الجمعة، 18 فبراير 2011

الوحش


    يُلقِّبُه زملاؤه في المُستودَع بالوحش، لا لنزقٍ في طباعه أو شراسة- فقد تخلَّى عن ذلك من زمانٍ- ولكنْ لقوَّته وضخامة عضلاته. إذا رأيتَه والحِملُ على ظهرهِ مُثبَّتٌ بحِزامٍ ملفُوفٍ حولَ رأسهِ- شعرتَ أنَّ في بُنيانهِ متانةً، وفي رِجلَيه قُوَّةً،لم تعهَدْهما لإنسان.
وهو معروفٌ- بين زملائه الجُدُد على الأقل- بالطيبة والتسامُح. فإذا تجاهَلَ عليه زميلٌ بتربيتةٍ على القفا، أو إذا عنَّفَهُ صاحبُ المُستودَع على تقصيرٍ ما- قال وهو يزفرُ الهواء من منخرَيه بصوتٍ مسموعٍ- كأنَّما يُهدِّئُ نفسَه:
_ أُريد أن آكُلَ لا أن أرفُسَ النعمة!
وهو يعملُ في هذا المُستودَع تحتَ الأرضِ ببيروتَ من الصباح إلى المساء في إفراغ الشاحناتِ وتحميلها؛ يُلاحقُه المُراقبُ بالسَّوطِ والمِهماز، فلا يسمحُ له بتَلَكُّؤٍ أو حَيَدانٍ. وهو يُطيع المُراقبَ. ويتجنَّبه في جولاته التفتيشيَّة بطُول المُستودَع وعرضهِ- مُلوِّحاً بذنَبه العريض ذات اليمين وذات الشمال، مُكشِّراً عن صفَّينِ من الأسنان المِنشاريَّة، شاهراً على ظهرهِ تلك الزِّعنفةَ المسنُونة حتى أنَّ الوحشَ يعُدُّ نفسَه محظوظاً إذا نجا من فكَّيه الرهيبَين أن ينهشَ منه فخذاً أو خاصرة. ولا يجدُ الوحشُ بعضَ الراحة سوى في المرحاض الضيِّق يَنْزَربُ فيه من آنٍ لآخر، ثم يشُدُّ السِّيفُونَ وهو يتنهَّدُ- بينما وراء الباب المُغلَق كان عاملُ التنظيف العجوزُ يُخيَّلُ إليه أنَّهُ يسمعُ صهيلاً حزيناً. 
ويُطلقون للوحش العِنانَ في الخامسة مساءً. يصعد إلى سطح الأرض. يمشي في شوارع بيروتَ مُتثاقلاً مُنكَّسَ الرأسِ والنَّفس، يتساءلُ "أين ما كنتُ اعتزمتُ تنفيذَه من رغباتٍ جمحت بي أثناء اليوم فأجَّلتُها؛ وثباتٍ مرِحةٍ تحتَ سماء لا يحُدُّها سقفٌ من الباطون، عَدْوٍ في سُهولٍ لا نهايةَ لها، استلقاءٍ على العُشب الأخضر الطَّريِّ،..". الحقُّ أنَّ فوقَ ظهرهِ أحمالاً من التعب تراكمت عليه ممَّا حمله في يومهِ، وأنَّ ساعاتِ الدوام قد استطالت بأعصابه حتى قطَّعتْها، فلم يبقَ من الوحش سوى جسدٍ ثقيلٍ يرغبُ في الارتماء أرضاً!
عند مدخل البناية في البربير- حيثُ يقطُنُ الوحشُ- يتمرَّغُ بعضُ المُتسكِّعينَ في حُفرةٍ من الوحلِ أمامَ مَلحَمة. ها هم يتغامزون عليه إذ لمحُوه قادماً. واللحَّامُ- ذاك الأضخمُ جُثَّةً والأغلظُ خَطماً الذي يذبحُ البشَرَ ويُطعمُ لحمَهم للحيوانات- انحنى يلتقطُ حجراً أو لعلَّه تظاهرَ بذلك.. تجاهلَهم الوحشُ لدى مُروره بهم في طريقه إلى دَرَج البناية. فحَثَّ خُطاهُ خافضاً رأسَه. وإذا بهم يَنخرُون ساخرين! ارتبكَ الوحشُ في مِشيتِه وهو يلحظُ أحدَهم يُشيرُ بظِلفٍ إلى مُؤخَّرته كأنَّما يلفتُ النظرَ إلى سَوءة! ورماهُ اللحَّامُ بالحجر فأصابَ ساقَهُ، فهروَلَ لاهثاً مُدلِّياً لسانَه. وارتفع قُباعٌ وراءه يقول:
_ أسَمِعتمُوهُ ينبحُ مُتوجِّعاً وهو يهربُ، ذَنَبهُ بين رِجلَيه!
فتحت له زوجتُه البابَ. دخلَ واجماً وهي ترقُبه بعينَينِ ضيِّقتين ماكرتين. ولكنَّها لم تأبهْ به وبادرته:
_ املأ صفائحَ الماء، وابدل جرَّةَ الغاز.
فقال لها باقتضاب:
_ التقيتُ به.
التفتت إليه وهي تتلوَّى من الغيظ. فأضاف الوحشُ يقول بصوتٍ غليظٍ شاكٍ:
_ تعرَّضَ لي هو وأصحابُه.. فلم أرُدَّ عليه امتثالاً لانتهارك!
فأجابتْهُ بفحيحٍ خبيث:
_ دعهُ يفعل ما يشاء حتى يحينَ موعدُ المُحاكمة. لن يجُرَّنا إلى ردٍّ قد يُضعفُ موقفَنا في القضيَّة.
فقال لها الوحشُ بنبرةٍ باكيةٍ مُزعجة:
_ يَثقُل على ظهري أن يُهدِّدَ هذا الخِنْزِيرُ زوجتي ولا أفعل شيئاً سوى انتظار حُكمِ كسلان الغاب.. كيف ينظر إليَّ الببَّغاوات والقُرود الذين لا يعرفون أنَّكِ أنتِ مَن يربطُني عنه لحكمةٍ ترَينها في القانون.. بل كيف تنظرين إليَّ أنتِ؟
مدَّت لسانَها المُنشطِرَ ثم ردَّته- شأنُها إذا اشتمَّت مُعاندةً فأحمى الغضبُ دمَها البارد. أدرك الوحشُ ذلك ولكنَّه أصَرَّ هذه المرَّةَ على الجدال. فعاد يسألُ بإلحاحٍ وقد حَرِنَ عند باب المطبخ:
_ النِّظرة هي كلُّ شيء. كيف تنظُرين إليَّ أنتِ؟
كانت تنسحبُ إلى الداخل بجسمها الطويل- تلتمع حراشفُها الشقراء تحت لمبة المدخل. فإذا بها ترتدُّ إليه هائجةً فاغرةً فاها لتلسعَه بنابَيها المسمُومَين. بيدَ أنَّها تراجعت في اللحظة الأخيرة. ثم اكتفت بأن فَحَّتْ به وهي تشُدُّهُ بأُذُنه الطويلة نحوَ المطبخ:
_ أتعبتَ أعصابي. كُفَّ عن النَّهيق، واحمل الصفائحَ والجرَّة!
فانقاد ليدها مخافةَ أن تضربَه بذَنَبها على مُؤخَّره. ولكنَّه رفسَ بابَ المطبخ برِجله الخلفيَّة تنفيساً عن سُخطه.
          *              *                *
وفي يومٍ من أيَّامٍ كثيرةٍ تالية، كان الوحشُ وزملاؤه جاثمينَ فوقَ الأرضِ أمام باب المُستودَع يمضغون العلَفَ، ويُلوِّحون بأذنابهم لطرد الذباب. ويُوسِّع الوحشُ منخريه ليملأ صدرَه بالهواء النقيِّ، الآتي- كما يحلُو له أن يعتقدَ- من البراري البعيدة. ثم ينهضُ على أربعٍ يُحمحم ويَصهَل ويضربُ الأرضَ بحافره في جَزَع، مُقلقاً زملاءه- وهم في واقع الحال إخوتُه من أُمِّه. وكانت شمسُ الظهيرة تسطعُ في الشارع المُزدحم بالسابلة الذين اختلط ثُغاؤهم بوقع أظلافهم. 
وساد فجأةً سكونٌ غريبٌ، رهيبٌ، تستشعرُ له النفسُ خوفاً مُبهَماً. التفَتَ الوحشُ.. فرآها- تَطأُ الأرضَ بخُطى المالكِ الذي لا يُنازعُه على مُلكه أحدٌ. وتمسَحُ ما حولَها بنظرةٍ آسِرة. وإذا بعينيها تثبُتانِ على الوحش من دون الجميع. وتوقَّفت فواجهته. ثم تراجعت كأنَّها تتحفَّزُ للوثُوب. ولكنَّها استدارت عنهُ، لا بل أحسَّ الوحشُ أنَّها استدارت له. فانحنت على الأرض.. ها هي تُوطِّئُ له ظهرَها عارضةً عليه أُنوثتَها..
_ رن رن رن رن..
دوَّى جرسُ المُستودَع يُعلنُ انتهاء استراحة الغداء. انتصبت هي كأنَّها أجفلت. ثم عَدَتْ حانقةً مُزمجِرةً- رافعةً ذيلَها.
تفتَّحت في باطن الوحش بريَّةٌ من سهولٍ واسعةٍ، مفروشةٍ بالعُشب الأخضر، وتعلوها سماءٌ زرقاء.. توَثَّبَ للَّحاقِ بالأنثى الفاتنة. وإذا بحافرٍ ينحطُّ على كتفه. أخذهُ غضبٌ شديدٌ. وما يدري إلا وكفُّهُ تنتفضُ فتضربُ قائمةَ أخيه بشراسة! فتحَ الأخيرُ فمَه بأنكر الأصوات من الألم كما فعلَ بقيَّةُ الإخوة وهم يردِّدونَ النظرَ بين قائمة المسكين المُخطَّطة بخمسة جُروحٍ مُتوازيةٍ دامية، وكَفِّ الوحشِ الغليظة المُسلَّحة بمخالب مُعقَّفة!
وانطلق الوحشُ يعدُو وراء أُنثاهُ وهو يُزمجرُ.
بلغ المُنعطَفَ الذي اختفت وراءهُ حيثُ ترتفعُ بنايةٌ عالية. تشمَّمَ وتشمَّمَ حتى أنبأتْهُ زاويةُ البناية بأنَّها مرَّت من هُنا فارضةً سيطرتَها على المنطقة، وأنَّها مُستعدَّةٌ للنُّكاح! جرى الدَّمُ في عُروقِ الوحشِ مُلتهباً بالنَّزوة. فاندفعَ في أزِقَّةٍ قد ذهلَ بها السابلةُ من هَولِ المُفاجأة، فتجمَّعُوا بعضُهم إلى بعضٍ وقد كفُّوا عن الثُّغاء. توقَّفَ الوحشُ عند بركةٍ اصطناعيَّةٍ جافَّة: أين هي؟ تلفَّتَ وتلفَّتَ حتى انتفشَت لِبدتُه من حول رأسهِ.. وإذ لم يجدها.. "ورَدَ الفُراتَ زئيرُهُ والنيلا".
تخبَّطَ الوحشُ لا يدري ماذا يفعل. رغب في تمزيق شيءٍ ما. أحسَّ بفراغٍ مُزعجٍ بين أنيابه..
وإذا بباصٍ للركَّاب يلوحُ له- في الشارع العريض- ماضياً باتِّجاهٍ مألوف.
وثبَ الوحشُ وثبةً عاليةً نحو أعلى الباص. ثم حَطَّ على سقفهِ بقائمتَينِ يكسُوهما الريشُ. فتشبَّثَ به ببراثن جارحة. وطوى جناحَيه إلى جنبَيه. ومضى الباصُ مُسرعاً بالوحش عبرَ الشوارع- عيناهُ المُستديرتانِ تقدحانِ شرراً، وهو يفتح مِنقارَه المعقُوفَ بزعيقٍ تردَّدَ بين الأبنيةِ عالياً، مُسيطراً.
أفلتَ الوحشُ الباصَ إذ بلغ مقصدَهُ.
ارتطمَت حَوافرُه المشقُوقةُ الأربعةُ بأسفلت الشارعِ في ثِقَل. ولكنَّهُ لم يتوقَّفْ لحظةً بل واصلَ اندفاعَه مُثيراً خلفَه الغُبارَ في ضجَّةٍ صاخبة. تراءت لعَينَيه المُحمرَّتَين الملحمةُ ببابها الزجاجيِّ العريض.. خفض رأسَهُ، ثم.. طاخ!
نَخَرَ اللحَّامُ مُرتعداً إذ تساقطت عليه شظايا الزجاج. وكانت تتدلَّى وراءه من الكلاليب ذبائحُ من ضحايا غِيبته ونميمته. وأمامَه على الوَضَمِ تنطرحُ فتاةٌ في مُقتبَل العمر، قيلَ في الحيِّ إنَّها تلقَّت أمسِ من سكِّينه طعنةً في عَفافها. وها هي الدماءُ تسيل من بين فخذَيها- بينما كان هو يُحِدُّ السكِّينَ ليقتطعَ من لحمها ويبيعَ للحيوانات من الشامتين والمُتشفِّين والطامعين. ثم أفاقَ اللحَّامُ من ذهُوله ليجدَ إزاءَ وجههِ رأساً مُتضخِّمَ القَسَمات، يُشيرُ نحوه بقرنَين أسودَينِ حادَّين! ويقول له الوحشُ كقاضٍ يقرأ التُّهمةَ على المُذنب قُبَيلَ إصدار الحُكم:
_ أنتَ لقَّبتَ زوجتي بالأفعى، وتوعَّدتَها بسَحق رأسها.
وقبلَ أن يفقهَ اللحَّامُ للخُوار معنىً- رأى الرأسَ الأقرنَ يتراجعُ قليلاً.. طاخ!
           *               *               *
عند مُلتقى الشوارع العريضة، بُعَيدَ مُنتصَف الليل، وقف الوحشُ وحيداً في الظلمة الشاملة. ولمَّا سَطَعَ من بعيدٍ مصباحا سيَّارةٍ قادمة برقت عيناه الطوليَّتان، ورفع رأسَهُ شادَّاً أُذنَيه إلى الوراء، وفتح فمَه المُستطيلَ مُطلقاً عُواءً ممطُوطاً حزيناً.
                آب 2006


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق