الثلاثاء، 31 يناير 2012

القسم 7: مشكلة الورقة السادسة المُشطَّبة

الفصل الثاني عشر
_ أنا بَرَقَة. أَقصِد: ورَقة!
مُربَّعةُ الشكلِ أو  مُستطيلة!
ترتيبي الخامسة. لا! بل السادسة!
هكذا كانت تتردَّد المُحاوَلاتُ الأولى للنطق الحبريّ يفُوح من صفحة الورقة السادسة. حتى أنَّ أخَواتها الورقات- الثالثة والرابعة والخامسة- ضَحِكْنَ منها مُتباهياتٍ بطلاقة حبرهنَّ الفوَّاح. 
غيرَ أنَّ أمَّهنَّ- الورقة الثانية– انتهرَتْهنَّ للهُزْء بأختهنَّ، ثم التفَتتْ بإشفاقٍ إلى ابنتها الورقة السادسة مُتأمِّلةً كلماتها المَشطوبةَ بخُطوطٍ عصَبيَّة حادَّة.
وسألت الورقةُ المُشطَّبة أمَّها حائرةً:
_ ماذا بها يا ماما؟ أقصد: ماذا بي؟!
فسارعت الأمُّ التعِسة إلى طمْأَنتها قائلةً بهبَّةٍ قويَّة غالبَتْ بها الغُصَّةَ الحبريَّة التي لم تستطعْ حَبْسَها:
_ ما بكِ شيءٌ يا ابنتي. لا تكترثي لهُنَّ!
ولكنَّ الورقة السادسة أدركتْ أنها مختلفةٌ عن أخواتها، وأنّ بها عَيْباً أو شيئاً ليس بهنَّ. فإنَّهنَّ يتكلَّمْنَ بثباتٍ وبلا تردُّدٍ أو لَعْثمة. أمَّا هي فما إنْ تنطقَ بكلمةٍ، حتى يأخُذَها قلقٌ شديدٌ لا تتخلَّصُ منه إلَّا إذا تراجعتْ عنها أو سَحبتْها لتستبدِلَ بها كلمةً أخرى ترتاح إليها. فلماذا هي هكذا؟ وراحت تُلاحِظ الاختلافَ بين صفحاتهنَّ السليماتِ السطور، وصفحتها المُشوَّهة بالتشطيب يُلغي أكثرَ كلماتها.
وتهامسَتْ أخواتُها مُتغامزاتٍ عليها مُتضاحِكات. فمالت المُشطَّبةُ نحوَهنَّ بتحدٍّ وهي تقول مُغتاظةً:
_ علامَ تظحكنَ؟ أقصد: تضحكنَ!
فأغْرقت الورقاتُ في ضحكٍ ارتعشتْ له صفحاتُهنَّ. ولم تَدرِ الورقةُ المُشطَّبة ماذا تقول رَدَّاً على استفزازهنَّ. ثم اندفعتْ قائلةً للورقة الخامسة – التي كانت أكثرَهنّ ارتعاشاً بالضحك:
_ استحي أيتها الخرقة!
فتقبَّضتْ صفحةُ الورقة الخامسة غضباً لأناقتها. وسَرعانَ ما انقلبَتْ على المُشطَّبة تحاول كتمَ ثرثرتها الحبريّة. فما كان من الورقة السادسة إلَّا أن انتفضَتْ مُتخلِّصةً من ضغط أختها، ثم انقلبَتْ عليها بدورها في حُنْقٍ وشراسة. أما الورقتان الثالثةُ والرابعةُ فقد تعالى تصايُحُهما حولَ الورقتين المُشتبكتين تُشجِّعان أختَهما الأنيقة.. حتى أقبلتْ عليهنّ أمُّهنّ الورقةُ الثانية في فزَع . ففَصَلتْ في جَهْدٍ بين الأُختيْن المُتشاجِرتَين ، ووبَّخت الأخرَيَيْن على تشجيعهما الشجارَ.
وقد جَذَبَ التصايحُ الحبريُّ انتباهَ الكتب على الرفوف. فاتَّجهَتْ نحو المكتب الأحمر فاتحةً دفَّاتها في استطلاع مُندهِش، تتساءل عن الخبر. تطوَّعتْ للإجابة الجريدةُ التي كانت مُلقاةً على طاولةٍ صغيرةٍ أمامَ المكتب. فذاعَتْ رائحةُ حبرها الساخنةُ تقول:
_ وقَعَ شجارٌ عصرَ اليوم بين أخَواتٍ على سطح مكتب. وقد تَبيَّن أنَّ إحداهنَّ التي تُدعَى "السادسة" هي المُعتدية– كما يَشهَدُ بذلك وجهُها الكثيرُ الشطوب والنُّدوب المتخلِّفة– ولا شكَّ– عن شِجاراتٍ لها سابقة!
أما كتابُ "مبادئ علم النفس" فقد انفتح يتشمَّم ويُدقِّق ويُحلِّل حتى انتهى إلى أنْ قال مُفسِّراً سُلوكَ الورقة السادسة:
_ إنها تُعاني من اضطرابٍ سببُه ما تشعُر به من غيرةٍ إزاءَ أختها التي تفوقُها جمالاً وأناقة.
           
تألَّمَت الورقةُ السادسة لتلك الاتِّهامات التي تكاد تُجعِّد صفحتَها بالتشنيع عليها والتزوير، كما ضاقتْ بتلك التفسيرات التي تكاد تشُقُّ صفحتَها عن باطنٍ ليس لها– ولكنْ نَسَبَه إليها الإجحافُ في الحُكْم، والخَطأ في التعليل. وابتعَدت المُشطَّبةُ بتمرُّدٍ إلى طرَف المكتب. فصاحَت بها جدَّتُها الورقةُ الأولى قائلة:
_ ارجِعي يا بنت! وحافِظي على ترتيبك في كُداستنا.
فازدادت الورقةُ إباءً ونُفوراً.
وقالت الورقة الثانية للجدَّة برجاء:
_ رِفْقاً بها يا أمِّي!
ففاحت الورقةُ الأولى بقلَقها:
_ أخشى أنْ يُهدِّدَ سلوكُها ترتيبَنا وتتالينا ، فنُمَزَّق ونُلقَى في السلة وراءَ المخطوطة الأولى!
فردَّدَت الأمُّ وهي تَنطوي في حُنُوٍّ على ابنتها المتَّهَمة:
_ رِفقاً بها!
وحاولتْ ضمَّها إلى مَتْنها لتُهدِّئَ من ارتعاشها العصبيِّ. ولكنَّ الورقة المُشطَّبة نفَرت حتى من أمِّها.

الفصل الثالث عشر
في استلْقائها على طرَف المكتب الأحمر كانت الورقةُ السادسة المُشطَّبة تَسْتَرْوِح ما تتبادلُه عادةً الكتبُ على الرفوف من بَثَّات أحْبارها الطباعيَّة التي تَبُوحُ بمَضامينها.
ولكنَّ الورقة كانت كلَّما تلقَّت بُرهاناً على شيءٍ من كتابٍ مُتحمِّس، عادت فتلقَّتْ دَحْضاً له من كتابٍ آخرَ ناقمٍ!
وإذا غَمَرَها مَدحُ كتابٍ لشيء، أغرقتْها انتقاداتٌ للشيء نفسِه من كُتُبٍ أخرى!
ويَبلغُها الخبرُ عاجِلاً مُثيراً  تنشُره الجريدةُ المفتوحة على الطاولة الصغيرة، ثم لا تلبَثُ أنْ يأتيَها– من صفحةٍ أخرى بالجريدة ذاتها-  نَفيٌ للخَبَر وتَكذيب!
كانت تَمُرُّ بالورقة السادسة تلك النفثاتُ الحبريَّة المُتعارِضة فتَلتمِع لها خطوطُ التشطيب التي تتشابَكُ كالعُروق السُّودِ في صفحتها لاغيةً الكثيرَ من التعابير. ثم مَضَت الورقةُ تستشعرُ بذاك شيئاً كأنَّه الألمُ في أعماق نسيجها حيث تَحفِر خطوطُ التشطيب أثلاماً دقيقةً مُحبَّرة. عانَتْ من ذلك كثيراً دون أنْ تبُوحَ بألَمِها لأيَّة ورقة. وكان الألمُ يَشتدُّ ويَزدادُ حِدَّةً وعُمقاً حتى صرَختْ يوماً بالمكتبة كالمجنونة:
_ غلط. غلط!
التفتَت إليها- نحو المكتب- الكتبُ من فوق الرفوف منزعجةً أشدَّ الانزعاج، بينَما شهَقت الورقةُ الأولى- الجدَّة - في إنكار، وبادَرت الورقةُ الثانية- الأمُّ– فانْثَنَتْ عليها جَزِعةً تُلاطِفُها وتُلامِسُها بحَفيفٍ حنون.
بيدَ أنَّ الورقة المشطَّبة، وقد استفزَّها الألمُ لِما حَيَّرَها من مُعاكَسات، انتفضتْ مُتخلِّصةً من أمِّها وواصَلتْ صُراخَها الحبريَّ الحادَّ:
_ غلط. غلط. غلط!
تجاهلتْها الكتبُ في ازدراءٍ واستخفاف، مُعرِضةً عن الورقة المُشوَّهة الوجْهِ بالنُّدوب والشُّطوب، إلَّا كتاباً في صَدر الرفِّ الأول إلى اليمين عنوانُه "التعليم الدينيُّ للناشئة"  لم يُطِق الصُّراخَ المجنون، فسألها في استهزاءٍ ظاهر وغيظٍ مكتوم:
_ وما هو الغلط؟ وأين هو الغلط؟
فسكتت الورقة قليلاً مُفكِّرةً، ثم أجابتْ بعناد:
_ غلط.. كلُّ ما تقولونه غلط!
فخرَج كتابُ "أسُس الفلسفة"– فوق الرفِّ الثالث إلى اليسار– عن صمتهِ الوقور قائلاً لجيرانه وهو يُشير ناحيةَ الورقة على المكتب الأحمر:
_ مَهما بَدا من جُنون صِياحها ، فإنَّها على حقٍّ في تذكيرنا بوجوب مُراجعة أفكارنا، وتعابيرنا عن أفكارنا، واعتبارها كأنَّها خاطئةٌ تمهيداً لتطويرها!
ثم أضافَ وهو يتنهَّد بَثَّةً مُتحسِّرةً من حبره:
_ ليتَني أستطيع فعلَ ذلك! فإنَّ في المُراجعة مُسايرةً للزمن وإبطالاً لشيخوخة الكتاب وموتهِ!
أثارَ قولُه استياءً عامَّاً بين الكتب، حتى أنَّ كثرةً منها أطْبقتْ دفَّاتها بعُنفٍ احتجاجاً ورَفضاً. أما كتابُ التعليم الدينيُّ فقد ردَّ على الكتاب المُتفلسِف مخاطِباً الكتبَ في تَهَكُّم:
_ لا عتبَ إذاً على ورقةٍ مجنونة!
فوافقتْه غالبيةُ الكتب بتصفيقٍ حَماسيٍّ من دفَّاتها. ولاذَ كتابُ الفلسفة بصمت حكيم.
كانت الكُتبُ قد اطمأنَّت إلى ما هو مَطبُوعٌ في صفحاتها من نُصوصٍ- طبْعاً ثابتاً. وكان بعضُها يفُوح بمَعانيه من آنٍ لآخر، فلا يَلقَى سوى المُوافقةِ من كُتُبٍ تنتظر بدورها المُوافقةَ. فإذا بها تَجِدُ نفسَها الآنَ أمامَ ورقةٍ حديثة العهدِ بالحبر، تَصرُخُ بما يُشبِه جَرَّةَ القلم الشاطبةَ اللاغية!
وعَصَفتْ بالمكتب هبَّاتُ الاستياء والغضب تَلفَحُ الورقةَ السادسة تكاد تُطيِّرها عن سطحه، وأُمُّها القانطةُ– الورقة الثانية– تُغطِّيها بصفحتها لِترُدَّ عنها الهبَّات ما وسِعَها الردُّ.
حتى كان مساءٌ جلسَ الكاتبُ فيه على كُرسيِّه، وراحَ يُرتِّبُ الأوراقَ التي وجَدَها مُبعثرةً على سطح مكتبه. وإذْ عثَرَ بالورقة السادسة ساءَه تشطيبُها الكثير. فتناوَل ورقةً بيضاءَ من كُداسة الأوراق البيضاء عند زاوية المكتب، ثم راح يَنقُل إليها غيرَ المشطُوب من عبارات الورقة المُشطَّبة. بعد ذلك، رفَعَ الشابُّ الورقةَ المُشطَّبة عن كُداستها– وَسْطَ حَفْحَفةٍ فَزِعةٍ لأمِّها وأخَواتِها-  فجَعَّدَها تجعيداً بلا رحمة ، ثم قذَفَها في سلَّة المُهمَلات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق