الجمعة، 11 فبراير 2011

الأسفلت

انتشر نبأُ مقتلهِ في الحارة كالنار.
التهبتْ دماءُ الفتيانِ الذين يَذرعُون الطرقات الخاليةَ إلا من صيحاتهم وطقطقة إكلاشيناتهم.
وصرخَت الحناجر المُخشَوشِنة:
_ قتلوه.. " هُم "!
واستنفَرَ الفتيان بعضُهم بعضاً، مُتبارينَ في إظهار الاستنكار الشديد للجريمة، والغضبِ، وأصالةِ الإحساس بفقد الرجل الذي طالما تقدَّمَهُم في نهب "بيوتهم".
وارتفع صوتٌ من بينهم صارخاً:
_ تعالوا ننتقمْ له!
تلاقت الأعينُ في تقطيباتٍ بالغة. ثم أشارت يدٌ إلى بنايةٍ في آخر الطريق داخلَ زاروب ضيِّق:
_ هناك يسكُن ناس "منهم"!
وفيما يُشبِهُ الاتفاقَ على لعبةٍ والحماسَ إلى المُشاركة فيها، تصايَحَ الفتيانُ وهم يُخرطِشُون بنادقَهم. ثم انطلق بعضُهم نحو البناية المُشار إليها. ولحق بهم الآخرون.
انهالت الأقدامُ الغاضبةُ على باب الشقة العُليا تركلُه بإصرارٍ- وخَشَبُه يرتجُّ مُطقطقاً مُعانداً، في حين تعالى من ورائِه صراخُ نسوةٍ مذعورات. ثم انفتح البابُ مُنخلعاً مُتخلِّياً. فاندفعَت إلى الداخل بنادقُ كثيرة تَشُقُّ لها السبيلَ صيحاتُ تحريضٍ مُتبادَلة.
تصَدَّتْ للمُسلَّحينَ امرأةٌ بوجهٍ شاحبٍ وعينَينِ مجنونتينِ وهي تقول بنبراتٍ حاوَلَتْ جهدَها أن تخرجَ من حَلقها الجافِّ مُلطَّفةً مُتودِّدة:
_ أهلاً.. ماذا تُريدون.. يا أولادي؟
ارتفعت اليدُ بالبندقيَّة- تلك اليدُ التي أشارت من الطريق إلى البناية- وصاح صاحبُها بسِحنةٍ ناشفةٍ بشِعة:
_ أين إباء.. يرتكب جريمته ويختبئ!
ثم التفت إلى رفاقهِ كأنه يُؤكِّدُ لهم معقوليَّة اتِّهامِه. فصرخَت الأمُّ بنبرةٍ باكيةٍ يائسة:
_ أية جريمة..؟
وصدَرَت عن غرفةٍ داخليَّة دمدمةُ عراك. ثم فُتِح بابُها عن فتىً تعلَّقتْ بخاصرتهِ فتاةٌ مذعورةٌ تلهَثُ وهي تُحاول منعَهُ من الخروج. إلَّا أنَّ الفتى قال للمُسلَّحينَ وهو يُنَحِّي عنه أختَه برِفق:
_ أنتم! كيف تدخلون هكذا؟ وماذا تريدون؟
بعَثَ ظهورُه غضباً جنوبيَّاً في الفتيان حتى أنَّ بعضهم ممَّن كانوا مُتردِّدينَ على عتبة المدخل اندفعُوا نحو الفتى وهم يسُبُّون أمَّه وأختَه.
وصوَّتت الأمُّ. وصرَخَت الأختُ إذ تلقَّتْ لطمةً أجبرتها على ترك أخيها للأيدي تجذُبُه بغِلظة.
وصاحت الفتاةُ بأمِّها كالمفجُوعة:
_ سيقتلونه يا ماما.. يغارون منه.. كانوا دائماً يغارون منه!
لكنَّ الأمَّ المسكينة لم تستطع أن تخترقَ ما بين الأجساد الفتيَّة. وضاعت تَوَسُّلاتها الفَزِعة في الصخَب وابنُها الوحيد يُجَرُّ ويُدفَع في عُنفٍ إلى خارج الشقَّة.
نزلُوا به الدَّرَجَ وصُوات أمِّه وأختِه يملأُ البنايةَ استغاثاتٍ أطلَّ لها الجيرانُ من الأبواب مُستطلعين يُحدِّقون.
في الطريق بين البناياتِ الصامتة اخترَقتْ رصاصةٌ عُنقَهُ.
فتدفَّق الدمُ القاني، وسالَ على النَّحر الوضيء.
ثم تعفَّرَت الوجنةُ الورديَّة على الأسفَلت.                                         آب 2004   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق