمَّنٌ منه أيضاً!
فقال الشابّ متسامحاً مع سخريتي:
ـ الموت حقٌّ على كل إنسان. ولكنْ لن يدركني الموتُ إلا بعد أن أعيش عمري آمناً سالماً، لا أتعرّض لمكروه. وأظنّه لن يأتيني إلاّ من بعد أن أسأم من الحياة. عند ذلك ـ في آخر عمري ـ سأموت ميتة طبيعية رحيمة بعد أن أستوفي حقّي من الحياة الآمنة الهادئة!
فتابعتُ كلامه مُصطنعاً الجِدَّ:
ـ لأنَّ مصيبتك برجلكَ أمّنتْك بقية عمرك!
فأجاب جادّاً:
ـ هذا حقٌّ لي!
كنا قد بلغنا مفترقاً للطرق. فاعتذرتُ عن مماشاته باضطراري إلى اتخاذ طريقٍ آخر. وانصرفتُ عنه متعجِّباً من اقتناعه الغريب. إلا أنني تفهّمتُ حالته. فقد استعظم المسكينُ فقدانه لرجله منذ مدةٍ وجيزة لدرجةِ أنه لا يتصوّر ولا يُصدِّق أنه سيُصاب بعدَها بمصيبةٍ أخرى أيّاً تكنْ.
واهِمٌ مسكين!
وعُرِف الشابُّ في الحيِّ. وشاعتْ قصة اقتناعه بأمنِه من الإصابات، وعصمتِه من أيّ شرٍّ ممّا يتعرّض له الناس. وعَلَّق على ذلك أهلُ الدعابة في المقاهي وباصات النقل العامة بما حَلا لهم من تعليقاتٍ ساخرة.
وتذاكرنا قضيته في مجلس للأصدقاء. فقال أحدُنا يوجز سيرته:
ـ يُدعى محفوظ. في الثلاثين من عمره. فقد أمَّه صغيراً فربي في بيت جدته لأبيه. وكانتْ عجوزاً دائمة التشكّي، شديدة الارتياب والاحتراس. ويبدو أنها زرعت في الغلام الحذرَ من كل شيء. ثم فقد أباه بحادث سيارة.
ـ وكيف فقد رجله؟
ـ بلغمٍ منْسيٍّ مُتخلِّفٍ عن الحرب الأهلية الماضية. وكان خلال المعارك لا يكاد يغادر الملجأ خوفاً من الإصابة بالقذائف العشوائية.
فعُدتُ أنا أردِّد تفسيري لاقتناعه الساذج والمثير للشفقة. ثم قلتُ:
ـ أتمنّى أن يَصدُقَ ظنُّه!
فقال الأصدقاءُ بصوتٍ واحدٍ تقريباً:
ـ وأنْ لا نُصابَ نحن ولا أحبّاؤنا بما نكره.
ولكنَّ القلقَ في وجوههم دلَّ على اقتناعهم ببعد تحقُّق أمنيتهم.
وسار محفوظ متوكئاً على عكازه في طرقات الحيّ بهدوئه المطمئنّ وثقته بالسلامة، يُحيِّي المارّة وأصحابَ الحوانيتِ بلطفٍ ووداعة. وقد أَحَبَّه الناسُ ورَثَوا لمصيبتهِ. وكانوا يبتسمون في عطفٍ لدى تذاكرهم مسألة إيمانه بحصانته، ويقولون:
ـ ليت لنا اقتناعَه الساذجَ إذاً لاسترحْنا من الحذر والقلق.
وتلاحقتِ الأيامُ تكاد تُثبِتُ صحةَ زعمه! فها هو يمضي ـ غيرَ مكترثٍ لما يُحيط به من أخطار، وما قد يتعرّض له من حوادث ـ دون أنْ ينالَه أيُّ أذى ـ وإنْ كان تافهاً هيِّناً.
وقد أَحْنَقَتْ شهرتُه بعضَ السفهاءِ في حيِّنا. واستفزّتْهم لإيقاع الأذى به حتى تنهار هذه الشهرةُ القائمةُ على عصمته من الأذى.
فتآمروا عليه ـ كما تناقل الناسُ ـ ونصبوا له فخّاً في الزاروب الذي كان يسلكه صباحَ كلِّ يومٍ في طريقه إلى عملهِ الطوعيِّ بالصليب الأحمر. إذ استدرجوا إلى ذلك الزاروب كلباً شرساً. وحال رؤيتهم محفوظَ يتقدّم بعكازه رَمَوا للكلب بقطعةٍ من اللحم وهربوا. انتظر الشبانُ في آخر الزاروب وهم يتخيّلون بسرورٍ خبيثٍ محفوظ الشابَّ الهادئَ يُفاجَأُ بالكلبِ يُزمجِر ظنّاً منه أنَّه إنما جاءَ ليسلبَه طعامَه. ثم ينقضّ عليه عاوياً عواءَه المُخيف، فغارِزاً أنيابَه برجْله السليمة حتى لا يعود إلى القول باعتقاده السلامة من كلّ شرّ. ولشدَّ ما كانتْ دهشتُهم عظيمةً، ورعبُهم، إذْ رأوا محفوظ يُقبِل نحوهم حيث كانوا يتضاحكون، إلى جانبهِ الكلبُ يُرافقه! وزمجر الكلبُ مُكشّراً عن أنيابه الرهيبة. فارتعدوا دون أن يجرؤوا على حركة. غيرَ أنّ محفوظ رفع يدَه قائلاً في هدوء:
ـ لا تخافوا!
ثم ربَّتَ على ظهر الكلب وهو يقول في عتابٍ مُرٍّ:
ـ ألا تخجلون من أنفسكم تسعَون إلى إصابة الناس بما يكرهون، بدلاً من السعي مع إخوانكم إلى تجنيبهم كلَّ ما يُنغِّص عليهم حياتهم؟
ثم هزّ رأسه في أسى وقال:
ـ إذهبوا بسلام!
وفي ذاتِ يومٍ كان محفوظ يعبرُ الطريق العام غير منتبهٍ كعادته لما حوله. وإذا بسيارة أجرةٍ مسرعة تتّجِه نحوه باندفاع. لم ينتبِه لها محفوظ أو لعلّه انتبه دون أن يعنيه الأمرُ! ولكنّ السيارة توقّفتْ وقد صَمَّ أزيز فراملها آذان المارّة. توقّفتْ أمام الشابِّ المستند إلى عكازه، لا يفصلها عن صدمه أكثرُ من شبر. وأخرج السوّاق رأسه من نافذة سيارته وهو يلعن محفوظ ويسبّه متّهماً إياه بالجنون والبله. التفتَ محفوظ إلى السائق الغاضب فاعتذر إليه ثم قال له معاتباً:
ـ أحرقتَ فراملك! فإنّ السيارة كانتْ ستنحرف عني من نفسها لو لم تُوقفْها!
فمضى الرجلُ بسيارته عن الشابِّ وهو يدمدم في غيظ وقد رُدَّ اللونُ إلى وجهه:
ـ كان يجب أن أصدمك أيها الأبله حتى أقنعك أنك كبقية الناس معرَّضٌ لكسر رقبتك!
إلى أن كان يومٌ كادت فيه أمّ عليٍّ تدلق على محفوظ طست ماءٍ ساخن، من شرفة مطبخها بالطابق الأول، لولا ان انتبهتْ إليه في اللحظة الأخيرة وهو يمرّ بعكازه ولا مبالاته. فقالت لجارتها في البيت المقابل وهي تُعيد الطست مُصفرَّة الوجهِ من الجزع:
ـ كدتُ أسلقُه!
فأجابتْها أمّ حسن بإيمان واطمئنان:
ـ لا تخافي. ما كانت المياه لتُصيبَه.
نعم! لقد بدأ بعضُ الناس يُصدِّقون محفوظ فيما ادّعى لنفسه من حصانة.
منهم مَن كان يقول كأمِّ حسن:
ـ أما كفاه ما أصابه؟ لن يُصيبَه شيءٌ بعدُ! إنه مُحصَّنٌ!
ثم تُضيف في رجاءٍ:
ـ عسى أن يكون ابني حسن كذلك!
ومنهم مَن كان يقول كأستاذ علم الاجتماع والتاريخ بمدرسة الحيّ:
ـ دَأَبَ الإنسان خلال تاريخ تمدُّنهِ على تأمين السلامة له ولأبنائه.
فأبعد الوحوش عن مساكنه. واخترع وسائل لمكافحة الأمراض والحرائق، ولتجنب الكوارث الطبيعية. وشقَّ الطرقات للسيارات ورصف على جانبيها مماشيَ للمارة. ورفع أسلاك الكهرباء عن الأرض على أعمدةٍ عالية. وفَرَض احترام الأخلاقَ والقوانين لكفِّ شرِّ الناس عن الناس، ونشَرَ الوعيَ بإجراءات السلامة العامة، وعمَّم مبادئ الخير والإخاء.. حتى بلغ المجتمع الإنسانيّ درجةً من التطوّر في عصرنا بحيث ينبغي مبدئياً لمحفوظ ـ ولأيٍّ من الناس ـ أن يَنعَم بالسلامة والأمان طيلةَ عمره.
ولكنْ وجد هؤلاءِ مَن يردّ عليهم قولهم، ويُسفِّه رأيَهم:
ـ مهما بلغ المجتمع الإنساني من تطور، فلن يخلو من مجرمٍ ينال الأبرياء بأذاه، أو مُهمِل يُصيبهم بقلة احتياطه، أو جاهلٍ يلحق بهم الضرر بجهله.
إلا أن اعتقاداً غريباً نَبَتَ في حيِّنا، آمَنَ به كثيرون تفسيراً لحصانة محفوظ:
ـ لابدّ أن يكون تطوّر في الطبيعة عقلٌ أو نَبَضَ في مادتها قلبٌ يشعر ـ بعد كل تلك الدهور من أذيتها للإنسان ـ بالرحمة له والرأفة به. لذلك امتنعتِ الطبيعةُ عن أذيّة محفوظ وجنَّبتْه بطشها!
وهزئ البعضُ بهذا الاعتقاد قائلين:
ـ إنّ قوى الطبيعة عمياء وقوانينها لا ترحم ولا تميّز. فإنْ قبضتْ يدُ إنسانٍ على سلك كهربائيٍّ عارٍ سرى التيار في جسده فآذاه دون اعتبارٍ لكونه إنساناً لطيفاً، محبوباً، لا يؤذي أحداً. وإذا داس إنسانٌ بقدمه على قشرة موز فإنه سينزلق وربما كسر رجلاً أو يداً. فجاذبية الأرض لا ترى منه غيرَ وزنه الخاضع لها، وتعمى عن كونه مسكيناً، لا يستحق كسر رجله!
ويواصل أصحاب هذا الرأي قائلين في إيمانٍ وتسليم:
ـ ولكنَّ فوق الطبيعة ربّاً يحمي محفوظ من عبثها ـ ويحمي مَن يشاء!
فيسألهم بعضُ المتشكِّكين:
ـ فلماذا يُصاب الناس إذاً أو لماذا هم مُعرَّضون للإصابات طالما أنَّ فوقهم ربّاً يحميهم!
ـ ذلك لأنَّ الربَّ قد يرغب في تجربة الإنسان ليبلو إيمانه. ولعلَّه كفَّ عن تجربة محفوظ! وعسى أن يكون قد حان الوقتُ الذي يكفّ فيه الربّ عن تجربة الجميع!
ومن الناس مَن رفض كلّ هذه الآراء قائلاً إن محفوظ قد اهتدى إلى طريقةٍ خاصةٍ للاحتراس من الأذى الذي قد يُصيبه، بها يتجنّب ما يتعرَّض له كل إنسان!
تداول الناس في حيّنا هذا الآراء والمعتقدات في محاولتهم تفسير حصانة محفوظ، وأصبح لكل رأي أو معتقدٍ أنصارٌ وأتباعٌ يدافعون عنه ويُروِّجون له.
أما بعض المتشائمين فأكّدوا أنّ الأمر كلَّه لا يَعدو أن يكون انخداعاً بطول سلامة الشابِّ، وأنه لن يطول الوقتُ أكثر من ذلك حتى يُصاب محفوظ بضُرٍّ فتنهار أسطورة حصانته التي نسجها الناس حولَه. وتبقى بعد ذلك الحقيقة المرّة وهي أن كلّ إنسان ـ بلا استثناء ـ معرَّض للحوادث تنهش لحمَه وتكسّر عظامَه وتقضّ مضجعه ـ مهما كان من أمر!
لم يتقبّل الناسُ هذا القول المتشائم نظراً لتطاول عهد محفوظ بالحصانة والأمان. لقد آمنوا بعصمته مهما اختلفتْ تفسيراتُهم لها. وتوافدوا عليه في منزله المتواضع وسط الحيّ يسأله بعضُهم كيف وصلت الطبيعة إلى »قناعةٍ« بتحييده عن مجراها الأعمى. ويسأله قومٌ كيف يُرضي ربَّه فلا يُصيبه بمكروهٍ ولا يُعرِّضه لتجربة. ويسأله آخرون عن طريقته الخاصة في حماية نفسه وتجنيبها الوقوعَ في الأخطار والمكاره.
وكان الشابُّ اللطيف الطيِّب يُجيب كلاً بحسب اعتقاده. فيُغادرُه البعض عارفاً بكيفية انسجامه مع الطبيعة حتى لا يتعرَّض لأذاها. ويودِّعُه آخرون آخذين عنه عبادةً للربِّ وطاعةً له تجعل المرء أثيراً لديه مُحصّناً من مصائبه ومن بلائه معاً. ويشكره رجلٌ على تعليمه إياه طريقته في الاحتراس ممّا يتعرّض له الإنسان في حياته.
وانتشر »تلاميذ« محفوظ في الأرض يبشّرون بما وعوه منه، ويعلّمون الناس ما أخذوه عنه ليحفظوا حياتهم من كل سوء.
* * *
كانت حصانة محفوظ حدثاً عظيماً في تاريخ حيّنا، حتى تساءل المهتمون بالشؤون الإنسانية:
»هل انقضى عهد المصائب والويلات التي كان تنزل بالناس جُزافاً، وبدأ عهدٌ جديد من الأمان؟ هل جاء الزمن الذي طال انتظاره والذي نأمن فيه على أنفسنا وعلى أولادنا في الطرقات كيفما ذهبوا ومهما فعلوا؟«.
وما زال محفوظ يمضي في طرقات حيّنا بهدوئه الواثق المطمئن، متوكئاً على عكازه المبارك، مثالاً للسلامة والأمان.
30 ت1 2003

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق