الخميس، 13 أكتوبر 2011

الحلقة 24: جفري فلتمان الخبير الأمريكي في الضعف الجنسي يُزوّد مرضاه من اللبنانيين بخمسماية مليون حبّة فياجرا


لم تمضِ أيَّامٌ على رفع طاولة القصِّ والتَّفصيل حتَّى دَهَت حمَّامَنا داهية!
قُرِعَ عليَّ البابُ الأكرديونيُّ بينما كنتُ مُلتحماً مع المُعيَّن في مُلاسنةٍ حامية.. رفعتُ رأسي مُنزعجاً أتساءل بصوتٍ غليظ:
_ مَن؟
فجاءني صوتُ صلاح يقول بسُخريةٍ ليست من عادته:
_ لدينا زائرة!
_ زائرة؟
وتبادلتُ مع رجاء نظرةُ متسائلة. فأردف صلاح قائلاً:
_ امرأةٌ تريد مقابلة الزعيم.. تقول إنَّها مبعوثة الحفَّار إليه!

جلستُ على كُرسيِّ التَّشطيف وأنا أُهدِّئ من انفعالي. في حين أسدلت رجاء تنُّورتها ولم تبرح مجلسها على كُرسيِّ المرحاض.

طوى صلاح الباب الأكرديونيَّ وهو يُخاطب شخصاً إلى جانبه:
_ ادخُلي..
دخلت امرأةٌ ترتدي الملاءة السَّوداء. ودخل صلاح وراءها- على خصره السكِّينُ  الفَنْزِوِلِّيُّ. وإذا بالمرأة تقول في احتجاج:
_ هكذا تعاملون الخاطبات!
رمقتها رجاء باحتقارٍ شديد. ثم أعرضتْ عنها تنظر إليَّ في تحريض. حدجتُ المرأةَ في عَداءٍ أكاد آمُرُ بإلقائها من طاقة الحمَّام لولا أن تنبَّهتُ إلى كلمة "خاطبات". فسألتُها بجفاءٍ من غير أن أدعوَها للجلوس:
_ خاطبة؟
فقالت بمُباهاة:
_ أنا الخاطبة الخاصَّة لخليل الحفَّار!
وثبتُ عن الكُرسيِّ صائحاً بها:
_ ماذا تقولين أيَّتُها الوقحة؟
واستلَّ صلاح سكِّينَه.. فإذا برجاء تقف فتقبض على ذراعه وهي تصيح به:
_ مهلاً. ماذا تفعل؟.. (ثم التفتت إليَّ راجيةً).. فلنسمع ماذا يريد خليل. هذه رغبةُ الزعيم!
دهشتُ. ونظرتُ إلى رجاء في حَرَجٍ وهي تدعو المرأةَ للجلوس إلى جانبها على حافَّة المغطس.. تبادلتُ وصلاح نظرةً. ثم خاطبتُ المرأة بغلظة:
_ ماذا يريد ذاك الوقح؟
بدا أنَّ المرأة استشعرت الخطر الذي يتهدَّدها. فتوجَّهت بالحديث إلى رجاء قائلةً بشيءٍ من التردُّد:
_ أنتِ رجاء.. أليس كذلك؟ رأيتُكِ..
قاطعتُها صارخاً بها:
_ قولي ماذا يريد خليل؟
فصاحت رجاء بغضب:
_ دعها تتكلَّم. ماذا بك؟
لم آبه لها. وصرختُ بالمرأة:
_ تكلَّمي معي أنا. ما شأنُها هي؟ ماذا يريد خليل؟
فاندفعت المرأة تقول وهي تعود بالنظر إلى رجاء:
_ إنَّ سيِّدي رأى المُعيَّن إذ افتضح..
استعجلتُها مُتسائلاً:
_ وبعد؟
فقالت المرأة في وجَل:
_ إنَّه يطلب الزواج منه!
انقضَّ صلاح على المرأة. فأمسك بخناقها وهو يسأل مُنكراً:
_ ماذا؟ هل قابله؟
فقالت المرأة بصعوبةٍ وهي تتخلَّص من قبضة صلاح:
_ كلا.. ما رآه قط.. إلا في الصورة!
أدركتُ عاقبة افتضاح المُعيَّن في وجه ذاك الوقح. لطالما خشيتُ من انتشار صورته مُفتضِحاً.. وصحتُ بصلاح:
_ أخرِج هذه القوَّادة من هنا!
فصرخت بي رجاء جَزِعةً:
_ جميل..
_ اسكُتي أنتِ.
ذهب صلاح بالمرأة. وثبتُ إلى الباب الأكُرديونيِّ فأغلقتُه عليَّ بعنف وأنا أدمدم:
_ الوقحة مبعوثة الوقِح!
فصاحت بي رجاء:
_ لماذا أغلقتَ البابَ علينا؟ ماذا تريد؟ الحقْ بصلاح!
برَدَ غضبي. وهتفتُ برجاءٍ وأنا أقتعدُ حافَّة المغطس إلى جانبها:
_ رجاء..
أشاحت بوجهها عنِّي في استياء. فقلتُ لها برقَّة:
_ يا رجاء اسمعيني.. لا شكَّ أنَّ خليلاً الحفَّار تلقَّى الحبوبَ الزَّرقاء من فلتمان!
فالتفتت رجاء إليَّ- وإن لم يُزايل الاستياءُ وجهَها- متسائلةً:
_ أيَّة حبوب؟
فأجبتُها بحماس:
_ حُبوب الفياجرا التي أقرَّ جفري فِلِتمان- الخبير الأمريكيُّ في الضعف الجنسيِّ لدى الرجال- بأنَّه زوَّد بها عدداً من اللبنانيِّين، سياسيِّينَ وصحافيِّينَ وكُتَّاباً!
بدا أنَّها لم تصدِّق إذ سألت:
_ ولماذا هذا الكرم؟
فقلتُ مُستبشراً خيراً في إقناعها:
_ هو اعترف بغايته من ذلك. قال- في خطابٍ له أمام اجتماعٍ لأعضاء نادي الإسطِرِبطيز- إنَّه زوَّد مرضاهُ في الشارع اللبنانيِّ بخمسَماية مليون حبَّة فياغرا قدَّمها في مَضافات البُنبُون على سبيل التَّمويه. وذلك لتحفيز وقاحتهم على المُعيَّن!
أطلقت رجاء ضحكةً سخرت بها من كلامي. فقلتُ لها وأنا أبحث بعينيَّ عن تلفوني الخلويِّ في أنحاء الحمَّام:
_ سأتَّصل بنوَّافٍ الموسويِّ وأسأله. إذ كان صرَّح بأنَّ لدى الستَّارين لائحةً بأسماء الذين تلقَّوا الحبوبَ الأمريكيَّة.. (ثم تذكَّرتُ شيئاً. فتركتُ البحثَ عن التلفون وأنا أقول في خيبة).. لكنَّ الرجُل يأبى إعلانَ الأسماء أن يُقال إنَّ الستَّارين يتَّهمون اللبنانيِّينَ بالزَّعرنة! 
فعادت رجاء تُشيح وجهها عنِّي وتقول:
_ ولكنَّك اتَّخذتَ القرارَ عن الزعيم! هل تحسبُه قاصراً؟
قمتُ في جزَعٍ. فركعتُ إزاءها. وجعلتُ أشُدُّ على رُكبتها بضراعةٍ وأقول:
_ دعيني أُقابله فأشرح له..
وإذا بالفخذ اليمنى، غاضبة، تنتفض مُبعدةً يدي وهي تقول بجفاء:
_ الزعيم مُتوعِّك.
ازدردتُ ريقي بصعوبةٍ ثم تمتمتُ:
_ كنتُ أحادثه قبل لحظات..
فصاحت غاضبة:
_ إنَّه الآنَ يقيء دماً!
نزلتُ إلى الشارع وأنا من الانزعاجِ في نهاية.. أتجاوزه وأتخذ من دونه القرارات.. ويرفض مقابلتي.. يقول حائض ولم يمضِ أسبوعان على حيضه الأخير.. كان يكلمني وفوطة بيضاء على فيه. نسي من أكون. وماذا كان. نسي أنني أنا صنعته. اللبنانيون شيباً وشباناً صاروا من فضاحيه. يوم افتضح في وجه الوقح الذي اتهمه في شرفه كم أشفقت عليه أن يكون مبتلعاً حبة فياجرا. ويوم انقلبت عليه عزيزة وقفت معه. صار له حارستان. ولا يلبس إلا أغلى الكيلوتات. ويحيلك إلى ناهد وكاعب إذا أحس فتوراً عن استقبالك. ناهيك عن غيابه المتكرر عن الحمام بحجة زواجه المنقطع في الضاحية والجنوب. ومساكنته للرتاقين العونيين. وقال مرة راجع عزيزة ثم استدرك وقال تعال. الزعيم الطبيعي.. الدكتاتور.. قالت إنه يحقنها بالهرمونات ويذيب إرادتها في نزواته. رجاء صادقة وقالت متسلط عليها.. رجاء دعي المعين لأزواجه المؤقتين ومساكنيه.. وعزيزة للاحقين بها من الشواذ، وناهداً وكاعباً لهموم الشعب المعيشية، وتعالي إلي. أريدك على مذهب جميل بن معمر.. رجاء أحبك!
هرولتُ يسبقني قلبي إلى الحمَّام. كنتُ قد شطحتُ بعيداً في شارع مونُوه حتَّى غربت الشمس وأُضيئت أعمدة الإنارة.
وجدتُ الباب الأكُرديونيَّ مفتوحاً على غير عادة، واللمبة مُضاءة. شعرتُ ببعض الخيبة. ولكن لعلَّها خرجت لبعض شأنها.. لفتتني المرآةُ بكتابةٍ عليها بأحمر الشِّفاه.. هذا خطُّ يد رجاء:
سامحني يا جميل  لا أملك من أمري شيئاً مع المعين

اتَّصلتُ بفوزي.. لا جواب. ذكَّرني ذلك بموقفٍ قديم. اتَّصلتُ بصلاح.. ما أسرعَ ما جاءني صوتُه العصبيُّ يسأل:
_ ما بك يا جميل؟
قلتُ بصوت حزين:
_ رجاء هربت يا صلاح.. تعال!
اعتمدتُ على المغسلة أتأمَّل على رفِّ المرآة المشط الأحمر الصغير الخاصَّ بالمُعيَّن، وقنِّينة الغَسُول المهبليِّ المُطهِّر، والفُوَطَ الصحيَّة ذات الأجنحة.. وجاء صلاح على عجَل. بادرني يقول في حُنق:
_ ما أظنُّ إلا أنَّ فوزي حرَّضها على الهرب مرَّة أخرى!
فقلتُ له من غير أن أرفع وجهي إليه:
_ بلى. سألتُ عنها شقيقها.. فأكَّد لي ذلك..
_ رستُم غزالة؟
فالتفتُّ إليه أجيبُه بشيءٍ من الارتباك:
_ سألتُه بالتلفون.. في اتِّصالٍ خارجيٍّ. فقال إنَّها..
تجاوزتني عيناه إلى المرآة، فقرأ ما كتبته رجاء عليها. صاح وهو يضربُ المرآة بقبضته. فتنشقُّ من غير أن تتحطَّم:
_ بالمُعيَّن هربا!
وانفتل يركض ويدُه على سكينه المُتدلِّي من حزامه الجلديِّ.. شدَّني الحنينُ بغتةً إلى أمِّي في زقاق البلاط. وكما توقَّعتُ كانت تنتظرني في قلق. فما إن رنَّت المفاتيح في يدي أمام الباب حتَّى فتحته أمِّي بلهفة، واحتضنتني بشوق، في حين وقف أبي وراءها برُوبه الأحمر والأصفر. ورفعت أمِّي وجهها إليَّ، وقالت بعينين مُغرورقتين:
_ تبيتُ عند رجاء في حمَّامها!
لم أُجبْ بكلمة. ولكنِّي دخلتُ مُطرِقاً. أمَّا أبي فسألني مُؤنِّباً:
_ إلامَ تنجرُّ وراء ذاك الزعيم؟ وتجرُّ معك آخَرين أيضاً من أولاد الناس.. ها هو يبيعُكم!
التفتُّ إليه مُقطِّباً في انزعاج. لا بدَّ أنَّه يهزل.. لكنَّه عاد يقول في توكيد:
_ ألم تُشاهد الأخبار؟ المحطَّاتُ كلُّها لا تملُّ من إعادة الخبر: المُعيَّن تزوَّجَ من خليل الحفَّار!
صعقني الخبر. لكن خفَّف من وقعه في نفسي احتمالُ أن يكون مزحةً أخرى سمِجة من مزحات أبي التي يسخر بها من الزعماء كافَّة. غير أنَّني وثبتُ إلى حُجرة الجلوس تسبقُني عيناي إلى التلفاز. في حين اشتبك ورائي أبي وأمي في نقاشٍ مكتوم:
_ لماذا أخبرته فورَ وصوله؟ هلا صبرتَ حتَّى يستريح ويأكل لقمة..
_ حسِبتُه يعرف!
على شاشة المؤسَّسة اللبنانيَّة للإرسال- نقلاً عن قناة المُستقبل: المُعيَّن- بشخصه- يُطبق شِفرَيه على رأس خليلٍ الحفَّار في قُبلةٍ طويلةٍ، ينفصل بعدها الزعيمانِ قليلاً، فيتأمَّل واحدُهما الآخَر بنظرة شوقٍ لا يرتوي، ثم يلتحمانِ كرَّةً أخرى في قُبلةٍ أطولَ من سابقتها- وفي شريط الأخبار أسفل الصورة تتلاحق الكلمات: خليل تزوَّج بالمُعيَّن.. خليل تزوَّج بالمُعيَّن.. خليل..
مادت بي الأرضُ، فارتميتُ على الكنبة. فهُرِعت إليَّ أمِّي جازِعةً:
_ جميل.. حبيبي!
ولحظت أمِّي التلفازَ بطرف عينها. ولكن سرعانَ ما أشاحت بوجهها عنه وهي تتمتم:
_ يا لَلوقاحة!
ومضى المُذيع جورج غانم يقول:
_ "إنَّه زواجٌ طبيعيٌّ- وإنْ كان تأخَّر قليلاً لنزوةٍ عابرةٍ اعترتني". هذا ما قاله خليل الحفَّار تعليقاً على إعلان الزواج المُفاجئ هذه الليلة- قُبيلَ دخوله منْزل الزوجيَّة في الطريق الجديدة. المُعيَّن لم يشأ الإجابة على أسئلة الصحافيِّين. وشُوهد يدخل المنْزل وراء خليلٍ الحفَّار وهو يضع شاشةً بيضاء يُخفي بها وجهه..
تابع أبي كلام المُذيع. ثم نظر إليَّ وأنا أتناول من يد أمِّي- كارهاً- كُوباً من الشاي بالكافُور أعدَّته لي ليُهدِّئ أعصابي- ولسانُ حاله يقول:
_ ألم أقُل لك؟
فوجدتُ نفسي مَسُوقاً للدفاع عن زعيمي- وقد خرج صوتي مبحُوحاً:
_ هذا حقُّه الطبيعيُّ!
في صباح اليوم التالي جلستُ في فراشي وأنا أكاد أجزم بأنَّ كلَّ ذلك لم يكن سوى كابوس. تناولتُ آلة التحكُّم عن بُعد. وأدرتُ التلفاز في خزانة الكتُب- عليها رايةُ حركة الفضَّاحين: المُعيَّن الأحمر بين امتدادين من البياض.. قناةُ الجديد تعرض- في خلال نشرتها الإخباريَّة- تحقيقاً صُحفيَّاً مُصوَّراً:
..إلا أنَّ الغريمين التقليديَّين المُعيَّن وخليلاً الحفَّار تزوَّجا. فهل آنَ للفتنة أن تنتقل من الشارع إلى حجُرات النوم؟ هذا ما سنتبيَّنُه في الأيام القليلة المُقبلة.. (وراح المراسل رياض قبيسي يتمشَّى على الرصيف في بدلةٍ سوداء أنيقة- بيده باقةُ زهُورٍ بيض- ويقول).. كاميرا قناة الجديد ستدخل بكم الآن إلى الحُجرة التي أمضى فيها الزعيمان ليلتهما الأولى. وقد بكَّرنا في الحضور بناءً على إذنٍ أو بالأحرى طلبٍ من السيِّد خليل الحفَّار الذي وعدَنا بحوارٍ معه ومع عروسه المُعيَّن.. (وصعد المُراسل الشابُّ الدرجات- في الخلفيَّة قلبٌ ينبض، وهي عادتُه في تحقيقاته المُصوَّرة).. هذه بناية الأمير بالطريق الجديدة.. وهنا بالطابق الأخير شقَّة العروسين.. (تصوِّر الكاميرا بأعلى الباب عجينةً مُلتصقة.. ويدفع المراسل الباب بيده، ويدخل، فتتبعه الكاميرا: على كنبةٍ مُفرَدةٍ تتصدَّر الحُجرة كان خليلٌ مُتربِّعاً في كيلوتٍ أبيضَ ينتفخ بخُصيتيه الكبيرتين.. (قال رياض هامساً في خلفيَّة الصورة).. لعلَّنا حضرنا باكراً.. هذا العريس لا يزال نائماً.. (وانتقلت الكاميرا إلى طاولةٍ واطئةٍ عليها الشيشة مُترمِّدة الرأس، وصينيَّةٌ فيها ما تخلَّف من طعام العشاء.. عظام الكوارع، ومضافةٌ خشبيَّةٌ من طبقتين: بالطبقة العُليا حلوى المُلبَّس على لوز الذي يُقدَّم للمُهنِّئين، وبالطبقة السُّفلى فوطةٌ حمراء.. بل بيضاء فيها بُقعةٌ حمراء- لبثت الكاميرا تأخذ الفوطة بالتقريب، ثم ارتدَّت عنها بغتةً كأنَّما أجفلت.. وهذا سريرٌ مُزدوجٌ عُلِّقت فوقه صورةٌ كبيرةٌ للعُمدة حُسني مبارك ينظر إلى الأفق باعتزاز.. وتحوَّلت الكاميرا إلى شخصٍ مُتربِّعٍ على طرَّاحةٍ بالأرض- وكانت قد مرَّت به ولم تتوقَّف عنده- مُلتفَّاً بملاءةٍ سوداء تُغطِّيه تماماً. حتَّى الوجهُ ينسدل عليه نقابٌ من شاشٍ أسود.. وسرعانَ ما تركته الكاميرا خطفاً كأنَّما يئست من العثور على فُرجةٍ في لباسه تنفذ منها إلى شخصيَّته مَن يكون.. وعادت الكاميرا إلى الكيلوت الأبيض على الكنبة.. كان خليلٌ قد أخذ يتحرَّك تحت النَّسيج مُستيقظاً حتَّى أطلَّ برأسه المخروطيِّ من فوق مطَّاطة الكيلوت.. فقال له المُراسل مُفتتحاً الحوار بكلمةٍ طيِّبة).. نقول "مبروك" أو "صباحيَّة مباركة"؟..
فاشرأبَّ زعيمُ الصبيان بعُنُقه مَزهُوَّاً حتَّى تمدَّدت بعضُ طيَّاتها المُتراكبة، وقال باشَّاً بنبرةٍ غليظة:
_ بُورك فيك يا ولدي!
وعادت الكاميرا إلى المراسل الذي بدا مُنزعجاً، ولكنَّه دارى انزعاجَه بابتسامةٍ وقال لخليل:
_ أُفضِّل أن تدعوني باسمي- رياض، فأنا ابنُ أبي، ولستُ ولداً لك!.. (ثم سأله بعَجَلةٍ كأنَّما ليستفزَّه).. يقول نجاح واكيم إنَّه بعد حادثة الافتضاح الخطيرة أوعزَ شيخُ البلد المصريُّ أبو الغيط إلى صبيانه في الشارع اللبنانيِّ أن يخطفوا المُعيَّن لك كي تتزوَّجَه بالقوَّة، وتضعَه أمام الأمر الواقع، وتقمعَهُ بعد ذلك بسلطتك الذكوريَّة فلا يَفتضحَ بعد ذلك أبداً!
انتصبَ الحفَّار مُتمدِّداً فوق المطَّاطة، فابتعدت عنه الكاميرا كي تتمكَّن من التقاط صورته في انتصابه، وهتف مُنفعلاً:
_ ما هذا الكلام؟.. (وإذ انتبه إلى الكاميرا سكنَ وارتخى، فتراجع بجِذعه إلى داخل الكيلوت واستأنف كلامه بهدوء).. تزوَّجتُه برضاه. ها هو المعيَّن قدَّامك فاسأله إن شئت.
تلفَّتَ المراسل فيما حوله مُتسائلاً:
_ أين؟
عجِبَ خليلٌ للسؤال، ثم أشارَ إلى الشخص المُتربِّع على الأرض، الغاطس بالأقمشة السوداء.. (وتحوَّلت إليه الكاميرا).. وقال ببساطة:
_ هذا هو!
وبعد لأيٍ انبعث من تحت الأقمشة صوتٌ خافتٌ مخنوقٌ يقول:
_ لا أزيد حرفاً على ما قاله زوجي!
أطفأتُ التلفازَ بعصبيَّةٍ كدتُ أن أسحقَ معها الزرَّ الأحمر في أداة التحكُّم البعيد. وقمتُ أذرَع الحُجرةَ عاضَّاً على أسناني.. كان الحُنقُ يملأني ولا أجد له مُتنفَّساً. هو الزعيم يفعل ما يشاء وليس عليه أن يُخطر أحداً ولا حتَّى أنا.. رجاء.. هل كانت تعرف؟ أم أنَّه فاجأها بقراره؟ لعلَّه أمرها قائلاً: "احزمي ثيابكِ واتبعيني"! ارتميتُ على الكنبة يائساً وقد ذكرتُ أيضاً ما كانت تقوله لي رجاء في علاقتها بالمُعيَّن: "إنَّه يعرف يا جميل- إذا آنسَ منِّي فُتوراً- كيف يضرب على أعصابي حتَّى لَتسريَ القُشَعريرةُ في بدَني للاختلاجة الضئيلة من بظره يقول لي: "أح!".. كيف تزوَّج المُعيَّن من عدوِّه اللدود ذي المُوس الرهيب؟ ماذا عساه يقول لآلاف الضحايا من النِّسوة المختونات؟ هكذا فجأة! أم أنَّ الإثنين كانا يتقابلان في غفلةٍ من الرُّقباء، كما كان الحالُ بين ياسر عرفات وإسحاق رابين قبل أن يطلعا علينا من أمام بيت الأعراس الأبيض بتلك المُصافحة.. هل غَوَى المُعيَّن فوقع في خطأ لم يسعه إصلاحُه إلا بالزواج درأً للفضيحة وطلباً للسَّتر!


لازمتُ الفراشَ أيَّاماً لا أُحصي لها عدَّاً، بين نومٍ قلقٍ ويقظةٍ مريضة، لا أمُدُّ يدي إلى طعام، بل إلى آلة التحكُّم عن بُعدٍ بالتلفاز أتنقَّل بين المحطَّات:
شاشة تلفاز الجديد تُرينا مشهداً جديداً: شاحنات تُفرغ زفتاً في الشارع- وعبير الحلبي تقول:
_ المُرشَّحون للانتخابات النيابيَّة يُزفِّتون الشارع؛ كلٌّ يُزفِّت أمام بيوت ناخبيه استجلاباً لأصواتهم..
وعلى شاشة الشبكة الوطنيَّة للإعلام مَحدلةٌ كبيرةٌ ترُصُّ الزِّفتَ على طول الشارع وصولاً إلى ساحة النجمة- وسعيد غُريِّب يُذيع النَّبأ:
_ الأستاذ نبيه برِّي رئيساً لمجلس النوَّاب..
على شاشة تلفزيون لبنان نبيه برِّي يُصرِّح من على كُرسيِّه الرئاسيِّ- إلى يمينه المطرقةُ على الطاولة:
_ إنِّي أدعو النوَّابَ- الآن- إلى عقد جلسة انتخاب رئيسٍ للجمهوريَّة..
ومن خطاب فخامة الرئيس ميشال سُليمان على شاشة المُؤسَّسة اللبنانيَّة للإرسال:
_ أيُّها اللبنانيُّون. لقد بدأت مسيرة بناء الدولة القويَّة والقادرة، دولة المؤسَّسات. وإنِّي أوصي الحكومة المُقبلة باعتماد آليَّةٍ لتعيين الموظَّفين العمُوميِّين تتجاوز الطائفيَّة وتتيح تكافؤ الفرص. كما أتمنَّى على المجلس النيابيِّ أن يسُنَّ قانونَ انتخاباتٍ عصريَّاً بديلاً عن القانون المُخجِل والمُعيب للعام ألفٍ وتسعمئةٍ وستِّين..
على قناة المستقبل كانت غيدة مجذوب تقول مُستبشِرةً:
_ غالبيَّة النواب ستُسمِّي الشيخ سعد الدين الحريريِّ- ابنِ رجُلِ الدولة الشهيدِ رفيقٍ الحريريِّ- لتشكيل حكومة الوفاق الوطنيِّ كي يُكمل ما بدأه والدُه من بناء الدولة..

لكن على قناة المنار يقول مُذيع الأخبار فلان كأنَّما يتأسَّف:
_ نام اللبنانيُّون- عشيَّةَ الاستشارات النيابيَّة المُلزمة لرئيس الجمهوريَّة- على أنَّ النوَّابَ، في غالبيَّتهم العُظمى، سيُسمُّونَ سعدَ الدين الحريريَّ لتأليف الحكومة الأولى إكراماً لوالده الشهيد. لكنَّ أصحابَ السعادة يزعمونَ أنَّهم استيقظوا صباحَ اليومِ على حُلُمٍ غريب، حُلُمٍ ظهرَ لهم فيه رفيقٌ الحريريُّ وهو يَنهاهُم عن تسمية ولده سعد الدين!.. (يرفع المذيع سمَّاعة التلفون الصغيرة إلى أذُنه ويقول).. مشاهدينا، معنا على الخطِّ النائبُ عن كتلة الإصلاح والتغيير نبيل نقُولا.. يا سعادة النائب هل يُعقَل أن يُحذِّركم الرئيسُ الحريريُّ من ولده؟
يُجيب نبيلٌ قائلاً كالمُتَّهم في صدقه:
_ اسمع منِّي يا أخي ولا تُصدِّقني!.. قال لي الشهيد رفيقٌ الحريريُّ من فمه: يا نبيل إنَّ ولدي سعداً سيُضيِّع إرثي السياسيَّ! 
يسأله المذيع- على وجهه ابتسامةُ تكذيبٍ ساخرة:
_ وماذا رأيتَ أيضاً فيما يرى النائم؟
فقال نبيلٌ عبرَ الهاتف- في صوته التردُّدُ الخليقُ بالكذَّابين:
_ رأيتُ.. رأيتُ إطاراتٍ مُشتعلةً في الطرُقات. رأيتُ.. جَرحَى من الجيش اللبنانيِّ.. حوالَي ثلاثينَ جريحاً. رأيتُ سيَّارة بثٍّ إعلاميٍّ تحترق..
يُقاطعه المذيع مُشكِّكاً وقد ضاقَ صدرُه بالكذب:
_ لكن يا أستاذ نبيل. لم يحدُث قط في لبنان- حتَّى أيامَ كان شارعاً يعُجُّ بالقبضايات- أن أحرقَ أحدٌ سيَّارة إعلاميِّين!
يرتبك النائبُ الكذَّابُ قائلاً بلعثمة:
_ كلُّ زملائي النوَّاب- نجيب ميقاتي ومحمَّد الصفدي وعدنان السيِّد حسين- رأوا ما رأيتُه بعينيَّ..
يسأله مُتهكِّماً:
_ بعينَيك؟
فأجابَ نبيلٌ مُنفعلاً وقد انكشفَ كذبُه بزلَّة لسانه:
_ أقصد أن أقول: في منامي!
فقال له المُذيع مُسترضياً:
_ لا تنفعل هكذا يا سعادة النائب. إنِّي أترك للبنانيِّين تصديقك أم تكذيبك أنت وزملائك النوَّاب. خبِّرنا ماذا رأيتَ أيضاً؟
أجاب نبيلٌ كالمُتحدِّي مُمثِّلاً المجروحَ في شهادته:
_ رأيتُ إعلاميِّينَ مذعُورين يُحاصرُهم رَعاعٌ بالمشاعل وهم يزعقُون: لعيونك يا شيخ سعد!
نظر المذيع كأنَّما يعاتبُ نبيلاً وهو يرسُم بيديه في الهواء مُحيطَ دائرةٍ واسعة- على عادة اللبنانيِّينَ في مُواجهة المُبالغينَ بالكذب:
_ ثخَّنتَها يا سعادة النائب!
فصاح نبيلٌ مُحتدَّاً:
_ أحلف لك..
غيرَ أنَّ المذيع رأى أنَّ يسأله- على سبيل حشو الوقت:
_ هل قال لك الرئيس الشهيد مَن اغتاله؟
فأجاب نبيلٌ بلهجةٍ مُتراجعة:
_ الحقيقة أنَّه لم يقُل..
هزَّ المذيع رأسه كأنَّما يقول للرجُل: "أخيراً نطقتَ بشيءٍ معقول". ثم سأله عفواً:
_ هل قال لك الشهيدُ شيئاً قد ينفعُ التحقيق؟
أجاب نبيل كأنَّما يبحث عمَّا يقوله:
_ مممم.. قال.. قال إنَّه شعَرَ بتحليقٍ لطائرة الأواكس الأمريكيَّة فوق المنطقة. وقال.. إنَّ طائرة أم كامل الإسرائيليَّة كانت دائبةً منذ مُدَّة على تعقُّب موكبه.. وإنَّ المُصوِّر غسَّاناً الجدَّ كان في مُحيط المنطقة.
وإذا بالمذيع يَنزعُ سمَّاعةَ التلفونِ من أذُنه في عصبيَّةٍ كأنَّما يأنفُ من أن تنصَبَّ فيها تلك الأكاذيبُ السافرة. أما أنا فقلبتُ المحطَّة..
على شاشة تلفزيون لبنان كان رئيسُ الحكومة نجيب ميقاتي يتلو في السِّراي البيان الوزاريَّ:
_ لبنان بجيشه وشعبه ومُقاومته..
لكن على قناة العربيَّة كان الأزعرُ السكِّير، حارسُ المواخير في مُلدافيا، أفكدور ليبرمان، يُرقِّص خصرَه بتلك الحركة الوقحة المعروفة عنه- مُتوعِّداً اللبنانيَّاتِ جميعاً، سواءٌ كُنَّ من الطبقات الشعبيَّة أو من الموظَّفات في الحكومة والمؤسَّسات و..
ردَّ عليه قائدُ الجيش اللبنانيِّ العماد جان قهوجي على تلفاز المنار من الجنوب قائلاً:
_ سيتصدَّى جيشُنا للزعران إذا وطِئوا أرضَنا..

أُفٍّ لهذه الرائحة! نهضتُ إلى النافذة المفتوحة. لا بُدَّ أنَّها آتيةٌ من الخارج. ألا ما أخبثَها.. وقبل أن أُحكم إغلاقَ النافذة حضرتني الجملة التالية:
_ أحرِقُوا كلَّ الشادورات في مخازن الستَّارين. وأوقفُوا استيرادَها من المشاغل الإيرانيَّة عبرَ الحدود السُّوريَّة!

كانت هذه الحلقة 24. تليها الحلقة 25: سمير جعجع في معرض البيال: أيَّتها المرأة المسيحية اشلَحِي في الشارع فإنَّ القبضاي الإفرنسيَّ نقُولا سركُوزيه يحميكِ من الزعران

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق