الأحد، 6 فبراير 2011

السكين/ قصة قصيرة

 هبَّت ناهدةُ من استرخائها على السرير.
هبَّت بغتةً برغبةٍ طارئة.
أزاحت عنها الغطاءَ الرقيقَ المُوشَّى بأزهارٍ صغيرة. وانتصَبت واقفةً في وسَط الحُجرة بقميصها ذي اللون البرتُقاليِّ الفاقع الذي لم يستطعْ رغمَ اتِّساعهِ أن يُخفيَ اكتنازَ صدرها وورِكَيها.
كانت أشعَّةُ شمسِ الضحى تملأ حُجرةَ النوم، تتدفَّقُ إليها من زجاج النافذة المُغلقة المُطلَّة فوقَ السُّورِ على الشارع الصاخب بهدير السيارات وأبواقِها وصياحِ سوَّاقيها المُتنازعينَ أبداً على حقِّ المرور.
أما في هذه الحجرة فقد كان الهدوءُ راكداً كماءٍ محصورٍ بين صخرتَينِ إلى جانب نهرٍ دافقٍ هدَّار.
أن تكتبَ شيئاً ما- تلك كانت رغبتَها الطارئة، شيئاً تشعُرُ أنه مكبوتٌ في أعماقها يبحثُ عن تعبير.
فتحت دُرج تسريحتها تُريد قلماً وورقة. لم تجدْ سوى أقلام حُمرةِ الشفاه، وكُحلِ العينين، وتخطيط الحاجبَين. أطبقتهُ في عصبيَّة. وفتحَت الدُّرجَ الثاني. امتدَّت أصابعُها ترفع ملابسَها التحتيَّة المطويَّة. فإذا بها تعثُرُ على سكِّين حديديِّ المقبض، طويل النصل. وتمثَّل لها- بمثل الصدمة- صاحبُه: يداً قاسيةً، وعينينِ مُتوحِّشتينِ، وصوتاً محمُوماً آمراً:
_ كوني عاقلة وتعالي معي.. لن أُؤذيكِ إلا إذا..
ولكنَّ صُراخها يومَ ذاك جمَعَ على المُعتدي رجالاً كثيرين- فكُّوا عن صدرها قبضتَه، وانتزعُوا السكِّينَ من يدِه. ولاحقاً في ذلك المساء تسلَّم أبُوها- مُختارُ المحَلَّة- هذا السكِّينَ الذي أصرَّت هي على الاحتفاظ به في حُجرتها.
ذكرت ناهدةُ كلَّ ذلك وهي تُمِرُّ ظُفرَها المَطليَّ بالأصفر القويِّ على طُول النصل اللامع- في هدوءٍ يُناقضُ فظاعةَ الذكرى.
ثم سَحَبت يدَها في نفاد صبر. وأغلقت الدُّرجَ بعُنفٍ اهتزَّت له المِرآةُ التي كانت تعكسُ صورةَ فتاةٍ رائقةِ السُّمرةِ، ولكنَّها مُتعكِّرةُ المِزاج، مُتشعِّثةُ الشعرِ، عابسة.
جالت بنظرِها في الأنحاء وهي تنفُخُ في غيظ. بدَت لها الحجرةُ ضيِّقةً كما لم تَعهَدْها من قبلُ.. أضيقَ من أن تتَّسعَ لقلمٍ وورقة!
ووثبَتْ إلى الخزانة تفتِّشُ في أدراجها ورفوفها. حتى في جُيوب ملابسها دسَّت يدَها المُتلهِّفة، على عِلمها بأنها ليست ممَّن يحتفظونَ بالأقلام في جُيوبهم.
والتفتت ناحيةَ الباب. فهمَّتْ بالمُضيِّ إليه. إلَّا أنها كرِهَتْ فجأةً أن تُواجِهَها أمُّها بابتسامتها المُسترضية، وأسئلتها المُتلطِّفة التي تستفزُّ عصبيَّتَها دون سببٍ واضح.
ولكن لا قلمَ في الحجرة، ولا ورقة!
أُفٍّ أُفّ!
وزادَ من حُنقها أنها فكَّرتْ لحظةً في التخلِّي عن رغبتها بالكتابة.. رغبةٌ سخيفة.. كلا! ووجَدت نفسَها تتَّجِهُ نحو التسريحة كرَّةًَ أخرى. فتفتح الدُّرجَ وتستخرج قلمَ أحمر الشفاه. تبرُقُ عيناها وهي تنظُر إليه بين أصابعها. وتتلفَّتُ حوالَيها. أين أَكتُبُ.. أين؟
استوقَفَ نظرَها شرشفُ السرير الأبيض. فكَّرت قليلاً. أضاء وجهُها فرحاً وتشفِّياً. سرَّها أن تُخرِج أمَّها عن هدوئها البغيض إذ تكتشف شرشفَها العزيزَ مُلطَّخاً بالأحمر!
ألقَت ناهدةُ بنفسها على السرير في شيطنة- آخذةً في يُمناها بالقلم الأحمر الغليظ. وراحت تُسوِّي الشرشفَ بيُسراها كأنَّها تبسط صفحةً جديدة. ولكن ماذا تكتب؟.. وعمَّ؟.. عن الحُب.. كما كانت زميلاتُها بالمدرسة يكتُبنَ فتضحك منهنَّ.. نعم! عن الحُب.. وطالَ جمُودُها. أبَتْ أن تستسلمَ للخيبة التي أحسَّت بها تنسدِلُ على وجهها. وضاقت فجأةً بهدوء الحُجرة. فقامت إلى النافذة وفتحتها لصخَب الشارع. ثم عادت إلى السرير. فتمدَّدت على الشرشف.. وقامت بعصبيَّةٍ مرَّةً أخرى فأغلقت النافذة. تريَّثت عندها تنظر إلى الشارع. أحنقَها الهدوء الذي عاد فجثَم في الحُجرة. فتحت النافذةَ على مصراعَيها، ورجعت إلى الشرشف- يُشاركُها الكتابةَ السبابُ الفاحشُ لبعض السوَّاقينَ.. رفعت قلمَ الأحمر إلى فيها. وأطبَقَت على طرفهِ شفتَيها الرقيقتَين، عاقدةً حاجبَيها، مُرسِلةً بصرَها إلى آفاق دخيلتها. راحَت الصُّورُ تتتابع أمامَها وهي تتذوَّقُ طعمَ الأحمر الذي بدأ بالذوَبان على لسانها..
وإذا بها تُطلق آهةً من أعماقها. ثم تهوي على الشرشف الأبيض بالعبارة الحمراء التالية:
لو كان الحُبُّ سِكِّيناً لَقتلتُ نفسي كُلَّ يوم!                           نيسان 2005


هناك تعليق واحد:

  1. الصديق الكاتب عصام حمد ..

    قصة جميلة .. مليئة بالتفاصيل الرائعة ...
    وتلقيك على عبارة بدت كجوهر القصة ..
    لو كان الحب سكيناً ..لقتلت نفسي كل يوم !!
    تحية لك

    ردحذف