الأحد، 13 فبراير 2011

طبق البطاطا/ قصة قصيرة

رجع حامدُ بعد الظهر من عمله جائعاً، لم يذُقْ لقمةً منذ الصباح. فحيَّا زوجتَه المنهمكة في المطبخ بإعداد طعام الغداء. ومضى إلى الحمّام فاغتسل في عجلةٍ، ثم هرول إلى حجرة السُّفْرة.
شعر بالخيبة في بطنه إذ وجد طاولة السُّفرة لا تزال خالية من الأطباق المملوءةِ طعاماً. فجلس على كرسيِّه إلى الطاولة مُوصياً نفسَه بالصبر حتى تفرغ امرأتهُ من إعداد الطعام في المطبخ.
وبلغت أنفَه رائحةُ قلي البطاطا، أكلتِه المُفضَّلة. فاتَّسع مَنْخِراه وهو يتشمَّم. وتحلَّبَ ريقُه. وتقلَّصتْ معدتُه تقلُّصاً مؤلماً كأنها تستصرخُه لِمَلْئها بالطعام. فاتَّجَه برأسهِ ناحيةَ البابَ المفتوحِ على الممشى المؤدِّي إلى المطبخ. وهتف بالمرأةِ جاهداً في تنقية نبراته من كلّ أثرٍ للاحتجاج أو نفاد الصبر:
ـ متى تأتين إلى جانبي؟
ويبدو أنها فَقِهَتْ مقصدَه. فَرَدَّتْ عليه رافعةً صوتَها فوق وَشِّ المَقْلى:
ـ اطمئنّ. لن يطول اشتياقُك إلى الطعام!
هكذا كانت دائماً، صريحةً حادّة. بيد أنها جميلة. وهو يُحبّها ويتجنَّبُ إثارة غضبها. أما مهارتُها في الطهْي فيشهد بها خدّاه الريّانانِ، وكرشُه الآخذة في الانتفاخ.
حاول أن يتسلّى عن جوعهِ بالنظر في رسومٍ على غطاءِ الطاولة المُشمَّع تُمثِّل فاكهةً مختلفةَ الألوان. ولكنَّ ذلك ضاعَفَ من إحساسهِ بالجوع. ومَدَّ يدَه في دُعابةٍ إلى عنقودٍ من العنب مُحاولاً اقتطافَه من غصنِه المرسوم على الغطاء. ولكنْ من دون جدوى! ثمّ عَبَسَ نافخاً في غيظ.
وأخيراً جاءتِ المرأةُ بطبقٍ كبيرٍ من شرائح البطاطا المقليّة. فوضعتْه في وسط المائدة قائلةً:
ـ بقي عليَّ تحضير السلطة.
ثم هرولت إلى المطبخ وهي تمسح كفَّيها بالمريلة على بطنها.
أضاء وجهُ حامد بالبهجة وتلمَّظ وهو يُحدِّق في الطبق يتصاعد منه البخار الحار. إلاّ أنه لم يجرؤ على مدِّ يده إليه. فإنّ هذه الحركة البسيطة كثيراً ما جرَّتْ عليه خلافاتٍ لا نهاية لها مع زوجته:
ـ ألا تعرف أنه من قلة الاحترام لي أن تبدأ بالأكل قبلي؟!
فالخير له أن ينتظرها صابراً متصبِّراً، وأن يكتفي في انتظارها بمصِّ شفتيه وبلع ريقهِ المتحلِّب. ولكنْ متى تنتهي المرأةُ من تحضير السلطة؟
هاهي تتعجَّل بخطواتها الرشيقة آتيةً بربطة الخبز والمملحة. فتضعهما على المائدة إلى جانب طبق البطاطا، مُلقيةً على الرجل الجالس نظرةً باسمةً تدعوه إلى الصبر، قبل أن تعود إلى المطبخ مرة أخرى.
لذَّ لحامد أن يتخيَّل ما كانتْ ستفعله لو لمحت يدَه تحاول الامتداد إلى الطعام أو لحظتْ فَمَه يتحرَّك بالمضغ. إذاً لتحوَّلتْ تلك الابتسامةُ عبوسةً واكفهراراً، وانقلب سكوتُها الراضي زعقاً وسُخْطاً!
ولكنه كان لا يزال يرمق الطبق باشتهاء؛ شرائح مستطيلة صفراء تفوح منها رائحة الإغراء الساخن. وحدّثتْه نفسُه بأنْ يروض جوعَه بشريحةٍ صغيرة واحدة تهدِّئه حتى مجيء المرأة وبدْءِ الأكل.
التفتَ ناحيةَ الباب. طمأنتْه طقطقةٌ آتيةٌ من المطبخ إلى غياب المرأةِ لحين. بسرعةٍ مَدَّ يدَه إلى البطاطا. التقط بإصبعيه شريحةً ساخنةً. وما رفَعَها إلى فيه حتى شعر بزوجتهِ واقفةً عند الباب تنظر إليه!
ضبطتْه. ما في ذلك شكٌّ.
لم تلتقِ عيناه بعينيها، ولكنه شعر بأنها تغلي من الحنق. كان من الحكمة أن يزدرد الشريحة حتى قبل أن يُتمَّ مضغَها، وأنْ يتراجع عن المائدة بصمت المُعترفِ بالذنب مُتمنِّياً أن تُغضيَ المرأةُ عن تجاوزه. إلاّ أنّ حامداً ـ وقد استفزَّه الجوعُ الثائرُ ـ واصَلَ الأكلَ هذه المرّةَ دون أنْ يلتفت إليها، ولكنْ بلا شهيّةٍ ولا طعم. تقدَّمتِ المرأةُ منه في هدوءٍ كالتوثُّب. ثم قالتْ بصوتٍ مُنذرٍ بالانفجار:
ـ ألا تنتظر حتى آتيَ فنأكلَ؟
فأجاب وهو يتناول شريحةً أخرى وقد جفَّ ريقهُ بتوقُّع معركة:
ـ تقصدينَ: حتى تسمحي فآكلَ!
ذهلت للهجةِ الجديدة. فجمدتْ تنظر إليه. ولكنَّ استمرارَه في الأكل بتلذُّذٍ وتحدٍّ ـ كما بدا لها ـ أطارا عقلها فضربتْ بيدها الطبق فانقلب عن الطاولة وتناثرتْ شرائح البطاطا على الأرض. وصاحتْ به.
ـ لا تأكُلْ وأنا أكلِّمُك!
تلقّى حامد ذلك بهدوءٍ ظاهرٍ وهو يُداري ارتعاداً من صياحها. ثم تمتم في تسليم:
ـ لابدّ مِمّا ليس منه بُدّ!
وقام عن كرسيِّه فانحنى وتناول الطبق المقلوبَ الذي لم ينكسر لحسن الحظ، وراح يلتقط شرائح البطاطا المتناثرة على الأرض ويُعيدها إلى الطبق. أما المرأة فوقفتْ ترقُبُه عابسةً. وإذ بها تسألُه بازدراءٍ وقرف:
ـ كيف تلتقط الشرائح من الأرض وقد تلوّثتْ؟
فأجابها بلهجة الحكيم وهو يلتقط شريحةً ويمسح عنها ما عَلِق بها من ذرّات الرمل:
ـ الأرض لا تلوِّث الطعام. ولكننا نحن الذين نلوِّثه بشجارنا!
وجثا على ركبتيه تحت الطاولة. وراح يتلفَّتُ ـ والطبقُ في يده ـ باحثاً عن شرائح البطاطا المتبقِّية.
وراءَ رِجْل الكرسيِّ عثر بشريحتين. ومن تحت الكنبة استخرج شريحةً. وفي الزاوية وجد أخرى. فَوَضَعها جميعاً في الطبق وهو يَعْجَبُ لاهثاً لتشتُّتها هذا التشتُّتَ البعيد. وأزاح حاملة الجرائد فلم يجد وراءها شيئاً. ثم وقع بصرُه على شريحةٍ صغيرةٍ تلتمع بالزيت عند قَدَمي المرأةِ الواقفة. فمدَّ يَدَه لالتقاطها. غيرَ أنّ المرأة انتبهتْ لحركتِه، فركلتِ الشريحة بعيداً عنه نكايةً وتشفِّياً. ولكنَّ الرجلَ وَثَبَ إلى طعامِه لا يردّه شيء. فما كان من المرأة إلاّ أن انقضَّتْ بيدها كالعُقاب على الشريحة تريد حرمانه إيّاها. فكاد حامد يصدم رأسَه برِجْل الطاولةِ الغليظة قبل أن يخطف الشريحة في الوقت المناسب. وارتطمتْ أصابعُ المرأة ـ المُسلَّحةُ بأظافرَ طويلةٍ حادّة ـ بالأرض. فانكسر أحد أظافرها وارتدَّتْ وهي تصرخ من الألم والغيظ. أما الرجل فَوَضَع الشريحة الشهيّة في طبقه ظافراً!
أَتمَّ حامد تجميع شرائح البطاطا، أو أنه جَمَّع منها ما يكفي حتى امتلأ الطبق في يده. فنهض قائماً وهو يمسح العرق عن جبينه في ارتياح. ثم وضع الطبق وسْطَ المائدةِ وجلس وهو يقول بسماحةٍ لزوجته الواقفة تعالج ظفرَها المكسور في تألُّمٍ وندمٍ:
ـ هلاّ جلستِ لنأكلَ معاً!
27 آذار 2004

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق